عجلنا الذهبي المقدس (3) لم يبقَ سوى الأُكسجين، بعد أن باعوا الماء !!
عز الدين صغيرون
15 February, 2023
15 February, 2023
14
إذا كان الاقتصاد هو عصب الدولة الذي يقوم علية كامل بنيانها ، تخطيطاً لمواردها البشرية والطبيعية بما يحقق تقدمهما وتنميتهما المستدامة، التي تلبي متطلبات الحاضر وتضمن احتياجات المستقبل. فإن الجيش السوداني قد أصاب الدولة السودانية بالشلل حين (كاوش) على كل مفاتيح اقتصادها ووضعها في جيبه – محتكراً – إدارة مواردها لمصلحته الخاصة. تاركاً موارد الدولة البشرية في (الصقيعة) عاطلة بلا عمل، وبلا موارد طبيعية أو نشاط اقتصادي.
لقد نجح حوت الأمن في ابتلاع الدولة.
والنتيجة كما يمكن لأي كان أن يتوقع:
- لقد توقفت ماكنات المصانع وتعطلت عجلة الانتاج.
- فشل الموسم الزراعي بسبب نقص المدخلات كالتقاوي والأسمدة، وعدم صيانة القنوات والمصارف والمجاري لمواجهة الفيضان فأمحلت المشاريع والمزارع والحقول، وجف ضرع المواشي.
- وعلى كاهل المنتجين والتجار في كل القطاعات، تكالبت رسوم الجمارك والضرائب والمرور و(الدقنيات) والرشاوى والإتاوات. فطارت الأسعار من بين يدي المستهلكين إلى السماء، وكسدت الأسواق.
15
والنتيجة كما ترى:
- عملة ورقية – تهبط قيمتها الشرائية كلما ارتفعت أرقام فئاتها الإسمية – لا وزن لها. تعاني من الدوار، تتلاعب بها رياح المضاربات في الشوارع.
- تعطلت حياة الغالبية الساحقة من المواطنين في السودان تماماً. وأصبحت ضرورات الحد الأدنى من العيش كالأمن، والمأوى، والأكل، وشرب الماء الصالح بمثابة حلم ينام الناس عليه ويستيقظون.
- ولا تسأل (يا هداك الله) عن ما يُسمى في قاموس فقه مسؤوليات الدول الأخرى بالخدمات. أشياء مثل الصحة والتعليم والترفيه ورعاية المحتاجين كالفقراء والمسنين والأرامل والأطفال اليتامى وذوي الاحتياجات الخاصة.
لا أحد يحلم بذلك !.
15
تسأل: ولماذا يجوع الناس في بلد تعلق كثير من الدول حتى الغنية العظمى منها آمالاً عراض لتسد جوعتها من خيراتها ؟.
السودان، بلد حباه الله بكل الخيرات من مصادر الثروة الطبيعية، متجددة وغير متجددة، ما الذي عند أغنى الدول مما نفتقر إليه؟. فما الذي يجعل الانسان السوداني يرزح تحت كل هذا الفقر والجوع والمرض والجهل والأمية؟.
لن تضطر لتذهب بعيداً لمعرفة الأسباب فبين يديك مثال قريب.
عندما صرَّح رئيس الوزراء حمدوك بأن خزينة الدولة خاوية على عروشها، وبأن 85% من مواردها بيد الجيش والمنظومة الأمنية خارج ولاية وزارة المالية. جن جنون البرهان وأرغي وأزبد مهدداً أمام جنوده قائلاً بأن الحكومة تريد أن تتملص من مسؤوليتها وتعلق فشلها على شماعة الجيش والمنظومة الأمنية. وكالمعتاد لمَّح مهدداً بأن الجيش خط أحمر.
كان ذلك إعلاناً صريحاً بعدم الاقتراب من خزانة الجيش وإلا .....
لم يكن مثل هذا الموقف ليفاجئ سوى دكتور حمدوك وفريقه الاقتصادي من الخبراء "السذج" أمثال الدكتور إبراهيم البدوي الذي ظن – حسب ما تعم – بأن مشكلة الاقتصاد السوداني سهلة ومقدور عليها، وأن الخطوة الأولى تبدأ برفد الخزينة العامة للدولة وتغذيتها بما يستحوذ عليه الجيش من نقد وموارد بغير حق، لتلحق الدولة نفسها وتوقف الانزلاق والانهيار الاقتصادي. وتوقع ان يتعاون الجميع في ذلك و بالتحديد القيادة العسكرية. ليخرج الفريق ياسر العطا ويقول مستهزأ، ان البدوي طلب منه تسليمه حوالى 80% من شركات الجيش !!.
وما كان لهم أن يتفاجؤوا عندما رفضت وزارة الدفاع مناقشة ميزانيتها السنوية مع موظفين من وزارة المالية. وطالبت الوزارة قيام وكيل المالية بمناقشة ميزانيتها بحجة "الدواعي الأمنية". وفي ردها قالت أن الميزانية عادة لا تناقش وإنما تأتي أرقاما فقط، يتم فيها توضيح مرتبات الضباط مرتبات الافراد بدون نقاش بجانب وضع مبلغ للطوارئ، وكذلك ميزانية قوات الدعم السريع. وما هو أغرب من ذلك أن الوزارة تقوم في حالة الطوارئ "الحرب" بسحب جميع مبالغ الاحتياطي للوزارات الأخرى تحت مسمى "ميزانية طوارئ" !! (1).
16
ما كان ينبغي أن يتعجبوا لولا أنهم جاؤوا لسودان الثورة من فضاء آخر، مهمة الجيوش والأجهزة الأمنية فيه، تنحصر في الحفاظ على أمن الدولة وشعبها، وحماية دستورها ومصالحها. وليس التجارة، وإدارة المصارف والمصانع، وعقد الاستثمارات للدول الأجنبية ومنحها الأراضي الزراعية والرعوية، وبيع الذهب، واللحوم والجلود، والزيت والسمسم، والكركدي والحطب والفحم .
الخبراء من السودانيين في المنظمات الدولية الذين لبوا نداء الوطن بحسن نيَّة وحماس ونبل، لسذاجتهم وجهلهم كانوا غافلين عن المصالح الشخصية والفئوية والقطاعية للمؤسسة العسكرية، ممثلة في عساكر مجلس السيادة وكبار جنرالات المنظومة الأمنية، واختلاط هذه المصالح وتشابكها مع قطاع خاص "خِلاقَة" وطفيلي، يشكل كبار الكيزان والاقربون، والأرزقية دعامته الرئيسية.
وما كان هذا ليثير حيرتهم أو يتسبب في صدمة أخلاقية جعلتهم ينسحبون واحد تلو الآخر. فالدكتور اكرم بدأ في قطع شريان مص دماء الشعب من قبل مافيا الدواء ، فحسموا أمره من خلف الكواليس. ودكتور القراي حاول أن يشغِّل آلة تحديث العقل عبر تغيير المناهج المدرسية فاتهموه بمحاربة الإسلام، ونشر الكفر والزندقة بين النشء. أما د. البدوي وزير الاقتصاد فتعرض لحملة شعواء قادها ضده اليمين السياسي واليسار فاستقال.
17
هيمنة المنظومة الأمنية على اقتصاد السودان لم تكن بدعة من إبداعات البرهان، وإنما هي خطة ضمن استراتيجية وضعها الكيزان ونفذها عمر البشير، وأصبحت سُنَّة لمن جاء بعدهم، مضوا فيها وأوغلوا إلى نهاياتها.
ففي عام (2017) أقر البرلمان إبان حقبة الرئيس المعزول عمر البشير قانوناً قضى بتحويل اسم هيئة التصنيع الحربي إلى منظومة الصناعات الدفاعية. ومنح القانون المنظومة استقلالية مالية وإدارية عن وزارة الدفاع لتكون تابعة لرئيس الجمهورية، كما مُنحت حق الاستثمار في أموالها دون الخضوع لسلطات ديوان المراجعة، وقوانين الشراء والتعاقد والإجراءات المالية والمحاسبة.
وعندما اعلن رئيس الحكومة المدنية عبد الله حمدوك في أغسطس 2020، أن "18% فقط من إيرادات الدولة تحت سيطرة وزارة المالية"، وأكد بأن "الأولوية" هي استعادة الحكومة للشركات العائدة إلى القطاعين العسكري والأمني، رأينا كيف كانت ردة الفعل. كانت التقارير الإعلامية تفيد بأن ما لدى الجيش والأجهزة الأمنية قد بلغ 250 شركة تعمل في قطاعات حيوية مثل تصدير الذهب واللحوم واستيراد دقيق القمح إضافة إلى الزراعة. وأن هذه الشركات معفاة من الضرائب ولا تخضع للمراجعة بالطبع، ما يجعلها تعمل في سرية تامة، في ظل معاناة البلاد من أزمة اقتصادية.
لم تكن (مكاوشة) المال الهدف الوحيد منها، ولكن وراءها هدف أكبر وهو (تشليع) الجيش وخلع اسنانه القتالية، وتحويله إلى شركة استثمارية يديرها كبار الجنرالات وتحويلهم إلى طبقة اقتصادية طفيلية، تدمن الرضاعة من خزينة الدولة وتنشغل بالغنائم، ويكون ولاءها في هذه الحالة لقيادة التنظيم الإسلاموي، ولقيادتها العسكرية المتكوزنة مطلقاً ... (وحريقة في الوطن والشعب والجيش نفسه).
18
إليك ما حكاه شاهد عيان، لتكتشف مدى ما يمكن أن تنحدر إليه روحية منسوبي القوى الأمنية من الجشع والتجرد من الحس الإنساني:
" شاهدت بحى ديم النور(محل إقامة الكاتب)تناكر الجيش بلونها المعروف والمميز وهى تجوب الحى (وربما فى إحياء أخرى)وهى تقوم ببيع المياه الحلوة مياه الشواك. للمواطنين .وحب الاستطلاع دفعنى لسؤال سائق إحدى التناكر عن ثمن برميل الماء. فقال(بألف ومئتين جنيه)وللعلم بالشيء فإن حمولة التناكر الواحد ستين برميلا. وهناك تناكر حمولة تسعين برميلا.(شفتوا الاستثمار كيف)؟ فهل تستطيع أن تحصى وتعد الدخل اليومي للجيش من الاستثمار في مياه شرب المواطن؟ (ويستطرد الكاتب)، وليتها كانت بأسعار مناسبه. بل وبالسعر التجاري !!" (2).
جيش يستغل عطش الناس وهو يملك الخزان الوحيد بالمنطقة، فيبيع لهم الماء بالسعر التجاري. في وقت نرى كيف تتصرف جيوش الدول الأخرى عند الكوارث !!.
19
لا تكاد تُحصى الأضرار التي يتسبب فيها الجيش وتوابعه من أجهزة الأمن والشرطة بالدولة السودانية وشعبها، بتدخله في السياسة وإصراره السيطرة على إدارة دولاب الدولة.
ولا يسعك سوى التساؤل بحيرة واستغراب: من أين له هذا الاعتقاد، بأنه المسؤول الوحيد عن إدارة الدولة، بينما هو مجرد مؤسسة من مؤسسات الدولة العديدة، له وظيفه محددة ينبغي أن لا يتجاوز حدود صلاحياتها، وإلا أحدث ربكة وفوضى وتداخل وظيفي بين ساير مؤسسات/ أعضاء جسم الدولة، وأصاب جسدها بالشلل ؟.
من أين يأتيه هذا الاعتقاد الواهم ؟.
نحن شعوب دول العالم الثالث ومجتمعاتها المتخلفة من صنعنا هذا العجل الذهبي واسبغنا عليه القدسية، وأطلقنا قيده يرعى كيفما شاء في حقولنا ... فمما الشكوى ؟!.
تقول بأن الأحزاب السياسية بصراعاتها الصبيانية هي من فتحت الباب أمام العسكر واستثارت شبقهم السلطوي ؟.
اتفق معك.
ولكنك ألم تلاحظ معي بأنهم كانوا لا يمهلون التجربة الديمقراطية وقتاً (تبلّ فيه ريقها) حتى يسارعون لؤادها في مهدها ؟.
- فما بين الاستقلال (1956) والانقلاب الأول (1958) 2سنة.
- وما بين الاطاحة بعبود(1964) إلى انقلاب نميري (1969) 5 سنوات.
- وما بين الاطاحة بنميري(1985) وانقلاب البشير (1989) 4 سنوات.
- ما بي الاطاحة بالبشير (2019)إلى انقلاب البرهان (2021) 2سنة.
ورغم الفشل المتكرر لتجارب حكمهم التي استغرقت أكثر من 57 عاماً أوصلت البلاد إلى ما هي علية الآن على شفا حفرة من التفكك والانهيار، مقابل 14 عاماً تجارب ديمقراطية، رغم تجاربهم الكارثية هذه لا يزالون على إصرارهم الجنوني بأنهم الأجدر والأكفأ والأحق بحكم السودان.
رغم وضوح الحقيقة، ساطعة، بأن المؤسسة العسكرية والأجهزة لا يمكن أن تكون خياراً لتأسيس أو قيادة دولة مدنية حديثة على الإطلاق. مهما بلغ منسوب القيم الوطنية عند قياداتها وخلصت نواياهم، وذلك بحكم التكوين.
وليس هذا قدحاً في صدق وطنيتهم على إطلاقهم، ولا هو طعناً في نواياهم جميعاً كذلك.
وسنرى ذلك لاحقاً بإذن الله.
عاجل
" السودان يستقبل هذه الأيام كبار الوزراء والمسؤولين بالدول الكبرى
وشيخ حلتنا هجَّ ملبياَ استدعاء شيخ أبو ظبي
السؤال
- هل تقاطُر الكبار أشعره بالضيق واختناق الحصار فذهب مستعيناً به ؟. باحثاً عن حل ؟.
- ام ابن زايد يرسلها للكبار.. رسالة فحواها:
اذهبوا إليه أنتم هناك ، أما أنا فمتى استدعيته اتاني.. (المفتاح في جيبي) ؟.
علَّ نتائج الرحلة تجيب على التساؤلات.
مصادر وهوامش
(1) أرقام تُنفذ ولا تُناقش: الجيش يرفض مناقشة ميزانيته، موقع صحيفة الراكوبة الإلكتروني، بتاريخ 31 أكتوبر، 2022.
(2) طه مدثر عبد المولى، الجيش يبيع المياه للمواطنين، موقع صحيفة سودانايل الرقمية، بتاريخ، 17 مايو, 2022.
izzeddin9@gmail.com
إذا كان الاقتصاد هو عصب الدولة الذي يقوم علية كامل بنيانها ، تخطيطاً لمواردها البشرية والطبيعية بما يحقق تقدمهما وتنميتهما المستدامة، التي تلبي متطلبات الحاضر وتضمن احتياجات المستقبل. فإن الجيش السوداني قد أصاب الدولة السودانية بالشلل حين (كاوش) على كل مفاتيح اقتصادها ووضعها في جيبه – محتكراً – إدارة مواردها لمصلحته الخاصة. تاركاً موارد الدولة البشرية في (الصقيعة) عاطلة بلا عمل، وبلا موارد طبيعية أو نشاط اقتصادي.
لقد نجح حوت الأمن في ابتلاع الدولة.
والنتيجة كما يمكن لأي كان أن يتوقع:
- لقد توقفت ماكنات المصانع وتعطلت عجلة الانتاج.
- فشل الموسم الزراعي بسبب نقص المدخلات كالتقاوي والأسمدة، وعدم صيانة القنوات والمصارف والمجاري لمواجهة الفيضان فأمحلت المشاريع والمزارع والحقول، وجف ضرع المواشي.
- وعلى كاهل المنتجين والتجار في كل القطاعات، تكالبت رسوم الجمارك والضرائب والمرور و(الدقنيات) والرشاوى والإتاوات. فطارت الأسعار من بين يدي المستهلكين إلى السماء، وكسدت الأسواق.
15
والنتيجة كما ترى:
- عملة ورقية – تهبط قيمتها الشرائية كلما ارتفعت أرقام فئاتها الإسمية – لا وزن لها. تعاني من الدوار، تتلاعب بها رياح المضاربات في الشوارع.
- تعطلت حياة الغالبية الساحقة من المواطنين في السودان تماماً. وأصبحت ضرورات الحد الأدنى من العيش كالأمن، والمأوى، والأكل، وشرب الماء الصالح بمثابة حلم ينام الناس عليه ويستيقظون.
- ولا تسأل (يا هداك الله) عن ما يُسمى في قاموس فقه مسؤوليات الدول الأخرى بالخدمات. أشياء مثل الصحة والتعليم والترفيه ورعاية المحتاجين كالفقراء والمسنين والأرامل والأطفال اليتامى وذوي الاحتياجات الخاصة.
لا أحد يحلم بذلك !.
15
تسأل: ولماذا يجوع الناس في بلد تعلق كثير من الدول حتى الغنية العظمى منها آمالاً عراض لتسد جوعتها من خيراتها ؟.
السودان، بلد حباه الله بكل الخيرات من مصادر الثروة الطبيعية، متجددة وغير متجددة، ما الذي عند أغنى الدول مما نفتقر إليه؟. فما الذي يجعل الانسان السوداني يرزح تحت كل هذا الفقر والجوع والمرض والجهل والأمية؟.
لن تضطر لتذهب بعيداً لمعرفة الأسباب فبين يديك مثال قريب.
عندما صرَّح رئيس الوزراء حمدوك بأن خزينة الدولة خاوية على عروشها، وبأن 85% من مواردها بيد الجيش والمنظومة الأمنية خارج ولاية وزارة المالية. جن جنون البرهان وأرغي وأزبد مهدداً أمام جنوده قائلاً بأن الحكومة تريد أن تتملص من مسؤوليتها وتعلق فشلها على شماعة الجيش والمنظومة الأمنية. وكالمعتاد لمَّح مهدداً بأن الجيش خط أحمر.
كان ذلك إعلاناً صريحاً بعدم الاقتراب من خزانة الجيش وإلا .....
لم يكن مثل هذا الموقف ليفاجئ سوى دكتور حمدوك وفريقه الاقتصادي من الخبراء "السذج" أمثال الدكتور إبراهيم البدوي الذي ظن – حسب ما تعم – بأن مشكلة الاقتصاد السوداني سهلة ومقدور عليها، وأن الخطوة الأولى تبدأ برفد الخزينة العامة للدولة وتغذيتها بما يستحوذ عليه الجيش من نقد وموارد بغير حق، لتلحق الدولة نفسها وتوقف الانزلاق والانهيار الاقتصادي. وتوقع ان يتعاون الجميع في ذلك و بالتحديد القيادة العسكرية. ليخرج الفريق ياسر العطا ويقول مستهزأ، ان البدوي طلب منه تسليمه حوالى 80% من شركات الجيش !!.
وما كان لهم أن يتفاجؤوا عندما رفضت وزارة الدفاع مناقشة ميزانيتها السنوية مع موظفين من وزارة المالية. وطالبت الوزارة قيام وكيل المالية بمناقشة ميزانيتها بحجة "الدواعي الأمنية". وفي ردها قالت أن الميزانية عادة لا تناقش وإنما تأتي أرقاما فقط، يتم فيها توضيح مرتبات الضباط مرتبات الافراد بدون نقاش بجانب وضع مبلغ للطوارئ، وكذلك ميزانية قوات الدعم السريع. وما هو أغرب من ذلك أن الوزارة تقوم في حالة الطوارئ "الحرب" بسحب جميع مبالغ الاحتياطي للوزارات الأخرى تحت مسمى "ميزانية طوارئ" !! (1).
16
ما كان ينبغي أن يتعجبوا لولا أنهم جاؤوا لسودان الثورة من فضاء آخر، مهمة الجيوش والأجهزة الأمنية فيه، تنحصر في الحفاظ على أمن الدولة وشعبها، وحماية دستورها ومصالحها. وليس التجارة، وإدارة المصارف والمصانع، وعقد الاستثمارات للدول الأجنبية ومنحها الأراضي الزراعية والرعوية، وبيع الذهب، واللحوم والجلود، والزيت والسمسم، والكركدي والحطب والفحم .
الخبراء من السودانيين في المنظمات الدولية الذين لبوا نداء الوطن بحسن نيَّة وحماس ونبل، لسذاجتهم وجهلهم كانوا غافلين عن المصالح الشخصية والفئوية والقطاعية للمؤسسة العسكرية، ممثلة في عساكر مجلس السيادة وكبار جنرالات المنظومة الأمنية، واختلاط هذه المصالح وتشابكها مع قطاع خاص "خِلاقَة" وطفيلي، يشكل كبار الكيزان والاقربون، والأرزقية دعامته الرئيسية.
وما كان هذا ليثير حيرتهم أو يتسبب في صدمة أخلاقية جعلتهم ينسحبون واحد تلو الآخر. فالدكتور اكرم بدأ في قطع شريان مص دماء الشعب من قبل مافيا الدواء ، فحسموا أمره من خلف الكواليس. ودكتور القراي حاول أن يشغِّل آلة تحديث العقل عبر تغيير المناهج المدرسية فاتهموه بمحاربة الإسلام، ونشر الكفر والزندقة بين النشء. أما د. البدوي وزير الاقتصاد فتعرض لحملة شعواء قادها ضده اليمين السياسي واليسار فاستقال.
17
هيمنة المنظومة الأمنية على اقتصاد السودان لم تكن بدعة من إبداعات البرهان، وإنما هي خطة ضمن استراتيجية وضعها الكيزان ونفذها عمر البشير، وأصبحت سُنَّة لمن جاء بعدهم، مضوا فيها وأوغلوا إلى نهاياتها.
ففي عام (2017) أقر البرلمان إبان حقبة الرئيس المعزول عمر البشير قانوناً قضى بتحويل اسم هيئة التصنيع الحربي إلى منظومة الصناعات الدفاعية. ومنح القانون المنظومة استقلالية مالية وإدارية عن وزارة الدفاع لتكون تابعة لرئيس الجمهورية، كما مُنحت حق الاستثمار في أموالها دون الخضوع لسلطات ديوان المراجعة، وقوانين الشراء والتعاقد والإجراءات المالية والمحاسبة.
وعندما اعلن رئيس الحكومة المدنية عبد الله حمدوك في أغسطس 2020، أن "18% فقط من إيرادات الدولة تحت سيطرة وزارة المالية"، وأكد بأن "الأولوية" هي استعادة الحكومة للشركات العائدة إلى القطاعين العسكري والأمني، رأينا كيف كانت ردة الفعل. كانت التقارير الإعلامية تفيد بأن ما لدى الجيش والأجهزة الأمنية قد بلغ 250 شركة تعمل في قطاعات حيوية مثل تصدير الذهب واللحوم واستيراد دقيق القمح إضافة إلى الزراعة. وأن هذه الشركات معفاة من الضرائب ولا تخضع للمراجعة بالطبع، ما يجعلها تعمل في سرية تامة، في ظل معاناة البلاد من أزمة اقتصادية.
لم تكن (مكاوشة) المال الهدف الوحيد منها، ولكن وراءها هدف أكبر وهو (تشليع) الجيش وخلع اسنانه القتالية، وتحويله إلى شركة استثمارية يديرها كبار الجنرالات وتحويلهم إلى طبقة اقتصادية طفيلية، تدمن الرضاعة من خزينة الدولة وتنشغل بالغنائم، ويكون ولاءها في هذه الحالة لقيادة التنظيم الإسلاموي، ولقيادتها العسكرية المتكوزنة مطلقاً ... (وحريقة في الوطن والشعب والجيش نفسه).
18
إليك ما حكاه شاهد عيان، لتكتشف مدى ما يمكن أن تنحدر إليه روحية منسوبي القوى الأمنية من الجشع والتجرد من الحس الإنساني:
" شاهدت بحى ديم النور(محل إقامة الكاتب)تناكر الجيش بلونها المعروف والمميز وهى تجوب الحى (وربما فى إحياء أخرى)وهى تقوم ببيع المياه الحلوة مياه الشواك. للمواطنين .وحب الاستطلاع دفعنى لسؤال سائق إحدى التناكر عن ثمن برميل الماء. فقال(بألف ومئتين جنيه)وللعلم بالشيء فإن حمولة التناكر الواحد ستين برميلا. وهناك تناكر حمولة تسعين برميلا.(شفتوا الاستثمار كيف)؟ فهل تستطيع أن تحصى وتعد الدخل اليومي للجيش من الاستثمار في مياه شرب المواطن؟ (ويستطرد الكاتب)، وليتها كانت بأسعار مناسبه. بل وبالسعر التجاري !!" (2).
جيش يستغل عطش الناس وهو يملك الخزان الوحيد بالمنطقة، فيبيع لهم الماء بالسعر التجاري. في وقت نرى كيف تتصرف جيوش الدول الأخرى عند الكوارث !!.
19
لا تكاد تُحصى الأضرار التي يتسبب فيها الجيش وتوابعه من أجهزة الأمن والشرطة بالدولة السودانية وشعبها، بتدخله في السياسة وإصراره السيطرة على إدارة دولاب الدولة.
ولا يسعك سوى التساؤل بحيرة واستغراب: من أين له هذا الاعتقاد، بأنه المسؤول الوحيد عن إدارة الدولة، بينما هو مجرد مؤسسة من مؤسسات الدولة العديدة، له وظيفه محددة ينبغي أن لا يتجاوز حدود صلاحياتها، وإلا أحدث ربكة وفوضى وتداخل وظيفي بين ساير مؤسسات/ أعضاء جسم الدولة، وأصاب جسدها بالشلل ؟.
من أين يأتيه هذا الاعتقاد الواهم ؟.
نحن شعوب دول العالم الثالث ومجتمعاتها المتخلفة من صنعنا هذا العجل الذهبي واسبغنا عليه القدسية، وأطلقنا قيده يرعى كيفما شاء في حقولنا ... فمما الشكوى ؟!.
تقول بأن الأحزاب السياسية بصراعاتها الصبيانية هي من فتحت الباب أمام العسكر واستثارت شبقهم السلطوي ؟.
اتفق معك.
ولكنك ألم تلاحظ معي بأنهم كانوا لا يمهلون التجربة الديمقراطية وقتاً (تبلّ فيه ريقها) حتى يسارعون لؤادها في مهدها ؟.
- فما بين الاستقلال (1956) والانقلاب الأول (1958) 2سنة.
- وما بين الاطاحة بعبود(1964) إلى انقلاب نميري (1969) 5 سنوات.
- وما بين الاطاحة بنميري(1985) وانقلاب البشير (1989) 4 سنوات.
- ما بي الاطاحة بالبشير (2019)إلى انقلاب البرهان (2021) 2سنة.
ورغم الفشل المتكرر لتجارب حكمهم التي استغرقت أكثر من 57 عاماً أوصلت البلاد إلى ما هي علية الآن على شفا حفرة من التفكك والانهيار، مقابل 14 عاماً تجارب ديمقراطية، رغم تجاربهم الكارثية هذه لا يزالون على إصرارهم الجنوني بأنهم الأجدر والأكفأ والأحق بحكم السودان.
رغم وضوح الحقيقة، ساطعة، بأن المؤسسة العسكرية والأجهزة لا يمكن أن تكون خياراً لتأسيس أو قيادة دولة مدنية حديثة على الإطلاق. مهما بلغ منسوب القيم الوطنية عند قياداتها وخلصت نواياهم، وذلك بحكم التكوين.
وليس هذا قدحاً في صدق وطنيتهم على إطلاقهم، ولا هو طعناً في نواياهم جميعاً كذلك.
وسنرى ذلك لاحقاً بإذن الله.
عاجل
" السودان يستقبل هذه الأيام كبار الوزراء والمسؤولين بالدول الكبرى
وشيخ حلتنا هجَّ ملبياَ استدعاء شيخ أبو ظبي
السؤال
- هل تقاطُر الكبار أشعره بالضيق واختناق الحصار فذهب مستعيناً به ؟. باحثاً عن حل ؟.
- ام ابن زايد يرسلها للكبار.. رسالة فحواها:
اذهبوا إليه أنتم هناك ، أما أنا فمتى استدعيته اتاني.. (المفتاح في جيبي) ؟.
علَّ نتائج الرحلة تجيب على التساؤلات.
مصادر وهوامش
(1) أرقام تُنفذ ولا تُناقش: الجيش يرفض مناقشة ميزانيته، موقع صحيفة الراكوبة الإلكتروني، بتاريخ 31 أكتوبر، 2022.
(2) طه مدثر عبد المولى، الجيش يبيع المياه للمواطنين، موقع صحيفة سودانايل الرقمية، بتاريخ، 17 مايو, 2022.
izzeddin9@gmail.com