عبد الله حمدنا الله ملامح مشروع ثقافي سوداني
د. عبد اللطيف البوني
22 January, 2023
22 January, 2023
بسم الله الرحمن الرحيم
عبد الله حمدنا الله (1944 – 2022 )
(ملامح مشروع ثقافي سوداني )
مدخل :-
البروفسير عبد الله حمدنا الله (1948-2022 ) كان مثقفاً موسوعياً وأكاديمياً متمكنناً وباحثاً متفرداً في مناهجه وفي أدواته وفي موضوعاته، كان متجاوزاً لكافة أشكال الانتماءات الأيدولوجية والحزبية والمذهبية والجهوية وتداخلت عنده الحقول المعرفية من لغة وأدب وتاريخ واجتماع وسياسة فقد كان كما يقول العرب (نسيج وحده) أو كما يقول الفرنجة (a man of his own self) أي (رجل نفسه) لو صحت الترجمة وهو في تفرده لم يكن قاصياً ولم يكن نشازاً اذ نأى بمنتوجه عن غيره من النخبة المنتجة للفكر ليضيف إليها إضافة نوعية فقد كان فيما يصدر عنه من عطاء فكري أشبه بالصولو (solo ) في المعزوفة الموسيقية .
لإثبات كل هذا الذي تقدم تقوم فكرة هذة الورقة على أن للبروف عبد الله مشروع ثقافي خاص به جوهره ومظهره يقوم على أن للسودان هوية ثقافية خاصة به لها جذورها ومظهرها وتفاعلاتها واستمراريتها وهذة الثقافة السودانية وإن اشتركت مع آخرين في عروبتها وأفريقيتها الا أنها تميّزت عنهم في مظهرها وفي مخبرها. لم يقل حمدنا الله في يوم من الأيام أنه صاحب مشروع ثقافي خاص ولم يقل أنه قد أتى بما لم يأتي به الأوائل لابل لم يقل أنه قد أضاف جديداً ولكنه قال كلمته في الثقافة السودانية ومضى إلى ربه راضياً مرضياً متسقاً مع نفسه دون أي ادعاء عريض أو زهواً بالنفس، والكلمة عندما يطلقها قائلها في الهواء الطلق تصبح ملكاً عاماً يحق للآخر قراءتها قراءة ثانية وثالثة واستخلاص ما يراه منها كما فعل حمدنا الله مع إرث الاخرين الفكري ولاثبات دعوانا هنا بأن للبروف حمدنا الله مشروع ثقافي خاص (لنضع خطاً تحت كلمة مشروع هذه ) سوف تبدأ الورقة بإيراد أهم المواضيع التي أثارها أي تناولها إعلاميا ففرضته على الساحة الثقافية السودانية مع نجومية مشهودة .
أم درمان مدينة مصنوعة :--
لم يحجز عبد الله حمدنا الله مقعده ضمن زمرة المثقفين السودانيين تدريجياً فهو لم يظهر في الوسائط الاعلامية أثناء أو بعد التخرج من الجامعة مباشرة إنما ظهربعد أن تأهل تأهيلاً أكاديمياً عالياً أي ظهر اسمه وكانت تسبقه دال الدكتوراة التي تعطي (حصانة فكرية في مجتمع نامي) ولم يظهر بمادة مبحوثة في رسالته للدكتوراه ( أثر الحركات الدينية الإسلامية في تطور الشعر في السودان) أو رسالته للماجستير(المقال الأدبي ظهوره وتطوره في الصحافة السودانية) بل ظهر بفكرة اجتماعية آخذاً دعائمها من الشعر ومن المقال الصحفي، وصف أم درمان بأنها مدينة مصنوعة وأم درمان كانت وما زالت في نظر الكثيرين أيقونة من أيقونات الثقافة السودانية وأي تشكيك في أصالتها كافٍ لجذب الانتباه وقد كان. لم يقدم حمدنا الله بحثاً متكاملاً في هذا الموضوع إنما ظل منافحاً عن فكرته مورداً المزيد من الشواهد ومخففا من أثر الصدمة ومرتفعا بمستوى النقاش كلما انتقده ناقد وخلاصة الفكرة تتمحورفي أن أم درمان ليست بمدنية مبدعة ولا بوتقة ثقافية ولكنها مدينة جليلة محبوبة عند أهلها ومجتمعها مجتمع محافظ وأموي. شكّلت بعض جوانب الثقافة السودانية فمنها قادة الوطنية والأحزاب السياسية وأكبر الأندية الرياضية ومنها انطلقت الأغاني المسموعة في كل السودان وإن غناها فنانون وفدوا إلى أم درمان من أقاليم السودان الأخرى (دكتور خالد البلولة :رحل هادم جدار المسكوت عنه في الثقافة السودانية)
أغنية الحقيبة :--
يرى حمدنا الله أن الذي أثار ثائرة محبي أم درمان عليه كلمة مصنوعة وأرجع هذة الكلمة للصدفة حيث أبرزها الصحفي اللامع المرحوم عبد المنعم قطبي (لزوم الإثارة الصحفية ) بينما حمدنا الله كان يريد مدينة مقصودة ولكن نزولاً عند قاعدة خطأ شائع خير من صحيح مهجور، فقد قبل كلمة مصنوعة التي وردت عفو الخاطر ودافع عن فكرة المدينة المقصودة بأنها ليست بدعاً من المدن فعطبرة صنعتها السكة حديد وبورتسودان أنشأتها الميناء حتى المدنية المنورة أنشأتها الرسالة المحمدية . وقد استند حمدنا الله على أغنية الحقيبة التي نشأت في أم درمان وانتشرت منها لإثبات عدم أصالة أم درمان وقد وصفها بأنها أغنية متكلفة حسية المقاصد مكثرة في المحسنات البديعية كثيرة الصنعة والتعقيد، تعبر عن مجتمع محروم مكبوت ومأزوم، وأنها لاتعبر عن الوجدان السوداني وأن الأغنية السودانية الحقيقية هي تلك الموجودة في الريف السوداني وأنها أي أغنية الحقيبة فرضت فرضاً على الذائقة السودانية لأن الوسائط الإعلامية الرئيسية من إذاعة وتلفزيون فيما بعد موجودتان في أم درمان ويديرهما ابناء أم درمان . تأسيساً على اهتمامه بأغنية الحقيبة لإثبات دعواه حول أم درمان تطرق حمدنا الله كثيراً بالنقد والتحليل لمجمل الأغنية السودانية سواء كانت أغنية (ربوع السودان) أو الأغنية الحديثة أو حتى تلك التي تأثرت بالأغنية الوافدة من الخارج العربي أو الاوربي .
أغاني البنات :-
وهذة هي الأخرى من المواضيع التي انفرد بها حمدنا الله وكان للصدفة دور فيها إذ طلب منه طلاب سودانيون في جامعة مصرية أن يلقي عليهم محاضرة في أغنية البنات فاعتذر بأنه ليس ملم بهذا الموضوع فاحضروا له عدد من الأشرطة فعكف عليها وأخرج منها موضوعاً اجتماعياً تاريخياً سارت به الركبان بدليل أنه قد قدمها في أكثر من عشر محاضرات في منابر مختلفة في فترة وجيزة وقد فتح حمدنا الله في عقله نافذة لهذا الموضوع وأثراه بالكثير من الشواهد والملاحظات والقراءات المتعددة . هنا لابد لنا أن نتوقف عند طريقة (ما يطلبه المستعمون) التي جعلت أولئك النفر من الطلاب يطلب من حمدنا الله أن يتحدث في موضوع لم يظهر له اهتمام به من قبل، لاشك أن هؤلاء الطلاب قد لحظوا ومن المحاضرات التي كان يلقيها عليهم أنه لايستنكف من إيراد الشواهد التي تثري فكرته حتى ولو كانت تلك الشواهد يعتبرها الآخرون من مفردات أسفل المدينة ودون شك أن كلامه عن أغنية الحقيبة والأغنية السودانية بصفة عامة قد شجعهم على ذلك، فعند حمدنا الله لايوجد أدب محتشم وأدب سافر إنما كل أدب في (موضعه جميل) تأسيً بقول الفيتوري (ليست هناك كلمة هابطة أو كلمة صاعدة فكل كلمة في موضعها جميلة) . لقد فرّق حمدنا الله بين أغاني البنات المدينية والريفية فأثبت أن للمرأة الريفية أغنية معبرة عن واقعها الاجتماعي بينما أغنية المرأة المدنينية تعبر عن حالتها النفسية وفي الحالتين كانت التطورت الاقتصادية والاجتماعية منعكسة في أغنية البنات خاصة في المجتمع الحديث حيث تعج بذكرالفئات المرفهة كالجلابة ورجال الخدمة المدنية (الدكاترة والمعلمين) وضباط الجيش ثم المغتربين ثم الدهابة ولم يتحرج حمدنا الله من الاستعانة بمنهج التحليل الطبقي وهو يغوص في أغاني البنات دون أن يضعه أساساً للبناء عليه .
فوز :-
فوز اسم لامرأة أم درمانية وردت كثيراً عند الذين اهتموا بالجانب الاجتماعي في نشاة الحركة الوطنية السودانية وتطورها فطفق حمدنا الله يتقصى في شخصية فوز من الذين عاصروها فوصل إلى خلاصة أن فوز هذه اسم مستعار من التاريخ العباسي يشير للنساء اللائي اتخذن من دورهن ملاذاً يجتمع فيها الرجال المشاهير والبارزين لمناقشة قضايا سياسية وفكرية وأدبية مع التزجيه والترفيه والتحلل من الضوابط الاجتماعية الموجودة، أي أمكنة تنطلق فيها الأفكار وهوى الأنفس قد كان هناك عدة فوزات في عدد من أحياء العاصمة المثلثة ولكن كانت أشهرهن فوز الموردة واسمها الحقيقي الشول بت حلوة وهناك أخرى اسمها الأصلي مبروكة ووصل حمدنا إلى خلاصة أن فوز الموردة هذة لم تكن امرأة عادية ولكنها لم تكن مثقفة مثل الأديبة المصرية مي زيادة كما ذكر حسن الجزولي في كتابه (نور الشقائق) الذي كتب مقدمته البروف حمدنا الله وفي نفس الوقت لم تكن فوز الموردة صاحبة خمارة بلدية يرتادها غمار الناس كما أشاع البعض، إنما كان منزلها ملتقى كبار تطرح فيه قضايا سياسية وفكرية مع دوران الكؤوس، وإن رواد الحركة الوطنية السودانية وكانوا متباينين في سلوكهم الشخصي بعضهم ملتزم بالآداب والتقاليد العامة طوال يومه وبعضهم يطلق لنفسه هواها في أوقاته الخاصة، ومن هؤلاء من يجتمعون في ديوان فوز الموردة ويناقشون كافة أوضاع البلاد ويتسامرون ويسهرون ومنهم خرجت نضالات سياسية ورؤى فكرية وأشعار وطنية وأشعار عاطفية لها تأثيرها الكبير، ففوز المورة عند حمدنا الله لم تكن امرأة مبتذلة متهتكة ولم تكن ملاكاً سامياً ولم تكن مثقفة ضليعة إنما كانت امرأة جميلة متحررة جريئة ذواقة للأدب قدمت خدمة غير مباشرة لحركة الإبداع السوداني ويكفى أن خليل فرح كان من رواد دارها وكانت ملهمة له حافظة لأشعاره وخليل عند حمدنا الله ليس من ربقة شعراء أو مغنيي الحقيبة رغم معاصرته لهم فقد كان متفرداً ومتقدماً عليهم موضوعياً وفنيأ.
النسب :-
لدى البروف حمدنا الله اهتماماً كبيراً بالنسب والأنساب الأمر الذي جعله على معرفة عميقة بالتركيبة القبلية في السودان بأجزائه المتعددة؛ السودان الشرقي والسوداني الغربي؛ والسودان النيلي وخاصة هذا الأخير ومدخله للحديث عن الأنساب ليس مدخلاً شوفونياً ولاتمايزياً، بل مدخلاً تدامجياً وهو من الذين لايرون وجود نقاء قبلي ولكنه يقبل الادعاء القبلي فالناس عنده مؤتمنون على أنسابهم وهو يجرد هذا الانتماء من التفاخر وتحقير الآخر ودائماً يضرب المثل بنفسه حيث يصر على أنه رفاعي عبدلابي قواسمي أماً وأباً ولكن عندما يفصل في أصول والده وأصول والدته يثبت لك أن به دماء شايقية ومحسية وبديرية دهمشية وشكرية وجعلية وأن أحد أجداده استوطن في تشاد فأصبح له أقارب رزيقات وزغاوة وفور، وكعادته لم يتخلَ عن أدواته التحليلية المرتكزة على الإبداع في دراسته للقبلية فهاهو يتحدث عن المدائح النبوية قائلاً : إن مدائح الجعليين هي أساس الأشعار الشعبية التي نبعت منها أشعار أغنية الحقيبة وإن مدائح الجعليين هي الأقدم والأقيم وذلك خلافاً لمدائح الشايقية فهي الأطعم ولكنها أميل إلى السطحية، وقد أيده في ذلك الطيب صالح مستشهداً بحاج الماحي كممثل للشايقية ، وود أبشريعة كممثل للجعليين (محمد الشيخ حسين : آخر سطر لعبد الله حمدنا الله نهاية عصر المثقفين الرواد). أما تأسيساً على المقال الأدبي فقد اجتر حمدنا الله مقولة مدرسة الرباطاب التاريخية مشيراً بذلك لكتاب حياتي لبابكر بدري ومذكرات يوسف بدري وكتاب قطار العمرلمحمد خير البدوي وكلها تدخل في باب السيرة الذاتية ولكنها تفردت عن غيرها بأنها كانت تنضح بالصراحة والجرأة والوضوح وأباحت بكل المسكوت عنه . (خالد موسى دفع الله : سياحة الأشباه والنظائر في عقل البروفسير عبد الله حمدنا الله ) وكتب ذات مرة معلقاً على طرائف النوبيين قائلاً: إن النوبيين لهم السنة تقاس بالفراسخ لا بالأمتاروالكيلومترات إذ لهم دعاوٍ عراض في احتكار الإحسان، بحيث يجردون الآخرين منه، من شاكلة إن من عندهم نبي عموم السودان؛ ومعلم عموم السودان؛ وفنان عموم السودان. ( مصطفى عبد العزيز البطل :غرباً باتجاه الشرق صحيفة الأحداث (15 أبريل 2009 )
أغاني الحماسة :-
أولى حمدنا الله اهتماماً كبيراً بأغاني الحماسة وأغنية وسط السودان بصورة عامة والجزيرة بصورة خاصة فكتب عن كثير من الشاعرات اللائي ظهرن في بداية القرن العشرين واللائي يندرج شعرهن في باب المقاومة الأولية للمستعمر (primary resistance) أي تلك التي سبقت الحركة الوطنية في رفضها للمستعمر فتناول قصائد رقية بنت إمام شقيقة عبد القادر ودحبوبة (بتجيد اللطام أسد الكزازة الضام \هزيت البلد من اليمن للشام \سيفك للفقر قلام) وهي من منطقة الحلاويين وبنات بابكر ود ضحوي زينب والنوَّر (بتشديد الواو) وعشة من قرية أم مغد (الجنزير في النجوم زي الهيكل المنظوم) و(أنا ليهم بقول كلام \ دخلوها وصقيرها حام) و(فارس الحديد إن حمى) والمغني بابا الذي غنى (فوق النعيم ود حمد) صاحب القدح الشهير. وكان هناك شاعر حلمنتيش شعبي اسمه حسين ود بابكر واشتهر بحسين كرشة فحمدنا الله يرى أغنية وسط السودان ليست هي أغنية أم درمان وكان دائم الاشادة بالفنان خلف الله حمد الذي نقل ذلك التراث إذ قدمه ملحناً لكل السودان وبادى محمد الطيب قبل أن تجرفه (حقيبة الفن) فيسهم بقدرته العالية على التطريب في فرضها على الذائقة السودانية .
الأثر المصري :-
دراسة الأثر المصري على النخبة السودانية من المواضيع التي تناولها حمدنا الله كثيراً وقد أثبت أن الحركة الوطنية نشأت متأثرة بمصر ولم تنبع من كلية غردون التذكارية وأن أول تجلياتها كانت في جمعية الاتحاد السوداني وليس جمعية اللواء الأبيض فعنده أن محمود القباني هو أول من قال بالوطنية السودانية وقد تأثر القباني تأثيراً مباشراً برفاعة رافع الطهطاوي الذي عمل بالمدرسة التي أنشأها الأتراك في الخرطوم، وأن المتعلمين السودانيين تعاطوا الكتابة في الصحافة المصرية قبل ظهورأول صحيفة في السودان وأن الصحف المصرية في مطلع القرن العشرين كانت كثيرة الاهتمام بالشأن السوداني فمثلا ما كتب فيها عن ثورة ودحبوبة 1908 لامثيل له في أي وثائق أخرى، وأن أول صحيفة سودانية ظهرت في مصر وعندما انتقلت صناعة الصحف إلى السودان كان صحفي السودان الأول فيها حسين شريف وكانت تلك الصحيفة موالية للمستعمر البريطاني مبررة لوجوده وكانت بدعم من السيدين عبد الرحمن المهدي وعلي الميرغني وهي مناوئة للحركة الوطنية السودانية المتأثرة بمصر .
في تشاد :-
أمضى عبد الله حمدنا الله سنوات من عمره في أنجمينا حيث عمل بجامعة الملك فيصل هناك، فحمل معه أدوات بحثه ومنهجه (الشعر والمقال الأدبي) إلى هناك فخرج بعلم قيم ومفيد فيما يتعلق بانتشار اللغة العربية هناك ووصل إلى خلاصة من خلاصاته الصادمة (تشاد أكثر عروبة من السودان) وقال بتشابه القوالب التعبيرية الأدبية الشعرية والنثرية في طول بلاد السودان الكبرى التي تمتد بين خطى عرض 14 وخط عرض 10 شمال خط الاستواء، أي من نواكشوط إلى جيبوتي وقد وضع منهجاً للأدب التشادي المكتوب باللغة العربية الفصحى شعراً ونثراً ودرسه لطلابة في جامعة الملك فيصل. (خالد محمد فرح : عبد الله حمدنا الله : رحابة الفكر وأريحية الوجدان ) لم يكن حمدنا الله كثير الحديث عما وصل اليه من معارف في المجتمع التشادي في الوسائط الإعلامية السودانية اللهم إلا في إطار التداخل الثقافي السائد في بلاد السودان الكبرى، ولكن طلابه ومثقفوا تشاد العروبيون المستعربون قد وقفوا كثيراًعلى ما استقاه في تشاد من معلومات عبر الملاحظة والدراسة، وعلى حسب أحد تلاميذه فإن حمدنا الله قد كان هناك شيخاً أكاديمياً له أتباع وحواريين (حيران) وأن تأثيره ونظرياته حول الهوية الثقافية التشادية وأثر العروبة فيها سيظل إرثاً متداولاً بين تلاميذه على مدى الأجيال وسيكون مادة جاذبة للدارسين في المستقبل .
عوداً على بدء :-
هذه القضايا وإن شئت قل المواضيع المذكورة أعلاه خاصة الستة الأول منها هي التي اهتم البروف حمدنا الله بمعالجتها وكان كثير التناول لها كتابة وبصورة أكثر حديثاً من خلال الوسائط الإعلامية من إذاعة وتلفزيون وفي مقابلات صحفية وفي الندوات العامة، وكلها عناصر من الثقافة السودانية لم يتم التطرق لها من قبل بالمنهجية التي اتبعها حمدنا الله، فهى تضيف إضافة كمية ونوعية لمجرى الثقافة السودانية العام والسائد ولن نبعد النجعة إذا قلنا أنها شكلت منظور خاص لحمدنا الله في الثقافة السودانية فهو يراها أي الثقافة السودانية حقيقة وجودية أي ملموسة ومتميزة بعبارة ثالثة لها هوية تجعلها مختلفة عن الآخر وليست امتداداً لأي ثقافة أخرى وأنها ليست جامدة وهي في حالة تشكل وتفاعل مستمر وليست مغلقة بل متأثرة بغيرها ومتأثرة بعصرها ومؤثرة في غيرها . يتفق مع كثيرين في أن جذر الثقافة السودانية عربي إسلامي ولكن هذا الجذر تسودن وأصبح مختلفا عن غيره وأن الثقافة السودانية ليست مدينية، أي لم تبلورها أم درمان أوغيرها من المدن، إنما جماع لمنتوج كل البيئات السودانية، وأنها ليست ثقافة نخبة متعلمة بل كونتها كافة الفئات الاجتماعية وأن الإبداع من شعر ونثر خير كشاف لهذة الثقافة عليه لن نغالي إذا قلنا أن حمدنا الله يقترب ويتداخل مع مدرسة الغابة والصحراء الأدبية (محمد عبد الحى ومحمد المكي إبراهيم والنورعثمان أبكر) خاصة بعد تجربته التشادية ويقترب ويتداخل مع المنظور السوداناوي (أحمد الطيب زين العابدين ونور الدين ساتي) فالجامع بين مشروع حمدنا الله والمدرستين هو إعطاء السودان هوية ثقافية خاصة به ومن هنا نبع مصطلح السوداناوية فهو يشير إلى الحالة (attitude) بينما مفردة سودانية تشير للجنسية التي يمكن أن يكتسبها أي وافد ولكن سوداناويته تختلف عن المدرستين بإعلائه من شأن البعد العربي والإسلامي علماً أن حمدنا الله لم يستخدم مصطلح سوداناوية من ناحية أدبية أما الناحية السياسية فيمكننا أن نستبط أنه يقترب من (السودانيزم sudanism) التي ذكرها قرنق ذات مرة خطفاً عندما قال (دعونا أن نكون سودانيين فقط let us be Sudanese only) بيد أن سودانيزم حمدنا الله محمّلة بالأثر العربي الإسلامي المتسودن .
دعائم مشروع حمدنا الله الثقافي :-
من الركائز الهامة لمشروع حمدنا الله الثقافي أنه أعلى من شأن المصادر غير التقليدية في الأعراف الأكاديمية إذ استفاد كثيراً من المنقولات الشفاهية في المواضيع الثقافية التي أثارها ولعل هذا ما دعت اليه اليونسكو مؤخراً إذ طالبت المؤرخين والباحثين الاجتماعيين بإعطاء المنقولات الشفاهية (oral traditions) نفس الاهتمام الذي يعطى للوثيقة المكتوبة وطورت طرق التحقق لتلك المنقولات فحمدنا الله بالاضافة لأنه قاري نهم وتشهد بذلك المكتبة الضخمة الخاصة به له، ملكة فطرية غير عادية في حسن الاستماع والحفظ والقدرة على الاسترجاع وقلة النسيان فأصبح مخزونه من المعلومات الشفاهية كل يوم في ازدياد وأعطاه التأهيل الأكاديمي القدرة على الترتيب الذهني والاستقراء والاستنباط فكانت تلك الحصيلة من المواضيع التي تطرق اليها .
أولى حمدنا الله اهتماماً خاصاً بالصحافة السيّارة وأعلى من شأنها كمصدر هام من مصادر البحث الأكاديمي، وظل متابعاً يومياً لها فإن كان تخصصه الأكاديمي فرض عليه الرجوع للأرشيف الصحفي المصري والسوداني، إلا أن مشروعه الثقافي الذي تواصل به مع الآخرين فرض عليه المتابعة اللصيقة واليومية لتلك الصحف . ويعتبر حمدنا الصحافة وثيقة صادقة لأنها تدون الحدث ساعة وقوعه وأن لها تاثير كبير في مجريات الأحداث وحذر كثيراً من الاستخفاف بها، وكان كثيراً ما يحذر الصحفيين من التهوين من شأن رسالتهم ويطالبهم بالتحلي بدور المربي والمعلم قائلا ما تكتبونه اليوم هو وثيقة الغد وقريب من اهتمامه بالصحافة كان اهتمامه بالراديو والتلفزيون وكان مقدراً لخطورتهما كأدوات بث للثقافة فكان يعتبرهما صحافة مسموعة ومشاهدة على التوالي وطبق اهتمامه بالصحافة بأنواعها الثلاث المقرؤة والمسموعة والمشاهدة على نفسه إذ أخذ منها وأعطاها الكثير، وما كان لمشروعه الثقافي أن يظهر للعامة لولا هذه الصحافة .
كان حمدنا الله كثير الترويج للكتب التي تناولت تاريخ السودان الاجتماعي الوسيط منها، ككتاب طبقات ود ضيف الله ومخطوطة كاتب الشونة اللتين حققهما البروفسير يوسف فضل وكان يعتبر أي منهما (كتاب عمدة) وأولى اهتماما أكثر بتلك التي تناولت التاريخ الاجتماعي الحديث مثل نفثات اليراع لمحمد عبد الرحيم وملامح من المجتمع السوداني لحسن نجيلة وموت دنيا لمحمد أحمد محجوب وعبد الحليم محمد وكفاح جيل لأحمد خير و أعراس ومآتم للأمين علي مدني كما أولى اهتماما كبيراً بكتب السير الذاتية والسير الغيرية واعتبرها مصدراً أولياً من مصادر المعلومات وكان مهتماً بإبراز إسهامات شخصيات سودانية طالها النسيان كوصفه لمحمود قباني بأنه مفكر السودان الأول وحسين شريف بأنه صحفي السودان الأول ومحمد عبد الرحيم بأنه مؤرخ السودان الأول وحمزة الملك طمبل بأنه ناقد السودان الأول .
كان حمدنا الله في اهتماهه وانتاجه الفكري متجاوزاً للتأطير الأكاديمي فإن كان تخصصه الأكاديمي (الرسمي) في اللغة العربية وآدابها إلا أنه وسعه بحيث تداخل مع علم التاريخ (تاريخ الصحافة السودانية) وعلم الاجتماع بشقية الانثروبولجي (لانساب ) والسوسيولجي (الأغنية السودانية ) وعلم السياسة (جذور الحركة الوطنية السودانية) والاجتماع السياسي (أم درمان مدينة مصنوعة ) وكل هذه الحقول الأكاديمية قد تجدها في موضوع واحد لحمدنا الله .
إنه كان متجاوزاً للإنتماء الأيدولوجي فرغم إنتمائه المبكر لحركة الاخوان المسلمين ومن المؤكد أن لتلك الحركة تاثيرها على تكوينه الفكري الا أن منتوجه الفكري والثقافي لم يصب في أدبيات تلك الحركة لا بل صدرت منه رؤى قد تكون مغايرة لرؤيتها فقال عن الاستاذ محمود محمد طه بانه لم يخرج من التصوف السوداني فيما صدر عنه من صلاة أصالة والإنسان الكامل فكلها موجودة في كتاب الطبقات بيد أن الناس استبشعوا ما قاله عندما لجأ لتبرير ذلك بالتصوف الفلسفي كقوله سقوط الصلاة ذات الحركات عنه وقال عن صديقه الاستاذ محمد إبراهيم نقد أنه كان عميق الإيمان ومتدين تديناً قائماً على الجوهر وليس شكلانية المظهر (خالد موسى دفع الله مصدر سابق) كان حمدناالله يدعو كثيراً لتثقيف السياسة عوضاً عن تسييس الثقافة ويرى أن هناك خللاً كبيراً في طغيان السياسي على الثقافي.
كان حمدنا الله متجاوزاً لثنائية الغردونيين (خريجو كلية غردون ) والمعهديين (خريجو معهد أم درمان العلمي) وان كان من المعهديين في تكوينه الأكاديمي (الرسمي) من معهد التكينة المتوسط الي معهد أم درمان الثانوي ثم الجامعة الاسلامية ثم الأزهر الشريف الا أن اطلاعه الخاص ومنذ نعومة أظافرة وربما انتمائه السياسي ثم التحاقه بالجامعة ساعة تحديث كامل الباقر لها حيث استقطب الدعم المادي واستقدم به أبرز علماء العالم الاسلامي المحدثين وجعل لها مواسم ثقافية غير تقليدية (عبد الله أبوعلامة : في رحاب البروف : مشاهد وشواهد :3 ) ودراسته العليا في مصر زودته بمكون ثقافي خاص جعلته يقتحم المجال الاجتماعي والفضاء الثقافي العام دون أي تهيب أو إحساس بأي غربة منه أو من المتلقي لمنتوجه الفكري والثقافي ليثبت أن وثائق الغازيتة المصرية لاتقل أهمية عن وثائق درم وهذة الأخيرة كانت محجة الغردونيين .
من أهم دعائم مشروع حمدنا الله الثقافي إخلاصه له وإهتمامه بالمواضيع التي تثريه فكان في مقدوره أن يكرس منتوجه الفكري في المواضيع التي عالجها في تخصصه الاكاديمي المشار اليه أعلاه كما يفعل الكثيرون ولكنه اخذ من تأهيله الاكاديمي مناهج البحث وأدوات التحليل التي اختارها (المقال الأدبي والشعر) وطفق يبحث في الاجتماع السياسي والتاريخ الاجتماعي السوداني .كان حمدنا ملماً الماماً كبيراً بمجريات الحركة الثقافية والفكرية والسياسية المصرية فبالإضافة لإطلاعه الواسع كان مداوماً على ندوة العقاد وكان كثير الجلوس مع اللواء محمد نجيب فكان في مقدوره أن يكتب ويتحدث في مواضيع تثير الاهتمام على المستوى العربي أي يصبح مفكراًومؤرخاً عربياً أو إسلامياً ولكنه آثر أن يمتن من سودانويته .
تحفظات Disclaimer))
لم أقرأ لعبد الله حمدنا الله أو أسمع منه ذات يوم يقول أنه صاحب مشروع ثقافي أو حتى صاحب رأى متفرد فهو إنسان خالي من الدعاوي العريضة والمزاعم الكبيرة كما أنني لم أنظر إليه في يوم بأنه صاحب مشروع ثقافي وإن كنت مستيقناً بأنه صاحب آراء متفردة وأنه صاحب سبق في كثير مما يقول ويكتب . بعد رحيله الفاجع شرعت في كتابة مرثية له وفي هذه الأثناء انهمرت الكتابات الراثية له معددة مناقبه فجمعت ما تفرق من انتاجه الفكري فمكنني من الإحاطة بمشروعه الثقافي فالمعلوم أن جمع ما تفرق أحد أهم المعطيات لمشروعية البحث العلمي عليه إن كان ما ذهبت إليه في هذه الورقة (العلمية) صحيحاً بأن لحمدنا الله مشروع ثقافي فالفضل بعد الله يرجع لتلك الأوراق التي أشرت إليها جميعا في ثنايا الورقة فأن لم تكن كذلك فليكن لكاتبها فضل الاجتهاد والأجر الواحد .
هذة الورقة انحصرت في النظر لتراث حمدنا الله الإعلامي أي انحصرت ما تفضّل به لأجهزة الإعلام من صحف وإذاعة وتلفزيون ولم تتطرق لتراثه الأكاديمي فقد وضع مناهج لتدريس اللغة العربية (Text book ) في جامعة إفريقيا العالمية وفي جامعة الملك فيصل بانجمينا ومنهج للثقافة السودانية بكلية الدراما والمسرح بجامعة السودان كما أنه نشر أوراقاً في مجلات علمية محكمة مثل مجلة دراسات إفريقية فالاطلاع على تلك المناهج والأوراق قد يكشف أبعاداً فكرية لحمدنا الله تعاضد فكرة المشروع الثقافي أو تضعفه .
كان حمدنا الله كثير المشافهة قليل التدوين فإن كانت المشافهة قد وسعت من سرعة انتشار أفكاره كما جعلت الأفكار متاحة لطبقات متعددة من الناس إلا أن قلة التدوين جعلت حصر تراثه العلمي في غاية الصعوبة كما أن المشافهة تجعل ما يصدر عنه متفاوتاً في المعلومات وفي الأسلوب فما يقال في الإذاعة وفي التلفزيون (هذا إذا اعتبرناهما من أدوات المشافهة ) غير الذي يقال في الندوات العامة وغير الذي يقال في الجلسات الخاصة لاسيما وأن حمدنا الله من الذين يؤمنون بأن ليس كل ما يعرف يقال إذ يرى أن بعض المعلومات إذا قيلت فإن ضررها أكبر من نفعها وأن بعض المعلومات لم يئن أوان قولها فلا أدري إن كان بالإمكان أن يرصد جلسائه أو أفراد أسرته كل ما قاله في إطار الخاص (Off record) فإذا حدث هذا سيكون له تأثيره على فكرة المشروع إيجاباً او سلباً فالذي أؤكده هنا أن حمدنا الله قد رحل وفي صدره أكثر بكثير من الذي أخرجه للناس .
الإحالات المرجعية (أبجديا): كلها إسفيرية
الدكتور خالد البلولة ، رحل هادم جدار المسكوت عنه في الثقافة السودانية
السفير خالد موسى دفع الله ، سياحة الاشباه والنظائر في عقل البروفسير عبد الله خمدنا الله
السفير خالد محمد فرح ، عبد الله حمدنا الله : رحابة الفكر واريحية الوجدان
الاستاذ عبد الله ابوعلامة ، في رحاب البروف ، مشاهد وشواهد
الاستاذ محمد الشيخ حسين ، آخر السطور لعبد الله حمدنا الله ، نهاية عصر المثقفين الرواد
الاستاذ مصطفى عبد العزيز البطل ، غربا باتجاه الشرق
عبد الله حمدنا الله (1944 – 2022 )
(ملامح مشروع ثقافي سوداني )
مدخل :-
البروفسير عبد الله حمدنا الله (1948-2022 ) كان مثقفاً موسوعياً وأكاديمياً متمكنناً وباحثاً متفرداً في مناهجه وفي أدواته وفي موضوعاته، كان متجاوزاً لكافة أشكال الانتماءات الأيدولوجية والحزبية والمذهبية والجهوية وتداخلت عنده الحقول المعرفية من لغة وأدب وتاريخ واجتماع وسياسة فقد كان كما يقول العرب (نسيج وحده) أو كما يقول الفرنجة (a man of his own self) أي (رجل نفسه) لو صحت الترجمة وهو في تفرده لم يكن قاصياً ولم يكن نشازاً اذ نأى بمنتوجه عن غيره من النخبة المنتجة للفكر ليضيف إليها إضافة نوعية فقد كان فيما يصدر عنه من عطاء فكري أشبه بالصولو (solo ) في المعزوفة الموسيقية .
لإثبات كل هذا الذي تقدم تقوم فكرة هذة الورقة على أن للبروف عبد الله مشروع ثقافي خاص به جوهره ومظهره يقوم على أن للسودان هوية ثقافية خاصة به لها جذورها ومظهرها وتفاعلاتها واستمراريتها وهذة الثقافة السودانية وإن اشتركت مع آخرين في عروبتها وأفريقيتها الا أنها تميّزت عنهم في مظهرها وفي مخبرها. لم يقل حمدنا الله في يوم من الأيام أنه صاحب مشروع ثقافي خاص ولم يقل أنه قد أتى بما لم يأتي به الأوائل لابل لم يقل أنه قد أضاف جديداً ولكنه قال كلمته في الثقافة السودانية ومضى إلى ربه راضياً مرضياً متسقاً مع نفسه دون أي ادعاء عريض أو زهواً بالنفس، والكلمة عندما يطلقها قائلها في الهواء الطلق تصبح ملكاً عاماً يحق للآخر قراءتها قراءة ثانية وثالثة واستخلاص ما يراه منها كما فعل حمدنا الله مع إرث الاخرين الفكري ولاثبات دعوانا هنا بأن للبروف حمدنا الله مشروع ثقافي خاص (لنضع خطاً تحت كلمة مشروع هذه ) سوف تبدأ الورقة بإيراد أهم المواضيع التي أثارها أي تناولها إعلاميا ففرضته على الساحة الثقافية السودانية مع نجومية مشهودة .
أم درمان مدينة مصنوعة :--
لم يحجز عبد الله حمدنا الله مقعده ضمن زمرة المثقفين السودانيين تدريجياً فهو لم يظهر في الوسائط الاعلامية أثناء أو بعد التخرج من الجامعة مباشرة إنما ظهربعد أن تأهل تأهيلاً أكاديمياً عالياً أي ظهر اسمه وكانت تسبقه دال الدكتوراة التي تعطي (حصانة فكرية في مجتمع نامي) ولم يظهر بمادة مبحوثة في رسالته للدكتوراه ( أثر الحركات الدينية الإسلامية في تطور الشعر في السودان) أو رسالته للماجستير(المقال الأدبي ظهوره وتطوره في الصحافة السودانية) بل ظهر بفكرة اجتماعية آخذاً دعائمها من الشعر ومن المقال الصحفي، وصف أم درمان بأنها مدينة مصنوعة وأم درمان كانت وما زالت في نظر الكثيرين أيقونة من أيقونات الثقافة السودانية وأي تشكيك في أصالتها كافٍ لجذب الانتباه وقد كان. لم يقدم حمدنا الله بحثاً متكاملاً في هذا الموضوع إنما ظل منافحاً عن فكرته مورداً المزيد من الشواهد ومخففا من أثر الصدمة ومرتفعا بمستوى النقاش كلما انتقده ناقد وخلاصة الفكرة تتمحورفي أن أم درمان ليست بمدنية مبدعة ولا بوتقة ثقافية ولكنها مدينة جليلة محبوبة عند أهلها ومجتمعها مجتمع محافظ وأموي. شكّلت بعض جوانب الثقافة السودانية فمنها قادة الوطنية والأحزاب السياسية وأكبر الأندية الرياضية ومنها انطلقت الأغاني المسموعة في كل السودان وإن غناها فنانون وفدوا إلى أم درمان من أقاليم السودان الأخرى (دكتور خالد البلولة :رحل هادم جدار المسكوت عنه في الثقافة السودانية)
أغنية الحقيبة :--
يرى حمدنا الله أن الذي أثار ثائرة محبي أم درمان عليه كلمة مصنوعة وأرجع هذة الكلمة للصدفة حيث أبرزها الصحفي اللامع المرحوم عبد المنعم قطبي (لزوم الإثارة الصحفية ) بينما حمدنا الله كان يريد مدينة مقصودة ولكن نزولاً عند قاعدة خطأ شائع خير من صحيح مهجور، فقد قبل كلمة مصنوعة التي وردت عفو الخاطر ودافع عن فكرة المدينة المقصودة بأنها ليست بدعاً من المدن فعطبرة صنعتها السكة حديد وبورتسودان أنشأتها الميناء حتى المدنية المنورة أنشأتها الرسالة المحمدية . وقد استند حمدنا الله على أغنية الحقيبة التي نشأت في أم درمان وانتشرت منها لإثبات عدم أصالة أم درمان وقد وصفها بأنها أغنية متكلفة حسية المقاصد مكثرة في المحسنات البديعية كثيرة الصنعة والتعقيد، تعبر عن مجتمع محروم مكبوت ومأزوم، وأنها لاتعبر عن الوجدان السوداني وأن الأغنية السودانية الحقيقية هي تلك الموجودة في الريف السوداني وأنها أي أغنية الحقيبة فرضت فرضاً على الذائقة السودانية لأن الوسائط الإعلامية الرئيسية من إذاعة وتلفزيون فيما بعد موجودتان في أم درمان ويديرهما ابناء أم درمان . تأسيساً على اهتمامه بأغنية الحقيبة لإثبات دعواه حول أم درمان تطرق حمدنا الله كثيراً بالنقد والتحليل لمجمل الأغنية السودانية سواء كانت أغنية (ربوع السودان) أو الأغنية الحديثة أو حتى تلك التي تأثرت بالأغنية الوافدة من الخارج العربي أو الاوربي .
أغاني البنات :-
وهذة هي الأخرى من المواضيع التي انفرد بها حمدنا الله وكان للصدفة دور فيها إذ طلب منه طلاب سودانيون في جامعة مصرية أن يلقي عليهم محاضرة في أغنية البنات فاعتذر بأنه ليس ملم بهذا الموضوع فاحضروا له عدد من الأشرطة فعكف عليها وأخرج منها موضوعاً اجتماعياً تاريخياً سارت به الركبان بدليل أنه قد قدمها في أكثر من عشر محاضرات في منابر مختلفة في فترة وجيزة وقد فتح حمدنا الله في عقله نافذة لهذا الموضوع وأثراه بالكثير من الشواهد والملاحظات والقراءات المتعددة . هنا لابد لنا أن نتوقف عند طريقة (ما يطلبه المستعمون) التي جعلت أولئك النفر من الطلاب يطلب من حمدنا الله أن يتحدث في موضوع لم يظهر له اهتمام به من قبل، لاشك أن هؤلاء الطلاب قد لحظوا ومن المحاضرات التي كان يلقيها عليهم أنه لايستنكف من إيراد الشواهد التي تثري فكرته حتى ولو كانت تلك الشواهد يعتبرها الآخرون من مفردات أسفل المدينة ودون شك أن كلامه عن أغنية الحقيبة والأغنية السودانية بصفة عامة قد شجعهم على ذلك، فعند حمدنا الله لايوجد أدب محتشم وأدب سافر إنما كل أدب في (موضعه جميل) تأسيً بقول الفيتوري (ليست هناك كلمة هابطة أو كلمة صاعدة فكل كلمة في موضعها جميلة) . لقد فرّق حمدنا الله بين أغاني البنات المدينية والريفية فأثبت أن للمرأة الريفية أغنية معبرة عن واقعها الاجتماعي بينما أغنية المرأة المدنينية تعبر عن حالتها النفسية وفي الحالتين كانت التطورت الاقتصادية والاجتماعية منعكسة في أغنية البنات خاصة في المجتمع الحديث حيث تعج بذكرالفئات المرفهة كالجلابة ورجال الخدمة المدنية (الدكاترة والمعلمين) وضباط الجيش ثم المغتربين ثم الدهابة ولم يتحرج حمدنا الله من الاستعانة بمنهج التحليل الطبقي وهو يغوص في أغاني البنات دون أن يضعه أساساً للبناء عليه .
فوز :-
فوز اسم لامرأة أم درمانية وردت كثيراً عند الذين اهتموا بالجانب الاجتماعي في نشاة الحركة الوطنية السودانية وتطورها فطفق حمدنا الله يتقصى في شخصية فوز من الذين عاصروها فوصل إلى خلاصة أن فوز هذه اسم مستعار من التاريخ العباسي يشير للنساء اللائي اتخذن من دورهن ملاذاً يجتمع فيها الرجال المشاهير والبارزين لمناقشة قضايا سياسية وفكرية وأدبية مع التزجيه والترفيه والتحلل من الضوابط الاجتماعية الموجودة، أي أمكنة تنطلق فيها الأفكار وهوى الأنفس قد كان هناك عدة فوزات في عدد من أحياء العاصمة المثلثة ولكن كانت أشهرهن فوز الموردة واسمها الحقيقي الشول بت حلوة وهناك أخرى اسمها الأصلي مبروكة ووصل حمدنا إلى خلاصة أن فوز الموردة هذة لم تكن امرأة عادية ولكنها لم تكن مثقفة مثل الأديبة المصرية مي زيادة كما ذكر حسن الجزولي في كتابه (نور الشقائق) الذي كتب مقدمته البروف حمدنا الله وفي نفس الوقت لم تكن فوز الموردة صاحبة خمارة بلدية يرتادها غمار الناس كما أشاع البعض، إنما كان منزلها ملتقى كبار تطرح فيه قضايا سياسية وفكرية مع دوران الكؤوس، وإن رواد الحركة الوطنية السودانية وكانوا متباينين في سلوكهم الشخصي بعضهم ملتزم بالآداب والتقاليد العامة طوال يومه وبعضهم يطلق لنفسه هواها في أوقاته الخاصة، ومن هؤلاء من يجتمعون في ديوان فوز الموردة ويناقشون كافة أوضاع البلاد ويتسامرون ويسهرون ومنهم خرجت نضالات سياسية ورؤى فكرية وأشعار وطنية وأشعار عاطفية لها تأثيرها الكبير، ففوز المورة عند حمدنا الله لم تكن امرأة مبتذلة متهتكة ولم تكن ملاكاً سامياً ولم تكن مثقفة ضليعة إنما كانت امرأة جميلة متحررة جريئة ذواقة للأدب قدمت خدمة غير مباشرة لحركة الإبداع السوداني ويكفى أن خليل فرح كان من رواد دارها وكانت ملهمة له حافظة لأشعاره وخليل عند حمدنا الله ليس من ربقة شعراء أو مغنيي الحقيبة رغم معاصرته لهم فقد كان متفرداً ومتقدماً عليهم موضوعياً وفنيأ.
النسب :-
لدى البروف حمدنا الله اهتماماً كبيراً بالنسب والأنساب الأمر الذي جعله على معرفة عميقة بالتركيبة القبلية في السودان بأجزائه المتعددة؛ السودان الشرقي والسوداني الغربي؛ والسودان النيلي وخاصة هذا الأخير ومدخله للحديث عن الأنساب ليس مدخلاً شوفونياً ولاتمايزياً، بل مدخلاً تدامجياً وهو من الذين لايرون وجود نقاء قبلي ولكنه يقبل الادعاء القبلي فالناس عنده مؤتمنون على أنسابهم وهو يجرد هذا الانتماء من التفاخر وتحقير الآخر ودائماً يضرب المثل بنفسه حيث يصر على أنه رفاعي عبدلابي قواسمي أماً وأباً ولكن عندما يفصل في أصول والده وأصول والدته يثبت لك أن به دماء شايقية ومحسية وبديرية دهمشية وشكرية وجعلية وأن أحد أجداده استوطن في تشاد فأصبح له أقارب رزيقات وزغاوة وفور، وكعادته لم يتخلَ عن أدواته التحليلية المرتكزة على الإبداع في دراسته للقبلية فهاهو يتحدث عن المدائح النبوية قائلاً : إن مدائح الجعليين هي أساس الأشعار الشعبية التي نبعت منها أشعار أغنية الحقيبة وإن مدائح الجعليين هي الأقدم والأقيم وذلك خلافاً لمدائح الشايقية فهي الأطعم ولكنها أميل إلى السطحية، وقد أيده في ذلك الطيب صالح مستشهداً بحاج الماحي كممثل للشايقية ، وود أبشريعة كممثل للجعليين (محمد الشيخ حسين : آخر سطر لعبد الله حمدنا الله نهاية عصر المثقفين الرواد). أما تأسيساً على المقال الأدبي فقد اجتر حمدنا الله مقولة مدرسة الرباطاب التاريخية مشيراً بذلك لكتاب حياتي لبابكر بدري ومذكرات يوسف بدري وكتاب قطار العمرلمحمد خير البدوي وكلها تدخل في باب السيرة الذاتية ولكنها تفردت عن غيرها بأنها كانت تنضح بالصراحة والجرأة والوضوح وأباحت بكل المسكوت عنه . (خالد موسى دفع الله : سياحة الأشباه والنظائر في عقل البروفسير عبد الله حمدنا الله ) وكتب ذات مرة معلقاً على طرائف النوبيين قائلاً: إن النوبيين لهم السنة تقاس بالفراسخ لا بالأمتاروالكيلومترات إذ لهم دعاوٍ عراض في احتكار الإحسان، بحيث يجردون الآخرين منه، من شاكلة إن من عندهم نبي عموم السودان؛ ومعلم عموم السودان؛ وفنان عموم السودان. ( مصطفى عبد العزيز البطل :غرباً باتجاه الشرق صحيفة الأحداث (15 أبريل 2009 )
أغاني الحماسة :-
أولى حمدنا الله اهتماماً كبيراً بأغاني الحماسة وأغنية وسط السودان بصورة عامة والجزيرة بصورة خاصة فكتب عن كثير من الشاعرات اللائي ظهرن في بداية القرن العشرين واللائي يندرج شعرهن في باب المقاومة الأولية للمستعمر (primary resistance) أي تلك التي سبقت الحركة الوطنية في رفضها للمستعمر فتناول قصائد رقية بنت إمام شقيقة عبد القادر ودحبوبة (بتجيد اللطام أسد الكزازة الضام \هزيت البلد من اليمن للشام \سيفك للفقر قلام) وهي من منطقة الحلاويين وبنات بابكر ود ضحوي زينب والنوَّر (بتشديد الواو) وعشة من قرية أم مغد (الجنزير في النجوم زي الهيكل المنظوم) و(أنا ليهم بقول كلام \ دخلوها وصقيرها حام) و(فارس الحديد إن حمى) والمغني بابا الذي غنى (فوق النعيم ود حمد) صاحب القدح الشهير. وكان هناك شاعر حلمنتيش شعبي اسمه حسين ود بابكر واشتهر بحسين كرشة فحمدنا الله يرى أغنية وسط السودان ليست هي أغنية أم درمان وكان دائم الاشادة بالفنان خلف الله حمد الذي نقل ذلك التراث إذ قدمه ملحناً لكل السودان وبادى محمد الطيب قبل أن تجرفه (حقيبة الفن) فيسهم بقدرته العالية على التطريب في فرضها على الذائقة السودانية .
الأثر المصري :-
دراسة الأثر المصري على النخبة السودانية من المواضيع التي تناولها حمدنا الله كثيراً وقد أثبت أن الحركة الوطنية نشأت متأثرة بمصر ولم تنبع من كلية غردون التذكارية وأن أول تجلياتها كانت في جمعية الاتحاد السوداني وليس جمعية اللواء الأبيض فعنده أن محمود القباني هو أول من قال بالوطنية السودانية وقد تأثر القباني تأثيراً مباشراً برفاعة رافع الطهطاوي الذي عمل بالمدرسة التي أنشأها الأتراك في الخرطوم، وأن المتعلمين السودانيين تعاطوا الكتابة في الصحافة المصرية قبل ظهورأول صحيفة في السودان وأن الصحف المصرية في مطلع القرن العشرين كانت كثيرة الاهتمام بالشأن السوداني فمثلا ما كتب فيها عن ثورة ودحبوبة 1908 لامثيل له في أي وثائق أخرى، وأن أول صحيفة سودانية ظهرت في مصر وعندما انتقلت صناعة الصحف إلى السودان كان صحفي السودان الأول فيها حسين شريف وكانت تلك الصحيفة موالية للمستعمر البريطاني مبررة لوجوده وكانت بدعم من السيدين عبد الرحمن المهدي وعلي الميرغني وهي مناوئة للحركة الوطنية السودانية المتأثرة بمصر .
في تشاد :-
أمضى عبد الله حمدنا الله سنوات من عمره في أنجمينا حيث عمل بجامعة الملك فيصل هناك، فحمل معه أدوات بحثه ومنهجه (الشعر والمقال الأدبي) إلى هناك فخرج بعلم قيم ومفيد فيما يتعلق بانتشار اللغة العربية هناك ووصل إلى خلاصة من خلاصاته الصادمة (تشاد أكثر عروبة من السودان) وقال بتشابه القوالب التعبيرية الأدبية الشعرية والنثرية في طول بلاد السودان الكبرى التي تمتد بين خطى عرض 14 وخط عرض 10 شمال خط الاستواء، أي من نواكشوط إلى جيبوتي وقد وضع منهجاً للأدب التشادي المكتوب باللغة العربية الفصحى شعراً ونثراً ودرسه لطلابة في جامعة الملك فيصل. (خالد محمد فرح : عبد الله حمدنا الله : رحابة الفكر وأريحية الوجدان ) لم يكن حمدنا الله كثير الحديث عما وصل اليه من معارف في المجتمع التشادي في الوسائط الإعلامية السودانية اللهم إلا في إطار التداخل الثقافي السائد في بلاد السودان الكبرى، ولكن طلابه ومثقفوا تشاد العروبيون المستعربون قد وقفوا كثيراًعلى ما استقاه في تشاد من معلومات عبر الملاحظة والدراسة، وعلى حسب أحد تلاميذه فإن حمدنا الله قد كان هناك شيخاً أكاديمياً له أتباع وحواريين (حيران) وأن تأثيره ونظرياته حول الهوية الثقافية التشادية وأثر العروبة فيها سيظل إرثاً متداولاً بين تلاميذه على مدى الأجيال وسيكون مادة جاذبة للدارسين في المستقبل .
عوداً على بدء :-
هذه القضايا وإن شئت قل المواضيع المذكورة أعلاه خاصة الستة الأول منها هي التي اهتم البروف حمدنا الله بمعالجتها وكان كثير التناول لها كتابة وبصورة أكثر حديثاً من خلال الوسائط الإعلامية من إذاعة وتلفزيون وفي مقابلات صحفية وفي الندوات العامة، وكلها عناصر من الثقافة السودانية لم يتم التطرق لها من قبل بالمنهجية التي اتبعها حمدنا الله، فهى تضيف إضافة كمية ونوعية لمجرى الثقافة السودانية العام والسائد ولن نبعد النجعة إذا قلنا أنها شكلت منظور خاص لحمدنا الله في الثقافة السودانية فهو يراها أي الثقافة السودانية حقيقة وجودية أي ملموسة ومتميزة بعبارة ثالثة لها هوية تجعلها مختلفة عن الآخر وليست امتداداً لأي ثقافة أخرى وأنها ليست جامدة وهي في حالة تشكل وتفاعل مستمر وليست مغلقة بل متأثرة بغيرها ومتأثرة بعصرها ومؤثرة في غيرها . يتفق مع كثيرين في أن جذر الثقافة السودانية عربي إسلامي ولكن هذا الجذر تسودن وأصبح مختلفا عن غيره وأن الثقافة السودانية ليست مدينية، أي لم تبلورها أم درمان أوغيرها من المدن، إنما جماع لمنتوج كل البيئات السودانية، وأنها ليست ثقافة نخبة متعلمة بل كونتها كافة الفئات الاجتماعية وأن الإبداع من شعر ونثر خير كشاف لهذة الثقافة عليه لن نغالي إذا قلنا أن حمدنا الله يقترب ويتداخل مع مدرسة الغابة والصحراء الأدبية (محمد عبد الحى ومحمد المكي إبراهيم والنورعثمان أبكر) خاصة بعد تجربته التشادية ويقترب ويتداخل مع المنظور السوداناوي (أحمد الطيب زين العابدين ونور الدين ساتي) فالجامع بين مشروع حمدنا الله والمدرستين هو إعطاء السودان هوية ثقافية خاصة به ومن هنا نبع مصطلح السوداناوية فهو يشير إلى الحالة (attitude) بينما مفردة سودانية تشير للجنسية التي يمكن أن يكتسبها أي وافد ولكن سوداناويته تختلف عن المدرستين بإعلائه من شأن البعد العربي والإسلامي علماً أن حمدنا الله لم يستخدم مصطلح سوداناوية من ناحية أدبية أما الناحية السياسية فيمكننا أن نستبط أنه يقترب من (السودانيزم sudanism) التي ذكرها قرنق ذات مرة خطفاً عندما قال (دعونا أن نكون سودانيين فقط let us be Sudanese only) بيد أن سودانيزم حمدنا الله محمّلة بالأثر العربي الإسلامي المتسودن .
دعائم مشروع حمدنا الله الثقافي :-
من الركائز الهامة لمشروع حمدنا الله الثقافي أنه أعلى من شأن المصادر غير التقليدية في الأعراف الأكاديمية إذ استفاد كثيراً من المنقولات الشفاهية في المواضيع الثقافية التي أثارها ولعل هذا ما دعت اليه اليونسكو مؤخراً إذ طالبت المؤرخين والباحثين الاجتماعيين بإعطاء المنقولات الشفاهية (oral traditions) نفس الاهتمام الذي يعطى للوثيقة المكتوبة وطورت طرق التحقق لتلك المنقولات فحمدنا الله بالاضافة لأنه قاري نهم وتشهد بذلك المكتبة الضخمة الخاصة به له، ملكة فطرية غير عادية في حسن الاستماع والحفظ والقدرة على الاسترجاع وقلة النسيان فأصبح مخزونه من المعلومات الشفاهية كل يوم في ازدياد وأعطاه التأهيل الأكاديمي القدرة على الترتيب الذهني والاستقراء والاستنباط فكانت تلك الحصيلة من المواضيع التي تطرق اليها .
أولى حمدنا الله اهتماماً خاصاً بالصحافة السيّارة وأعلى من شأنها كمصدر هام من مصادر البحث الأكاديمي، وظل متابعاً يومياً لها فإن كان تخصصه الأكاديمي فرض عليه الرجوع للأرشيف الصحفي المصري والسوداني، إلا أن مشروعه الثقافي الذي تواصل به مع الآخرين فرض عليه المتابعة اللصيقة واليومية لتلك الصحف . ويعتبر حمدنا الصحافة وثيقة صادقة لأنها تدون الحدث ساعة وقوعه وأن لها تاثير كبير في مجريات الأحداث وحذر كثيراً من الاستخفاف بها، وكان كثيراً ما يحذر الصحفيين من التهوين من شأن رسالتهم ويطالبهم بالتحلي بدور المربي والمعلم قائلا ما تكتبونه اليوم هو وثيقة الغد وقريب من اهتمامه بالصحافة كان اهتمامه بالراديو والتلفزيون وكان مقدراً لخطورتهما كأدوات بث للثقافة فكان يعتبرهما صحافة مسموعة ومشاهدة على التوالي وطبق اهتمامه بالصحافة بأنواعها الثلاث المقرؤة والمسموعة والمشاهدة على نفسه إذ أخذ منها وأعطاها الكثير، وما كان لمشروعه الثقافي أن يظهر للعامة لولا هذه الصحافة .
كان حمدنا الله كثير الترويج للكتب التي تناولت تاريخ السودان الاجتماعي الوسيط منها، ككتاب طبقات ود ضيف الله ومخطوطة كاتب الشونة اللتين حققهما البروفسير يوسف فضل وكان يعتبر أي منهما (كتاب عمدة) وأولى اهتماما أكثر بتلك التي تناولت التاريخ الاجتماعي الحديث مثل نفثات اليراع لمحمد عبد الرحيم وملامح من المجتمع السوداني لحسن نجيلة وموت دنيا لمحمد أحمد محجوب وعبد الحليم محمد وكفاح جيل لأحمد خير و أعراس ومآتم للأمين علي مدني كما أولى اهتماما كبيراً بكتب السير الذاتية والسير الغيرية واعتبرها مصدراً أولياً من مصادر المعلومات وكان مهتماً بإبراز إسهامات شخصيات سودانية طالها النسيان كوصفه لمحمود قباني بأنه مفكر السودان الأول وحسين شريف بأنه صحفي السودان الأول ومحمد عبد الرحيم بأنه مؤرخ السودان الأول وحمزة الملك طمبل بأنه ناقد السودان الأول .
كان حمدنا الله في اهتماهه وانتاجه الفكري متجاوزاً للتأطير الأكاديمي فإن كان تخصصه الأكاديمي (الرسمي) في اللغة العربية وآدابها إلا أنه وسعه بحيث تداخل مع علم التاريخ (تاريخ الصحافة السودانية) وعلم الاجتماع بشقية الانثروبولجي (لانساب ) والسوسيولجي (الأغنية السودانية ) وعلم السياسة (جذور الحركة الوطنية السودانية) والاجتماع السياسي (أم درمان مدينة مصنوعة ) وكل هذه الحقول الأكاديمية قد تجدها في موضوع واحد لحمدنا الله .
إنه كان متجاوزاً للإنتماء الأيدولوجي فرغم إنتمائه المبكر لحركة الاخوان المسلمين ومن المؤكد أن لتلك الحركة تاثيرها على تكوينه الفكري الا أن منتوجه الفكري والثقافي لم يصب في أدبيات تلك الحركة لا بل صدرت منه رؤى قد تكون مغايرة لرؤيتها فقال عن الاستاذ محمود محمد طه بانه لم يخرج من التصوف السوداني فيما صدر عنه من صلاة أصالة والإنسان الكامل فكلها موجودة في كتاب الطبقات بيد أن الناس استبشعوا ما قاله عندما لجأ لتبرير ذلك بالتصوف الفلسفي كقوله سقوط الصلاة ذات الحركات عنه وقال عن صديقه الاستاذ محمد إبراهيم نقد أنه كان عميق الإيمان ومتدين تديناً قائماً على الجوهر وليس شكلانية المظهر (خالد موسى دفع الله مصدر سابق) كان حمدناالله يدعو كثيراً لتثقيف السياسة عوضاً عن تسييس الثقافة ويرى أن هناك خللاً كبيراً في طغيان السياسي على الثقافي.
كان حمدنا الله متجاوزاً لثنائية الغردونيين (خريجو كلية غردون ) والمعهديين (خريجو معهد أم درمان العلمي) وان كان من المعهديين في تكوينه الأكاديمي (الرسمي) من معهد التكينة المتوسط الي معهد أم درمان الثانوي ثم الجامعة الاسلامية ثم الأزهر الشريف الا أن اطلاعه الخاص ومنذ نعومة أظافرة وربما انتمائه السياسي ثم التحاقه بالجامعة ساعة تحديث كامل الباقر لها حيث استقطب الدعم المادي واستقدم به أبرز علماء العالم الاسلامي المحدثين وجعل لها مواسم ثقافية غير تقليدية (عبد الله أبوعلامة : في رحاب البروف : مشاهد وشواهد :3 ) ودراسته العليا في مصر زودته بمكون ثقافي خاص جعلته يقتحم المجال الاجتماعي والفضاء الثقافي العام دون أي تهيب أو إحساس بأي غربة منه أو من المتلقي لمنتوجه الفكري والثقافي ليثبت أن وثائق الغازيتة المصرية لاتقل أهمية عن وثائق درم وهذة الأخيرة كانت محجة الغردونيين .
من أهم دعائم مشروع حمدنا الله الثقافي إخلاصه له وإهتمامه بالمواضيع التي تثريه فكان في مقدوره أن يكرس منتوجه الفكري في المواضيع التي عالجها في تخصصه الاكاديمي المشار اليه أعلاه كما يفعل الكثيرون ولكنه اخذ من تأهيله الاكاديمي مناهج البحث وأدوات التحليل التي اختارها (المقال الأدبي والشعر) وطفق يبحث في الاجتماع السياسي والتاريخ الاجتماعي السوداني .كان حمدنا ملماً الماماً كبيراً بمجريات الحركة الثقافية والفكرية والسياسية المصرية فبالإضافة لإطلاعه الواسع كان مداوماً على ندوة العقاد وكان كثير الجلوس مع اللواء محمد نجيب فكان في مقدوره أن يكتب ويتحدث في مواضيع تثير الاهتمام على المستوى العربي أي يصبح مفكراًومؤرخاً عربياً أو إسلامياً ولكنه آثر أن يمتن من سودانويته .
تحفظات Disclaimer))
لم أقرأ لعبد الله حمدنا الله أو أسمع منه ذات يوم يقول أنه صاحب مشروع ثقافي أو حتى صاحب رأى متفرد فهو إنسان خالي من الدعاوي العريضة والمزاعم الكبيرة كما أنني لم أنظر إليه في يوم بأنه صاحب مشروع ثقافي وإن كنت مستيقناً بأنه صاحب آراء متفردة وأنه صاحب سبق في كثير مما يقول ويكتب . بعد رحيله الفاجع شرعت في كتابة مرثية له وفي هذه الأثناء انهمرت الكتابات الراثية له معددة مناقبه فجمعت ما تفرق من انتاجه الفكري فمكنني من الإحاطة بمشروعه الثقافي فالمعلوم أن جمع ما تفرق أحد أهم المعطيات لمشروعية البحث العلمي عليه إن كان ما ذهبت إليه في هذه الورقة (العلمية) صحيحاً بأن لحمدنا الله مشروع ثقافي فالفضل بعد الله يرجع لتلك الأوراق التي أشرت إليها جميعا في ثنايا الورقة فأن لم تكن كذلك فليكن لكاتبها فضل الاجتهاد والأجر الواحد .
هذة الورقة انحصرت في النظر لتراث حمدنا الله الإعلامي أي انحصرت ما تفضّل به لأجهزة الإعلام من صحف وإذاعة وتلفزيون ولم تتطرق لتراثه الأكاديمي فقد وضع مناهج لتدريس اللغة العربية (Text book ) في جامعة إفريقيا العالمية وفي جامعة الملك فيصل بانجمينا ومنهج للثقافة السودانية بكلية الدراما والمسرح بجامعة السودان كما أنه نشر أوراقاً في مجلات علمية محكمة مثل مجلة دراسات إفريقية فالاطلاع على تلك المناهج والأوراق قد يكشف أبعاداً فكرية لحمدنا الله تعاضد فكرة المشروع الثقافي أو تضعفه .
كان حمدنا الله كثير المشافهة قليل التدوين فإن كانت المشافهة قد وسعت من سرعة انتشار أفكاره كما جعلت الأفكار متاحة لطبقات متعددة من الناس إلا أن قلة التدوين جعلت حصر تراثه العلمي في غاية الصعوبة كما أن المشافهة تجعل ما يصدر عنه متفاوتاً في المعلومات وفي الأسلوب فما يقال في الإذاعة وفي التلفزيون (هذا إذا اعتبرناهما من أدوات المشافهة ) غير الذي يقال في الندوات العامة وغير الذي يقال في الجلسات الخاصة لاسيما وأن حمدنا الله من الذين يؤمنون بأن ليس كل ما يعرف يقال إذ يرى أن بعض المعلومات إذا قيلت فإن ضررها أكبر من نفعها وأن بعض المعلومات لم يئن أوان قولها فلا أدري إن كان بالإمكان أن يرصد جلسائه أو أفراد أسرته كل ما قاله في إطار الخاص (Off record) فإذا حدث هذا سيكون له تأثيره على فكرة المشروع إيجاباً او سلباً فالذي أؤكده هنا أن حمدنا الله قد رحل وفي صدره أكثر بكثير من الذي أخرجه للناس .
الإحالات المرجعية (أبجديا): كلها إسفيرية
الدكتور خالد البلولة ، رحل هادم جدار المسكوت عنه في الثقافة السودانية
السفير خالد موسى دفع الله ، سياحة الاشباه والنظائر في عقل البروفسير عبد الله خمدنا الله
السفير خالد محمد فرح ، عبد الله حمدنا الله : رحابة الفكر واريحية الوجدان
الاستاذ عبد الله ابوعلامة ، في رحاب البروف ، مشاهد وشواهد
الاستاذ محمد الشيخ حسين ، آخر السطور لعبد الله حمدنا الله ، نهاية عصر المثقفين الرواد
الاستاذ مصطفى عبد العزيز البطل ، غربا باتجاه الشرق