عتمة المشهد السياسي …. بقلم: د. عمر بادي
13 May, 2010
عمود : محور اللقيا
المشهد السياسي لا زال مشبعا بآثار العملية الإنتخابية المعتمة , و التي ( عمشت ) الرؤية التحليلية نتيجة لتضارب الأضداد أحيانا . مثلا , تصريحات غرايشن القديمة التي قطعت قول كل خطيب بتأكيدها على نزاهة الإنتخابات أعقبتها تصريحات له في لقاء وزير مالية حكومة الجنوب بالسودانيين من جنوب السودان في أمريكا , فقد أقر فيها غرايشن بالتزوير الذي صاحب الإنتخابات , و أنهم , أي الأمريكان , قد (تغاضوا) عن ذلك حتى لا يتأخر إستفتاء جنوب السودان عن موعده أو تشوبه شائبة , و هكذا قطع غرايشن مرة أخرى قول كل خطيب و لكن في الإتجاه المعاكس . الآن , و مع كل أخبار جديدة تردنا تتوالى الإعترافات من أمريكا بتزوير العملية الإنتخابية في شمال السودان !
أما تصريحات الرئيس البشير عن تزوير الإنتخابات في جنوب السودان بواسطة الحركة الشعبية لتحرير السودان , فإنني لم أجد لها أي رد فعل قوي و قاطع من رئيس الحركة الشعبية أو من نائبه و قادته الكبار , و هم الذين كانوا يسارعون في ردودهم و تصريحاتهم و يلجأون إلى الإعلام و إلى أحزاب المعارضة في أشياء هي أدنى من هذا الإتهام . يبدو أن الذي يحصل في شمال السودان قد صار من الأمور الثانوية لدى الحركة , التي صارت أولويتها في التحضير للإستفتاء , و أن الحركة حقيقة ساعية في خيار الإنفصال , و كل ما يحدث من قادتها من دعوات عن جعل الوحدة جاذبة عن طريق التنمية و الإستثمار في الجنوب هو في حقيقته إعداد للجنوب كي يكون مؤهلا لقيام دولة حديثة . إننا لم نسمع أو نشاهد قط قادة الحركة و هم يدعون مواطنيهم في الجنوب إلى خيار الوحدة , بل بالعكس رأيناهم و سمعناهم يدعونهم إلى تأييد الإنفصال حتى لا يكونوا مواطنين من الدرجة الثانية ! بل إن سلفاكير الذي كان يردد أنه وحدوي قد صرح أخيرا أنه لا يدري إن كان يؤيد الوحدة أم الإنفصال , و أظنه سوف يصرح قريبا بأنه إنفصالي !
عندما صرح الرئيس البشير في لقائه مع القوات المسلحة بأنه سوف يذهب إلى الجنوب داعيا للوحدة و أنه سوف يسعى لتغليب خيار الوحدة على الإنفصال حتى يحفظ الوطن الي حفظه الأجداد , تكالبت الردود من قادة الحركة فتهكموا عمن يكون هؤلاء الأجداد , أهم كتشنر أم العباس ؟ نعم , إن كتشنر هو الذي أعاد الجنوب إلى السودان بعد محادثات ( فشودة ) مع الفرنسيين الذين أرادوا إستعماره بعد نهاية الدولة المهدية , أما العباس عم النبي (ص ) فهو الذي تعتز معظم القبائل في الشمال بالإنتساب إليه , رغم تحولها إلى هجين بين العرب و الأفارقة , و لكن الإخوة في جنوب السودان لا يريدون أن يستوعبوا ذلك , حتى يجعلوا الصراع يبدو و كأنه صراع بين العرب و الأفارقة !
الأمر بيد قادة الحركة الشعبية لتحرير السودان في تقرير الوحدة أو الإنفصال , و دليلي على ذلك ما كان قد ذكره السيد ياسر عرمان أثناء حملته الإنتخابية أنه إذا ما فاز في إنتخابات رئاسة الجمهورية فإن الحركة الشعبية سوف تقطع رأس الحية , أي حية الإنفصال ! هذا يعني أن أمر الوحدة بيد الحركة الشعبية , و الدليل الآخر على ذلك أنه عندما دعا السيد سلفاكير الجنوبيين للتصويت لعرمان إنصاعوا لذلك و صوت جلهم له حتى بعد إنسحابه ! أخيرا أتت تصريحات لسلفاكير ذكر فيها أنه كان من الممكن لياسر عرمان أن ينافس البشير في الجولة الأولى من الإنتخابات و ربما يفوز عليه في الجولة الثانية ! طيب , و لماذا سحبتم ترشيحه ؟ هذا هو السؤال الذي لم أجد له إجابة مباشرة خالية من تلاعب الألفاظ , فالتزوير إن كان هو السبب , لماذا كان الأمر بمقاطعة الإنتخابات الرئاسية مع الإستمرار في الإنتخابات الأخرى ؟ لقد تعاطف الجميع مع حملة ياسر عرمان و مع الأمل و التغيير , حتى الشباب المحبطين و المنصرفين عن السياسة وجدوا فيه أوباما الجديد حامل لواء السودان الجديد , و كان الجميع على إستعداد للوقوف بجانبه , خاصة في الجولة الثانية من الإنتخابات الرئاسية التي كانت متوقعة . و يظل أمر سحب عرمان لعبة من الاعيب السياسة القذرة , التي تظهر عكس ما تبطن .
الشعب الجنوبي الذي عرفته منذ طفولتي و أنا في واو في جنوب السودان و كتبت عنه كثيرا , هو شعب مجبول على الفطرة إن لم تمسه يد التحريض , و هو يقدر العشرة و يحفظ الجميل , و انا أدعوه الآن أن يترك السياسة جانبا و ينظر بعين الأخوة إلى الشماليين أفرادا و جماعات و إلى الروابط الإجتماعية التي تربطه بهم , و أن تعزز ذلك أجهزة الإعلام التي بدأت تتحرك أخيرا في هذا الإتجاه , و أن يكثف الوحدويون من حضورهم في الساحة , حتى تكون النتيجة تأييدا للوحدة كما كانت سابقا في مؤتمر جوبا في عام 1947 .
مهما حدث للإخوة الجنوبيين من إحباطات بسبب الحكومة الحالية , عليهم الا يتسرعوا في إتخاذ قرار الإنفصال , و لينظروا إلى الشعب السوداني الطيب و إلى الروابط بينهم , فالحكومات إلى زوال و يبقى الشعب السوداني و يبقى تحالف جوبا .
omar baday [ombaday@yahoo.com]