عبد الله عمر .. حكاية لم تكتمل فصولها بعد

 


 

 

 

 

كتب القدر آخر فصول رواية حياته التي كانت مليئة بالعمل والانجاز والإنسانيات والسعي بين الناس بالخير. كان كما يقول طه حسين من صنف الناس الذين لا يحفلون بالحياة ، ولا يغرقون في مباهجها وعبّ منها بقدر مسافة الطريق نحو مدارج الوصول، وهو صَبَّار علي المكاره تزينه ابتسامة الوثوق والإيمان دون ان يطلق كلمة تأسي او ضجر واحدة. بل كان يمنح الأمل لمن يجزعون من نوازل الدنيا. اذ صبر علي علل الجسد وهي تتسرب الي قلبه وعظامه شيئا فشيئا لكنها لم تنل من توهج روحه شرو نقير. كان متفاعلا مع ابتلاءات الحياة وتقلباتها ، يقدم المحاضرات ويكتب الكتب والروايات و يسعي بين الناس بالكلمة الطيبة وازاهير المحبة.

قال في مقدمة روايته الأولي ( ديك السرة)
"حينما تتجاوز بِنَا رحلة العمر الستين، نضحي أقلاما للحياة تكتب بِنَا بعضا من صور فصولها"
و مضي مثل الشُعَاع الغارب صاحب النظرات العميقة في القرآن الكريم، كان ذهنه الوقاد لا يتوقف عن الاستدلال وإنتاج الاسئلة و الأدلة والبراهين في مختلف ضروب المعرفة.
. حضر الي الخرطوم قبل أسابيع خلت الباحث الفرنسي الشهير فرانسوا بورقا عضو الهيئة الوطنية للابحاث الفرنسية وهو من اكثر الأصوات الداعية وسط النخبة الفرنسية لفهم ظاهرة الاسلام السياسي في الغرب.

قال فرانسوا بورقا في عدد من محاضراته التي القاها في الخرطوم ان الغرب لا يخاف من الاسلام المتطرف بل من الاسلام المعتدل، وأشار الي ان السلطة في العالم العربي والإسلامي هي التي تعمل علي ابلسة نمط الاسلام الذي يهدد مصالحها . وقال ان ابليس الغرب كان الاسلام الشيعي عند قيام ثورة الخميني عام ١٩٧٩ والان اصبح العدو الاول للغرب هو الاسلام السني الذي تنسب اليه ظاهرة تفريخ الاٍرهاب .

لم يكن المرحوم عبد الله عمر الذي قضي نصف عمره في حقل التعليم الجامعي ونصفه الاخر دبلوماسيا وسفيرا في وزارة الخارجية بعيدا عن تمظهرات الذهن النقدي الذي يقاوم المسلمات البسيطة كما فعل فرانسوا بورقا في الخرطوم. كان يحترم فرانسوا بورقا لانه صاحب عقل راشد مستقل و صدّاعا بالحق لا يهتم بمجاراة أسواق السياسة في فرنسا.

كان متصالحا مع نفسه حد القناعة لانه شديد الإيمان بالقدر ، لا تزلزله ملمات الحياة ، و لا مصائب الدنيا وان اجتمعت عليه نصال الفجيعة . ومن آيات استقامته انه اذ استغضبه امر في أتون المعارك القلمية تصدي له دون ان يخدش حياءً او يتجاوز الموضوعي الي الشخصي .

كان وزير الخارجية الدكتور مصطفي عثمان اسماعيل يخطو الي الديوان الملكي في الكويت في منتصف عقد التسعينات وهو كثير التردد والتوتر من المقابلة مع سمو الشيخ سعد العبدالله الصباح بعيد الغزو العراقي للكويت.

أشاح الشيخ سعد العبد الله بوجهه بعيدا رغم التأكيدات السابقة بسلاسة اللقاء. تلعثم الدكتور مصطفي قليلا ثم استعاد رباطة جأشه وقال (نحنا طال عمرك من دول الضد) فأنفرجت أساريره وصب جام غضبه علي موقف السودان الذي شبهه بالخذلان، وقال متسائلا لماذا يشارك السودانيون في غزو الكويت مع صدام؟
فقال له الدكتور مصطفي عثمان هؤلاء هم الفيلق السوداني في حزب البعث ولو امرهم صدام بغزو السودان لفعلوا لأن ولاءهم المطلق للبعث وصدام فقط.

بعد حديث طويل استغرقه الشرح وتطييب الخواطر، قرر البلدان عودة العلاقات تدريجيا واعادة فتح السفارات . وطلب الدكتور مصطفي من الوزير المفوض حينها ومسئول ملف الكويت في الخارجية السودانية الذي كان يرافقه في الرحلة السفير الراحل عبدالله عمر بالبقاء في الكويت وبدء اعادة فتح السفارة. وكان السفير عبد الله عمر حينها يحمل حقيبة صغيرة لأغراض رحلته القصيرة، فبقي في الكويت لأكثر من عام وبدأ في اعادة بناء العلاقات من الصفر في جو عدائي وعمل علي استعادة الثقة المفقودة في الدولة والمجتمع الكويتي حتي تم التطبيع الكامل بين البلدين.

كان هذه ديدنه في الحياة يسعي بالخير بين الناس متفانيا في اداء واجباته المهنية . قبل وفاته بما يقارب العام دشن السفير عبد الله عمر باكورة إنتاجه الروائي ( حكاية ديك السرة) وهي رواية ذات إغواء في السرد الدارجي المفصح. توسل لها بلغة مغرقة في عامية اهل الوسط بترميزاتها المختلفة، وقد غمس فرشاة السرد في الواقعية السحرية وهو يقدم ديكا أسطوريا كلما كثر فيه الغموس عاد مؤتلقا كامل الصياح منتفش العرف حتي عمت شهرته البلاد. تم اخذه لتهجين الدجاج لكن تسلط عليه المثقفون فتحول الي ظاهرة علمية ثم تجارية في الأزياء والمقاصف وانتشر في المطاعم والمتاحف ، لكن لم يستطيع الديك ان ينافس في عالم العولمة والتجارة الدولية فأسقطت شركاته الشكاوي القانونية.

كان الديك قنوعا بوظيفته في تهجين الدجاج البلدي لكن استغله الافندية من اجل اللحاق بمتطلبات العصر فسقط الجميع علي قارعة الطريق.

تشبه هذه الرواية اُسلوب الدكتور الراحل عبد الله الطيب في ( الأحاجي السودانية)، لان أسلوبه قائم علي الحكي والسرد الدارجي وهو ينهل من موضوعات رواية عقد الخمسين مثل قنديل ام هاشم في الصراع بين الحداثة والتقليد. فجحود المثقفين ومحاولة استغلال الديك بإخراجه من وظيفته الاساسية عند حاجة السرة وهو تهجين الدجاج واستخدامه في الربح التجاري لعدم تفتت لحمه وعظامه وتحويله الي ظاهرة علمية وتجارية وفنية أسرع بسقوط الجميع .
الرموز والشواهد في الرواية تعود الي عقد السبعين والثمانين منها سيارات البرنسة وبصات ابورجيلة، وهي سنوات دراسته بالجامعة. لكنه يتفق في خلاصة روايته في ان التقاليد والاصول هي الارسخ والابقي اما تهويمات المثقفين للحاق بروح بروح العصر ما هي الا مزاعم خاسرة.

من الشكل الفني للرواية يبدو ان كاتبها قد رسمها علي الورق عفو الخاطر دون تخطيط فني مسبق علي نهج التداعي في مراحل زمنية متصلة، وكأنها أحاجي وحكايات لكنها تختزن موروث الحكمة الشعبية ، وهي جديرة ان تتحول الي عمل درامي ناجح لانها فيها كل عناصر الدراما الحبكة وبناء الشخصيات وعقدة الصراع والمفارقات. وهي خالية من الحزن والتراجيديا. ان يكتب الكاتب رواية بعد التقاعد والمعاش ويصدرها بقوله " حينما تتجاوز بِنَا رحلة العمر الستين، نضحي أقلاما للحياة تكتب بِنَا بعضا من صور فصولها".

بدأ في كتابة روايته الجديدة ( حكاية عليوة النشال) قبل شهور قليلة من وفاته كما يقال قطع اخضر علي حاسوبه وعندما وصل الي الحلقة السابعة عشر قال عبارة كاشفة صادمة ( تموها براكم) وبعد أسبوع غادر دنيانا الفانية.

وحكاية عليوة النشال..حكاية وطن ما يزال يغالب معضلات التشكل والتكوين. وهي تشعل الجدل حول تحولات الحداثة خاصة وهي تعيد بعث القضية التقليدية في العلاقة بين المركز و الريف السوداني.

لم يكن ( عليوة ) في رواية السفير عبد الله عمر مجرد (نشال) لكنه كان مثل الهمباتة في الشعر القومي يتحلون بأخلاق الفروسية ويأخذون المال من الأغنياء والمركز ويردونه للفقراء وأهل الريف. واكتشف عليوة ان اهل المركز في اطار محاصصات السلطة ينحازون الي جيوب جهوية محددة، مما فاقم النزاعات بين القبائل.

لقد غادر السفير عبدالله عمر دنيانا الفانية و لم تكتمل فصول الرواية وقال (تموها براكم). لأن الشواهد والقصص والشخوص تشابه الواقع. كأنه قرر ان يترك النهايات مفتوحة وان يكمل اي احد منا الرواية وفقا للنهاية التي تناسبه. وقد كتب الفصل الأخير في روايته دون ان يخطها بيده اذ استسلم للقدر الحتمي والانتقال الي الرفيق الاعلي دون تهويشات الدنيا.

لم يكن عليوة الا رجل من غمار الناس لجأ الي ( النشل) وهو سحب الماء من بئر القرية فظنته السلطات الرسمية نشالا يسرق الناس ليقيم العدل حسب تصوره البسيط وان يأخذ مال الأغنياء ليرده علي الفقراء.

كان عبد الله عمر رحمه الله مشغولا بقضية العدل الاجتماعي واختلالات دولة الافندية في تاريخ السودان الحديث الذي كرس امتيازات الصفوة في المركز وترك الريف علي هامش الهم الوطني.

لقد مضي السفير عبدالله عمر الي بارئه وترك خلفه ذرية وأفكارا وكتبا وروايات واصدقاء يندبونه في الملمات، ويفتقدونه في نواصي الخير والسعي بين الناس بالمحبة والعرف الجميل.

اللهم تقبله وأحسن نزله ووسع مرقده واجعل الجنة مثواه.

kha_daf@yahoo.com

 

آراء