عبد الله النور الجيلي.. الرحيل الموجع

 


 

 

من العاصمة القطرية الدوحة ، تلقيت صباح اليوم (الأول من نوفمبر ٢٠٢٣) بكثير من الحزن والأسى نبأ رحيل الأستاذ عبد الله النور الجيلي .

الفقيد مربي أجيال ، تخرج في معهد (بخت الرضا) أعرق مؤسسة لاعداد المعلمين عرفها تاريخ السودان، ولعب أدورا في نشر الوعي في مناطق النيل الأبيض) و(الجزيرة ) بالسودان ، وهو من المعلمين الأوائل و البارزين الذين ساهموا في النهضة التعليمية في دولة قطر .

رحيله فقد كبير لأسرته وزملائه وأصدقائه وأحبابه والجالية السودانية ولعارفي فضله من القطريين الذين تتلمذوا على يديه ونهلوا من علمه وفنه وابداعه ، إذ سجل اسمه وعطاءه في سجل الرواد الذين عملوا بجد واجتهاد وضمير حي في مجال التعليم في دولة قطر .

الراحل فنان تشكيلي ، روائي، شاعر، انسان بطبعه ودواخله ونبضه الجميل ، مرهف الاحساس ، كريم ، شجاع ،طيب القلب ومشحون بأنبل وأجمل قيم التواضع .

على الصعيد الشخصي ربطتني بالوالد الحبيب الاستاذ عبد الله علاقة محبة يصعب وصفها، وكان بيننا بحر من الود والمودة والعناق الانساني المتميز . رغم فارق السن ، وتجربته عميقة الجذور في عالم التعليم والابداع .

خلال سنوات عملي في الدوحة (أكثر من ٣٠ عاما). توثقت بيننا جسور المحبة والاحترام المتبادل ، و شكل نبض الكلمة قاسمًا مشتركا ، وقد أهداني في تاريخ قديم بخط يده الجميل - وهو خطاط بارع- اوبريت تاريخي كتبه بعنوان ( من صوت الوطن).

أبدع في الأوبريت بتسجيل وقائع بطولات سودانية سجلها بحروف من نور قادة الثورة المهدية الذين انتصروا للسودان والسودانيين وسجلوا بحروف من نور اروع الملاحم والبطولات في تاريخ السودان والمنطقة والعالم آنذاك ، وهذا ما شهد به أعداء قبل الأصدقاء.

نشرت الأوبريت كاملا في حلقات في صحيفة (العرب ) القطرية في مرحلتها الأولى ،وكان مؤسسها و صاحبها آنذاك عميد الصحافة القطرية الراحل الأستاذ عبد الله حسين نعمه ورئيس تحريرها ابنه الأستاذ خالد عبد الله نعمة, وقد لعبت هذه الصحيفة دورا تاريخيا وحيويا في دعم تطلعات السودانيين للحرية والعدالة ، في توقيت مهم وصعب، وتلك الفترة تستحق ان أوثق لها. في وقت لاحق بعون الله.

كان راحلنا العزيز الحبيب الأحب عبد الله النور الجيلي حتى ساعة رحيله متفاعلا مع قضايا شعب السودان وهمومه وتطلعاته من أجل العيش الكريم .

بشخصيته الفذة وروحه الجميلة ونبض الانصاف الكامن في أعماقه كان مبادرا بتسجيل وقائع انجازات أبطال سودانيين قبضوا على الجمر ، في سبيل استقلال و عزة وكرامة السودان وشعبه ، من خلال الكلمة المبدعة .

بعد مغادرتي الدوحة الى لندن في العام ٢٠١٥ حرص الراحل على تعزيز جسور التواصل ، اذ كان يرسل سلامه وتحياته، ولعب ابنه المقيم في بريطانيا الأستاذ السموأل دورا في هذا التواصل بنقل رسائل الوالد ثم نقل لي كتاب أوبريت (من صوت الوطن ) بعد طباعته، وكان الراحل ارسل قبل ارسال الكتاب هدية هي زي سوداني وانا مقيم في بريطانيا ، واعتبرها من أجمل الهدايا لأنها تحمل دلالات مهمة.

في العام ٢٠١٩ سعدت بتلقي دعوة كريمة من شخصية قطرية رفيعة المستوى ، لزيارة قطر وكانت هي الأولى بعد المغادرة ، وشكلت زيارة الدوحة فرصة،اذ حرصت رغم قصر فترة الزيارة على زيارة الراحل الصديق في بيته في ١٦ نوفمبر ٢٠١٩ .

رافقني مشكورا الاخ العزيز المهندس جمال موسى الزين ، هناك سعدت بلقائه، وجدته كما عرفته لم يزده تعاقب السنين الا مزيدا من التواضع والكرم والتواضع والمحبة النابعة من دفء الأعماق، فكان عناقا حارا، وحيويا .

عدت الى لندن ، وبعدما علم الراحل باصابتي بمرض السرطان ، والحمد لله و - حماكم الله وشفى كل المرضى-
فقد أرسل تسجيلا صوتيا سكب فيه عصارة محبته وانسانيته وعطفه وروائع وجدانه الزاخر بالحنين والدعاء والايمان العميق برب السموات والأرض وما بينهما .

قال بصوته الدافيء ،وكنت استمع اليه وأعرف ان يتكلم وتنساب الدموع من عينيه ( السلام عليكم ياولدي محمد المكي، سلامتك يازول، أجر وحسنة ، كلمني السموأل، سلامتك يا رجل، الف أجر وحسنة، اصبر ، أصبر ، نشكر الله الذي لا يحمد على مكروه سواه، ان شاء الله نشوفك،الله يخليك يا محمد، الله يسلمك، الله يبارك فيك، ماقصرتوا، كله خير يا ولدي، سلم على الأسرة كلها واولادنا والأهل ،الله يخليك، الله يحفظك ).

لم يستطع ان يواصل الكلام في التسجيل الصوتي …….. بسبب قوة تدفق مشاعره وعواطفه ومحبته التي اعتز بها وستبقى قوة دفع لتمتين علاقتي بأسرته الكريمة أكثر من أي وقت مضى لو كان في العمر بقية .

هذه حروف أكتبها بحزن وألم شديد في وداع الوالد والأخ والصديق والحبيب والمبدع الأستاذ عبد الله النور الجيلي، فبرحيله فقد سودانيو قطر رجلا من أبرز رجال التعليم وعلما من أعلام الوطنية التي تسمو فوق (الأنا ) .

السودانيون،وخصوصا القابضون على أنفاس الناس، محتاجون في زمن الحرب والبؤس والتشرد والنزوح وانتشار الحقد، والكراهية وأمراضها،
للتعلم من قيم ومباديء آمن بها عبد الله النور الجيلي وجسدها بالقول والعمل،وفي صدارتها نشر المحبة بين الناس لا سفك الدماء .

نسأل الله ان يتغمد الفقيد،ابن (الملاحة ) البار بواسع رحمته ويسكنه فسيح جناته مع الصديقين والشهداء بقدر ما قدم لوطنه السودان وقطر من اسهامات وأدوار تعليمية وتربوية وابداعية .

أحر التعازي الى أبنائه النور والفياض والسموأل ومحمد وبناته وأحفاده ،وكل أفراد الأسرة الكريمة والأهل في الدوحة والسودان .
(إنا لله وإنا اليه راجعون)
لندن ١-١١-٢٠٢٣

modalmakki@hotmail.com

 

آراء