ظلمات فوقها ظلمات تحتها ظلمات

 


 

 



mohamed@badawi.de

عندما ترنو الشمس باكرة في ثوبها الذهبي وتتهادى منكسرة ذائبة صوب نخل الشمال فتداعبه بأشعتها الدافئة وتومئ إلى وريف نخلاته الباسقة بشموخها وكبريائها، شموخ تاريخ هذه البلاد العريقة وكبرياء حضاراتها الوارفة الظلال، يتآتى وقتئذ إلى الآذان من قِبليّ النواحي صوت محبب قريب من افئدتنا - غادرنا وكأنه قبيل سويعات – حاملاً إلى آذاننا نغمة يعرفها الكل: "يا بلدي يا حبوب" – ندرك حينئذ أن الحياة على ضفة نيله الخالد ما تزال على أحسن حال. فنحن أهل السودان شعب طيب رغم قسوة الدهر على حظنا العاثر، نرضى بالقليل في تقشف وقنوع ونعطي كل ما نملك عن رضى وايمان. صارت أحزاننا – كالأفراح – تُنسى في هذه الأيام؛ وصار مزلتنا – كالإكرام – يمحوها النسيان في سرادق القلوب. ما تفتأ موجة - من موجات الفقر والألم - أن تنداح فترجع حليمة إلى قديمها المأثور: نتابع الأحداث عن كثب ونمضغ الأحاديث دون لأي ونعاني مُرّ الأيام فنحمل أثقالها فوق كواهلنا ثم نمضى بخطوات ثقيلة متعثرة. نستعيذ من حِدتها بدعوة أمهاتنا وحبوباتنا الصابرات ("يا ربي تفتح أبواب الرزق لأولادي دنيا وأخرى وارزقهم من حيث لا يحتسبوا"). نخطو في تعثر نحو ليال العيش الطوال وننشد القرب والمحبة بيننا بالتلاقي وكأننا نتقي ضربات المجهول بالتماسك، ومخاوف التغيرات برنّات الشكوى الدائمة في موبايل الدهر، وهجمات اليأس العصيبة بالنكات الساخرة الأليمة. والمحرمات الكبرى بزفرات الاعتراف الحارة، وفظاعة المسئولية بتعذيب النفس وتجهم الجو الخانق بأحلام تواقّة لرشاش صلوات الاستغاثة. لم نكف لحظة عما كنَّا فيه وما نحن فيه والأيام تمضى في إثر الأيام ونحن نحترق ونتهالك ونخوض ظلمات فوقها ظلمات تحتها ظلمات. وهنا يحترق هو أيضا (الصحفي) فكيف يمكن أن نرد له بعض جمائله وتجشمه المشاق لأنه لساننا ويراعنا الناطق باسم الأمة ولا نرضى له أن يكبل ويوأد زيفا وجورا.
دعوني أسوق الحديث إليه وإليها في هذا المقال فالصحفي جدير والصحفية جديرة بأن ندلق في سيرتهما بعض قطرات من مداد النيل. فيا سادتي في الوقت الذي تنعم فيه الصحافة في العالم أجمع بمرتبة الشرف إذ أنها تحتفل بحريتها وتحتفي بشرفها يمثُل عشرات الصحفيين والصحفيات من أبناء الوطن أمام المحاكم التي لا تضمر في قوانينها على شيء إلا تأديبهم (شرعا) واخراصهم (تشريعا). ما أكثر اسمائهم، فكثرت وكُسِرت وتكاثرت كزريعة حلومر رمضان المشرئبة لهلال الشهر الحرّ البعيد المنال. نعم هم كثر فيصعب علينا أن نصطفي منهم أحدا أو نترك أخرى، فدعونا نستذكر الصحفي المجهول والصحفية المجهولة (كالجندي المجهول والجندية المجهولة). دعونا نبني لهما صرحا شامخا في قلوبنا يتحدث عن شجاعة وإباء لا تقدران بثمن. لقد أوصدت منابر الصحافة أبوابها دونهما، داخليا وخارجيا، فحتى (الراكوبة وسودانايل وسودانيز) غشتهم مليشيات النت فسكرت أبوابها في عهد العولمة. إنهم ينهضون بما نهض به (الأسد) وها هو الأسد، غاب قوسين أو أدنى من التهاوي والسقوط إلى القاع ومن ثمة الحساب وما أدراك ما الحساب، شأنه شأن (الخوارج أو المخرجون) من بلاد غشتها نسمات الربيع من المحيط إلى الخليج وها هم قد بُدِّلوا تبديلا. كل يوم نحن إما في تطيّر أو خيفة مما يحمله الغيب من ضير علينا. كل صبح يفصح عن مصادرة صحفية أو أخرى وإيصاد باب الرزق لأسرة أو أخرى، ولا أحد يقيس؟ كل ليل أعشى يسدل أستاره عن اعتقال أحد منهم أو إحداهنّ وكأنهم أتوا فاحشة ونكرانا كبيرا. يركلون دواياتهم، يمشون على أحبارهم ويكسرون ريشاتهم، بأي حقّ؟ ألأنهم لساننا الناطق؟ فالملايين من أهل السودان أعياها الحال فصارت دون لسان، ويضمر جسدها عن قلب أعياه الضرب. لقد نجحوا أن يسكتوا كل قلم يرقص في تمرّد عن صافرة الحكم فتأدبت الصحف وما أبغض الاستئداب في يأس الحال وما أشنى الخضوع في قنوط واستكانة. ولما استطاعوا أن يسكتوا أولئك الذين يبحثون فيكتشفون العجائب عن مكر منهم، يكتبون ويرفعون الأستار عن ظلم، وإذا نطقوا بالحق فيُسكَتون، فتبين أنياب الليث تبسما، وإذا رأيت أنيابه على تلك الهيئة فلا تحسبنّ أنه يبتسم! والله لا يَسكُتنّ عن قهر ولا يخرصنّ ألسنتهم عن فاقة. بيد أننا صرنا يا سادتي نموت كل يوم ونحيا كل يوم، تُقتلع جلودنا لتُكتوى بالنار وتُصلى السعير، تُعادُ الكرّة فترجع ألينا أرواحنا بعد زهقٍ لمّا تذوق من العذاب شرّه ومن اللظى أمرّه. فأرواحنا كأرواح الكلاب، فهي سبع: إن زهقت إحداها نبتت عنها أخرى. فلنحترق ونتهالك ونخوض ظلمات فوقها ظلمات تحتها ظلمات!!!

 

آراء