عبء ديون السودان .. تضارب السياسات والمصالح
تحليلات
بعد ثلاثة أعوام من إنفصال الجنوب لا تزال دولتي السودان وجنوب السودان، تُعانيان من مشكلة الديون الخارجية، خاصة السودان لتحمله العبء الأكبر. وقد فاقم من الأزمة عدم وفاء المجتمع الدولي بوعوده التي قطعها إبان مفاوضات نيفاشا 2005م بإعفائه من الديون في حال الوصول إلى صيغة لتحقيق السلام الشامل.
وما بين مطالب بإلغاء الديون بعد إلتزام السودان بتحقيق إتفاقية السلام والوصول إلى الاستفتاء الذي أدى إلى إنفصال الجنوب عام 2011م، وبين إتخاذ هذه الديون وسيلة للضغط على نظام الخرطوم لتحقيق السلام في دارفور ومنطقتي النيل الأزرق وجنوب كردفان، تستعر الصراعات بين البلدين من جهة، وتشتعل الخلافات بين السودان والمجتمع الدولي من جهة أخرى من أجل إعادة جدولة الديون.
بداية معضلة الديون:
كان السودان من ضمن الدول الأفريقية التي عجزت عن التوصل إلى أسواق رأس المال العالمية أوان استقلالها في خمسينيات القرن الماضي. ولم يكن لأسواق رأس المال الإقليمية من وجود حينها، فاعتمد مبكراً وكغيره من دول القارة على صندوق النقد الدولي والبنك الدولي في تنفيذ عمليات التنمية.
ومنذ سبعينيات القرن الماضي ومعظم المشروعات التي دُشنت بالديون، أخذت تتراكم بسبب الفوائد، وقد أثّر عدم السداد بشكل كبير على تدفق المشروعات الاستثمارية للتنمية بالسودان.
منذ بدايات العقد الأول من هذا القرن تشكّلت حملتان غربيتان، قامتا بحشد الجهود من أجل إسقاط الديون عن أفريقيا. الأولى هي حملة يوبيل 2000 العالمية والمكونة من منظمات المجتمع المدني، وعدد من وزراء المالية مثل وزير المالية البريطاني جوردون براون. أما الثانية فهي حملة جيمس بيكر وزير الخارجية الأمريكي الأسبق. وبالرغم مما قامت به الحملتان إلّا أنّ مجهوداتهما لم تنجح سوى في الحصول على وعود ألجآتهما إلى التنازل عن المدخل الإنساني والتركيز بدلاً من ذلك على الجانب القانوني في مواجهة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. ولكن أيّاً من الدول الأفريقية بما فيها السودان، لم تجروء على اللجوء إلى البنود التحكيمية التي تشتمل عليها اتفاقيات القروض والتي تسمح بالمساءلة في حال استغلال الدول الفقيرة وتوريطها في مزيد من الديون.
على إثر ذلك تولت المؤسستان الماليتان الدوليتان تحديد وتقييم وتمويل والإشراف على بعض المشاريع التي أدت فيما بعد إلى تراكم ديون السودان والدول الأفريقية بالتدريج. ومع كل تلك الإجراءات الباهظة التي تحملها السودان، إلّا أنّ أغلب المشاريع لم ترتق إلى حدود المسئولية بتحصيل العائدات لتسديد هذه الديون، وبدلاً من أن تساهم هذه المشروعات في التنمية، التزم السودان تجاهها بخدمة ديونه وتسديد فوائدها مما دعا إلى مزيد من الاقتراض وتفاقم حدة الفقر.
أما الخلل الجوهري في هذه العلاقة فيكمن في أنّ السودان وبقية الدول الأفريقية يقف اقتصادها في مواجهة الجهات الدائنة، ويتطلب ذلك الاستسلام للإغراءات المالية، لمواجهة أسعار فائدة أعلى لديونها. وهذا الأمر بالإضافة إلى أنّه ينطوي على مخاطر أخلاقية، فإنّه يضع في المحك مصداقية وجدارة هذه الدول الإئتمانية في موضع الامتحان.
وعود بإعفاء الديون:
شهدت الأعوام الأخيرة مساعٍ دولية حثيثة لمعالجة أزمة ديون السودان، وبدلاً من أن يكون انفصال الجنوب معيناً على حلها، كانت الأزمة أحد بنود قضاياه العالقة. منذ 2010م قام المبعوث الأمريكي إلى السودان إسكوت غرايشون بالتباحث مع وزارة المالية السودانية لإيجاد مقترحات يتم بها إعفاء السودان من ديونه الخارجية. وكان سعي غرايشون وقتها معقود بناصية الأمل التي فردتها الولايات المتحدة في شكل حزم حوافز لمعالجة هذه الديون، إلّا أنّ الآمال لم تسفر عن معالجة تُذكر.
تلى تلك المحاولة الاجتماع الدولي بالخرطوم لمناقشة ديون السودان عام 2011م بحضور ممثلين من أبرز دائنيه وهم البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ونادي باريس، وبمشاركة دول دائنة مثل الكويت والسعودية والصين والهند. كانت الدعوة لإعفاء السودان من الديون من أجل تخفيف الضغط عليه تقديراً للظروف السياسية التي يمر بها. ثم وصولاً إلى عام 2012م حيث أسفرت الاجتماعات التي أجراها وفد السودان مع البنك الدولي وصندوق النقد الدولي باليابان عن اتفاق السودان مع دولة جنوب السودان على الاتصال مع المجتمع الدولي لحثه على إعفاء الديون، وفي حال تعذر ذلك فإنّ الخيار الوحيد أمام الدولتين هو اقتسام الديون.
وكما لم تفلح الجهود الدولية في حلّ الأزمة، لم تنجح أيضاً تحركات الديبلوماسية السودانية خلال عام 2013م، حيث جاءت على رأس أولوياتها تحريك سفاراتها في أوروبا للعمل على حل قضية الديون قبل انقضاء الأجل المحدد.
وفي فبراير/ شباط من هذا العام 2014م وصلت بعثة من صندوق النقد الدولي، وفي جعبتها برنامج أعدته كواحد من متطلبات النظر في حل ديون السودان الخارجية، بناءً على طلب من الحكومة السودانية لحاجتها للاستفادة من مبادرات المؤسسة المالية الدولية.
وبالرغم من هذا التحرك إلّا أنّ هناك مواقف مناوئة داخل هذه المؤسسات المالية ترى أنّ إعفاء السودان من الديون، دون الإتفاق على إطار أفضل لتقديم المعونات له خاصة في ظل ظروف الحروب المستعرة في أكثر من جبهة، يُعتبر تحركاً مفتقراً إلى الحكمة لأنه يخدم الحكومة ولا يخدم الشعب. ويظهر هذا بجلاء خاصة في ظل عدم توقع أن يسدد السودان ديونه، بل سيساعده وضعه المستقبِل للمنح والإعانات من التمادي في تلقي المزيد من القروض الآجلة مما يفوق قدرته على السداد.
وهذا في رأي كثيرين هو ما حدا بالبنك الدولي أن يعلن مؤخراً في شهر مايو/ أيار من هذا العام بأنّ السودان غير مؤهل للاستدانة من صندوق النقد الدولي. فبالإضافة للمتأخرات عليه يبدو أنّه يأس من إصلاح حاله بإشارته في تقريره أنّ نصف سكان السودان تحت خط الفقر. ولم يكتفِ التقرير بذلك بل أعلن إغلاق صندوق دعم المانحين القومي للسودان رسمياً، بعد انتهاء فترة عمله التي استمرت منذ ما بعد اتفاقية السلام الشامل إلى ديسمبر 2013م وإنشاء صندوق انمائي جديد.
متى تُحلُّ أنشوطة الديون:
لم يكن بغريب ألّا تسفر هذه التحركات عن حل لأزمة الديون خاصة بعد الإحاطة بما يكبّل تلك التحركات. ولم يكن اقتراح الحلول يسري على أرض منبسطة ولكن واجهتها الكثير من العقبات، فقد ربطت بريطانيا تقديم مساعدات للحكومة السودانية بوقف الحرب في ولايتى النيل الازرق وجنوب كردفان، ولكنها في الوقت نفسه أعلنت عن تقديم مبلغ 4.8 مليون جنيه استرليني (6 ملايين دولار) لإغاثة نحو 315 ألف شخص في المناطق المتضررة.
وكما شكّلت العقوبات الأميركية على السودان، عائقاً كبيراً في حلحلة ديونه نسبة لاستنادها على تشريعات معقدة مرتبطة بالأوضاع الأمنية، فإنّ هناك عامل آخر هو أنّها عقوبات أحادية الجانب استطاعت التأثير على هيكل الاقتصاد السوداني، والأفدح أنّها تشكّل منظومة سياسية يصعب اختراقها.
هناك دول أخرى كانت على استعداد لتقديم إعفاء لديون السودان ولكن تمت مواجهتها بجدل كبير. وهو ما واجهه السودان عند إعلان هولندا العام الماضي قراراها بإعفاء ديونها على السودان البالغة 200 مليون دولار، فقد رأى المعارضون لهذا القرار أنّه يشجع نظام الخرطوم على انتظار إعفاءات مماثلة من دول ومؤسسات أخرى.
قفزت ديون السودان هذا العام إلى 45 مليار دولار وفقاً لأرقام صندوق النقد الدولي. وتراكم هذا الدين وبزيادته المضطردة وتشابكه مع الأجندة المفتوحة مع دولة الجنوب، وقف عائقاً أمام الاستفادة من المبادرات والمدخرات والتسهيلات الميسرة من الأسواق المالية الدولية لتنفيذ أجندة التنمية. كما أنّ هناك عامل الإعسار العالي الذي يشكّل خطورة إضافية في حل مشكلة سداد السودان لديونه.
يركز الخبراء الإقتصاديون على أنّ مبدأ الإعفاء من الديون له تطبيقات واضحة على الديون العامة، وهي حالة واحدة يصبح بفعلها الدائن والمدين في حال أفضل وهي الإلغاء الشامل للدين. ليس للفئتين فقط وإنما بالنسبة للمواطنين الذين تتعرض حياتهم للخطر بسبب الفقر والمرض وانتظار المحاولات اليائسة التي تبذلها الحكومات لتقليص الديون.
وهذا التركيز لا يخرج من الناحية الفلسفية، التي يستند فيها مبدأ الإعفاء من الديون على اعتقاد مفاده تحمل الدائن والمدين مسؤولية الدين بشكل مشترك باعتبارهما مشتركان بالأساس في المسؤولية والعجز عن سداد الديون، نسبة لتقديمهم أو تقبلهم القروض الرديئة في المقام الأول، والتي قد تحمل في طياتها الكثير من استغلال الوضع .
تشهد ديون السودان أزمة وجودية تعمل بوتيرة متسارعة على تآكل الإقتصاد السوداني. قد يكون السودان من أكثر الدول استحقاقاً لتخفيف عبء ديونه، ولكن عندما يجيء ترتيبه في ذيل نتائج مؤشرات أوضاع الفساد العالمي في التقارير الأخيرة، يتراجع هذا الإقرار بالإستحقاق إلى إدانة لأنّ تدهور مرتبة السودان، ترسل إشارة بأنّ أسباب المديونية الخارجية تعود إلى الفساد الذي يأخذ أشكالاً عديدة.
إنّ الوقت وحده كفيلٌ بأن ينبئنا ما إذا كانت هذه الخطة قد تصادف النجاح، أي أن نجاح السودان في سداد ديونه رغم افتقاره إلى السيولة، سوف يكون مشروطاً بالتقشف المالي الحقيقي والإصلاحات البنيوية ومعالجة الفساد والحصول على دعم مالي ضخم.
وما بين وعود إعفاء السودان من ديونه بالشروط المذكورة وبين تسليط سيف العقوبات هناك سببان محتملان لهذا التضارب بين التوقعات والنتائج. فإما أنّ الضرر الذي أحدثته هذه الديون على الإقتصاد السوداني أشد خطورة مما يعايشه غالبية المواطنين السودانيين، وإما أنّ الوعود الزائفة كعلاج للأزمة كانت أقلّ فعالية مما تصوره صناع القرار السياسي.
(عن الجزيرة نت)
moaney15@yahoo.com