عجلنا الذهبي المقدس (5): “حكم العسكر ما بتشكر”
عز الدين صغيرون
28 February, 2023
28 February, 2023
26
انتهينا في حديثنا إلى أن انكفاء المؤسسة العسكرية وسائر الأجهزة الأمنية على نفسها، وما تتمتع من قوانين ونيابة وشرطة عسكرية خاصة بأفرادها. إضافة إلى منهجها الخاص في إعداد وتأهيل أفرادها بما يناسب طبيعة عملهم، وتخصصيهم بنصيب الأسد من موازنة الدولة.
كل ذلك زاد من عزلة العسكر عن فضاءهم الاجتماعي العام، وسلخهم من جسد الدولة بما يشكل منهم "مجتمعاً موازياً" قائماً بذاته، داخل معسكراتهم وثكناتهم وقشلاقاتهم السكنية.
وعزز عندهم الشعور بأن مؤسستهم دولة دخل الدولة، ومع تطاول فترات حكمهم بالانقلابات العسكرية، تمددت "دولنة" مؤسستهم، متجاوزة إطارها الدستوري. وترسخ لديهم الشعور بأنهم دولة ... "فوق الدولة" (1).
وقد أعلنها صريحة قائد الانقلاب الأخير البرهان بأن الجيش "وصي" على الدولة. فارضاً وصايته حتى على الثورة ذاتها، والتي ما ثارت جماهيرها إلا للإطاحة بنظام "دولته" المزعومة ادعاءً وكذباً.
(27)
دعنا الآن نتجاوز دور الأحزاب والطبقة السياسية المدنية في تعزيز هذه "الوصاية" العسكرية على الدولة (سنعود إليه لاحقاً) لنرجع إلى ما أقررناه في مفتتح هذه الحلقات. حيث قلنا بأنه: " مهما بلغ منسوب الوطنية من ارتفاع ومهما صدقت وخلصت نواياه في الحكم لا يستطيع القائد العسكري إدارة شؤون دولة مدنية ديمقراطية، دعك من أن ينشئها ويؤسس بنيانها. ويرجع ذلك لطبيعة بنية المؤسسة التي برمجته نفسياً وفكرياً وسلوكيِّاً على متطلبات وظيفتها في الدولة، كذراع باطشة في خدمة نظامها السياسي تحتكر شرعية العنف واستخدام السلاح" (3).
وقد حاولنا – باقتضاب غير مُخلّ، قدر الإمكان – أن نقوم بعملية تفكيك داخلية لهذه البنية، بحثاً عن مصدر شرعية هذه "الوصاية" المدعاة على الدولة وشعبها. وآن لنا أن نسأل عن "فهم/ حنك" العقل العسكري وبنيته المبرمجة مؤسسيَّاً، لمعنى، وكيفية إدارة الدولة ؟.
28
دعنا نأخذ نموذجاً واحداً – كنت قد تعرضت له من قبل – للحكم العسكري كمثال يعتبر هو الأكثر مثالية بينها. وهو الحكم العسكري الأول في تاريخ السودان بعد الاستقلال، بقيادة الفريق إبراهيم عبود (1958م)، بعد عامين من أول تجربة حكم برلماني ديمقراطي من استقلال السودان.
أي مؤرخ موضوعي منصف لا يستطيع أن ينكر، بأن هذا نظام (نوفمبر) استطاع أن يحقق وينجز خلال ستة أعوام، هي كل عمره في سدة الحكم، معدلات تنمية، لم تستطع الحكومات الانقلابية الثلاث التي تلته أن تحقق ما يقاربها، من النواحي الاقتصادية، بل – على العكس – كانت فترات حكمها تمثل تراجعاً متواتراً ومتوالياً في خطواتها عن ما حققه سلفها (النوفمبري) من معدلات تنموية.
لم يكن الفريق عبود فاسداً أو مفسداً، لا مالياً ولا إدارياً، بل لم يستفد من منصبه مغنماً خاصاً ، لا هو ولا أحد من عائلته أو أقاربه. بل كان الرجل زاهداً، طاهر اليد، نزيهاً، خرج من الحكم – مثلما دخل – وهو لا يملك حتى منزلاً خاصاً في المدن والاحياء التي شيدها.
29
ورغم ذلك ثار الشعب عليه وأسقط نظامه. لماذا؟.
لأنه أسقط مبدأ الحرية في معادلة الحكم.
والحرية هي الكفة الأخرى المقابلة لمبدأ العدل الاجتماعي، حتى يستقيم ميزان الاستقرار السياسي المستدام. (3).
والحرية تعني حق "الاختلاف"، و "تباين الآراء،" و "تعدد" الثقافات.
والعسكري/ الأمني لكي يقوم بـ”الواجب” على الوجه الصحيح والأمثل، يجب عليه أن يغلق باب "الاختلاف".
ففي العسكرية لا مجال لهرطقات مثل "حرية الارادة" أو "الرأي الآخر".
هناك "أوامر"، وتنفيذ للأوامر .. و (بس).
وهكذا.
كي ينفذ عبود برنامجه العمراني لصالح الشعب، قام بمصادرة الحريات، منع الأحزاب والنقابات وكل مؤسسات المجتمع المدني من ممارسة دورها في الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية، وصادر حق التعبير عن كل صوت يغرد خارج سطور نوتته الموسيقية، حتى ينجز مهمته الوطنية على الوجه الكامل دون إزعاج أو "شوشرة".
في حين تعتبر الحرية من المقدسات، ليس حرية الفرد في خياراته الفكرية والعقائدية فحسب في فضاء الحياة المدنية الديمقراطية، بل، وحتى حقه في التعبير عن رأيه في الشأن العام.
بل أكثر من ذلك: في المجتمع المعافى، تُعتبر حرية الفرد في التعبير عن رأيه في الشأن العام "واجب" أخلاقي ووطني، وليست مجرد "حق".
30
هما نقيضان لا يلتقيان في حقل السياسة وإدارة الدولة.
- فانحياز الأول/ العسكري/ الأمني .. للواقع.
- بينما انحياز الثاني/ الدني/ الثائر .. للحلم، وللممكن.
- الأول هاجسه الاستقرار .. والثاني دافعه التغيير.
ومفردات مثل الحلم وحرية الفرد والتغيير الجذري، في العقل العسكري/ الأمني تعني مباشرة الانفلات والفوضى (وهو جِنه وجِن الفوضى).
يقف العقل العسكري/ الأمني متحجراً أمام حائط "الواجب" وهو في حالة "إنتباه"، ولا يستطيع تجاوزه.
وبالتالي فإن أقصى ما يمكن أن يصل إليه هذا العقل من مفهوم "الحكم" هو “واجبه” في توفير الحد الأدنى من متطلبات مفهوم "العدالة الاجتماعية".
والحد الأقصى من هذا المفهوم الواسع والكبير، ينحصر عنده في تأمين المساكن والمستشفيات والمدارس والطرق، أي "العمران" بشكل عام.
وهذا الحد – وهو الأدنى – لمفهوم العدالة الاجتماعية، الذي يقتصر على التعمير نجح فيه بامتياز الحكم العسكري الأول بقيادة الفريق إبراهيم عبود (1958 – 1964). حيث استطاع، وخلال ستة سنوات، أن ينجز حركة عمرانية غير مسبوقة كانت بحق نقلة نوعية في مختلف المجالات.
لقد قام بـ"واجبه" كـ"عسكري" ... في "الموقع السياسي" على أكمل وجه.
وكما ذكرنا لم يشفع له هذا السجل العمراني الحافل وأطاح الشعب بنظامه.
ألم يكن ذلك وحده درساً كافياً يستوعبه العسكر والنخب السياسية والحزبية يجنبهم ويجنب الوطن تكرار سيناريو الفشل وتفكيك الدولة ؟.
31
حسناً
في القضايا الوطنية الكبرى تستطيع أن ترى بوضوح مدى ما يسببه حكم العسكر من أضرار كارثية ببنية الدولة، تؤدي بشكل حتمي إلى تفككها. وخير مثال لهذا لنوع من القضايا، ما كان يطلق عليه جهلاً/ غفلة/ تعمداً، (لا أدري!) بـ"مشكلة الجنوب"، والتي في حقيقتها كانت "مشكلة السودان". وما يؤكد ذلك أنها الآن تسمى حيناً مشكلة دارفور، وأخرى مشكلة كردفان شمالاً وجنوباً، ومرة تسمى مشكلة النيل الأزرق، والآن طفت على السطح مؤخرا مشكلة الشرق، وكلها كانت قائمة، قبل وبعد انفصال الجنوب.
فكيف تصدى لعلاجها الحكم العسكري الأول؟.
32
لأنه يؤمن بأن "الوحدة الوطنية" بالنسبة لمجتمع متعدد الأعراق ومتنوع الثقافات مثل السودان تُعتبر هي المهمة الأكبر، باعتبارها البوابة الوحيدة ليصطف الوطن كله، صفَّاً واحداً، من أجل تحقيق التنمية، والدولة القوية، والنهضة المأمولة.
ولكن، ولأنه عقل – حسب البرمجة المؤسسية – لا يستطيع أن يتفهم معنى التنوع والاختلاف، سعى جهد طاقته لتحقيق هذه الوحدة بمحاولة صب كل المكونات السودانية الاثنية والثقافية المختلفة والمتنوعة في "قالب" عروبي وإسلامي موحد (كدا بالزندية) !.
ولهذا كانت مهمته المقدسة الأولى والكبرى هي أسلمة وتعريب الجنوب، باعتباره "أكبر المختلفين" وأبعدهم عن قالب المكونات السودانية الأخرى. وهذا بالطبع بناء على افتراض عروبة وإسلامية كل الشعوب والمجتمعات السودانية. وهو افتراض لا أساس له من الصحة، بل هو صبياني ورغبوي تماماً. إذ لا توجد في هذا العالم كله دولة واحدة مواطنوها على مثل هذا التطابق العرقي/ الإثني/الديني/ الثقافي.
"ورغم أن مشروع، أو على الأقل فكرة أسلمة وتعريب الجنوب هذه كانت تراود الحكم الوطني الأول بعد الاستقلال إبان حكومتي إسماعيل الأزهري وعبد الله خليل، إلا أن عبود أول رئيس سوداني يقر، وينفذ سياسة تعريب وأسلمة الجنوب بوسائل شتى شملت القوة العسكرية والاقناع واستخدام كل المصادر المالية والبشرية المتوفرة (4).
33
وكما يقول أسكوباس بوقوو " كان واضحا أن عبود قد أقر سياسة التعريب والأسلمة كرجل عسكري/ عربي/ ومسلم، وكان واضحا أنه يرغب في تطبيق تلك السياسة بصورة سلمية، ولكنه كان على استعداد أيضا لتطبيقها بالقوة العسكرية إن دعا الأمر" (5).
وقد أورد بوقوو “ما جاء في منشورة جنوبية هي (صوت جنوب السودان) الصادرة في عام 1964م، من أن مدراء المديريات الجنوبية أصدروا بيانا جاء فيه: "يجب أسلمة وتعريب الجنوب من أجل تحقيق وحدة سياسية في السودان، والوصول إلى الهدف النهائي: قطر واحد (هو السودان) ولغة واحدة (هي العربية) ودين واحد (هو الإسلام)".
وكان ذلك الهدف يقتضي بالضرورة منع حرية الأديان، وسلب الحقوق اللغوية، وتقييد الحريات السياسية.
ولتنفيذ سياسة عبود لتعريب وأسلمة الجنوب تم فرض استخدام اللغة العربية، ليس فقط في المدارس، بل في مكاتب الحكومة أيضا. ومَثَّل ذلك عقبة أخرى أمام تطلعات الجنوبيين (الذين لا يجيدون العربية) في المساواة في التوظيف بالحكومة (خاصة في وزارات سيادية مثل الخارجية والدفاع)، وعدوا تلك السياسة محض "عبودية سياسية" (6).
34
وذكر بوقوو أن الحكومة قامت أولا بتخيير كل رجال الإدارة الأهلية بالجنوب بين اعتناق الإسلام أو فقدان كل سلطاتهم التقليدية. ووافق كثير منهم على اعتناق الإسلام حفاظا على سلطاتهم ونفوذهم في أوساط مواطنيهم. وأرسلت إليهم الحكومة طائرات خاصة حملتهم إلى الخرطوم حيث وجدوا ترحيبا كبيرا واحتفالات ضخمة، وقامت الإذاعة السودانية بالإعلان عن أسماء كل رجال الإدارة الأهلية في الجنوب الذين اعتنقوا الإسلام. ولعل القصد من ذلك الإعلان الإذاعي هو بعث رسالة للمجتمع الدولي بجدية الحكومة في عمليتي التعريب والأسلمة، وبعث رسالة أخرى للجنوبيين بأن قادتهم الشعبيين قد دخلوا في دين الإسلام وأن عليهم أن يحذوا حذوهم. وطلبت الإدارة في الجنوب من التجار الشماليين العاملين في مختلف المناطق حمل المصاحف معهم حيثما ذهبوا ليروه لزبائنهم من الجنوبيين. وكان ذلك من أجل “العرض” فحسب، وليس من أجل عاطفة دينية حقيقية. وقد كان أحد المفتشين قد خاطب جمعا من الجنوبيين وقال لهم: “لسنا مهتمين بصلاتكم أو صيامكم. كل ما يهمنا هو أن تدخلوا الإسلام وأن تدعوا الآخرين من أهلكم لدخوله، وأن يقوموا بتغيير ديانة أبنائهم المسيحيين للإسلام. فالمسيحية دين غريب عليكم كان ينبغي أن يذهب مع رحيل المستعمر الأوربي” (7).
الغاية – الوحدة الوطنية – نبيلة كما ترى. ولكن فهمها، ووسيلة تحقيقها، وآليات تنفيذها تخرج من تحت قبضة عسكرية ولا ترى في "الاختلاف" ثراءً وتنوعاً، وإنما تراه شذوذاً وخروجاً عن "الصف"، إذا أطلق له العنان فإنه سينشر الفوضى ويثير البلبلة والفتنة، لذا يجب قمعه وكبته، والتعامل معه بصرامة وحزم.
وهذا ما فعله عبود ونظامه ، فأسقطته شرارة ندوة كانت عن مشكلة الجنوب والحريات العامة، في جامعة الخرطوم ! (8).
تواصل بإذن الله.
آخر خبر !!
ياسر العطا: "لا توجد دولة محترمة فيها جيشين"
25 فبراير، 2023
- أولاً: وينا هي الدولة (محترمة أو غير محترمة) ؟.
- ثانياً: فيها جيشين بس؟!!.
وين قوات ناس الحركات المسلحة، و وين قوات ناس درع السودان ودرع الشمالية ودرع الوطن والنيل الأزرق وقوات شيبة في الشرق ..
وأكان للغرب داك، ما تحسب.
(الكلام دا من خطاب في عزومة عقد زواج.
بدل ما يبارك ويتوكل. عمل ليهو جلسة عمل أمنية زي عادة حكام الزمن دا .. يصرحوا بأخطر أسرر الدولة الأمنية والسياسية في صالونات وخيَّم وقعدات المناسبات الاجتماعية).
أكان سكتّوا، أنا قايل أفلح ليكم ، وأريح لينا
مصادر وهوامش
(1) عجلنا الذهبي المقدس (4): بنية المنظومة العسكرية .. وجرثومة الفشل، صحيفة سودانايل الرقمية، بتاريخ 22 فبراير, 2023.
(2) عجلنا الذهبي المقدس (3): لم يبقَ سوى الأُكسجين، بعد أن باعوا الماء !!، سودانايل (سابق)، بتاريخ 15 فبراير 2023م.
(3) وتقف تجربة حكم الرئيس جمال عبد الناصر في مصر أيضاً شاهداً على ذلك. فقد استطاع أن يحدث تغييراً اجتماعياً في مصر، استطاع عبره بمجانية التعليم والاصلاح الزراعي بتوزيع الأراضي الزراعية للفلاحين بانتزاعها من الإقطاعيين، وإقامة صناعات صغيرة ومتوسطة وتضييق الفجوة بين الفقراء والأغنياء ..الخ، أن يخلق طبقة متوسطة في مصر صارت هي رافعة المجتمع المدني، ولكنه صادر بالمقابل الحرية السياسية والرأي الآخر وفتح السجون على مصراعيها أمام الطبقة الوسطى التي ساهم في نشأتها بمجانية التعليم. للذا كان سهلاً على لسادات ومن خلفه أن كل ذلك بـ"استيكة" الانفتاح والتبعية ومحولاتهما!.
(4) حول ما ذكرناه هنا عن فترة الانقلاب الاول، راجع : "أقنعة الثورة المضادة (1)"، موقع صحيفة سودانايل الرقمية، 5 يناير، 2020.
(5) سكوباس س. بوقوو، إدارة الفريق عبود العسكرية للسودان (1958 – 1964م) وتطبيق برنامج أسلمة وتعريب جنوب السودان، عرض: بدر الدين حامد الهاشمي، موقع صحيفة سودانايل، 06-16-2015.
(6) مصدر سابق، سكوباس س. بوقوو، إدارة الفريق عبود العسكرية للسودان.
(7) نفسه، سابق.
(8) سابق، "أقنعة الثورة المضادة (1)"، موقع صحيفة سودانايل الرقمية، 5 يناير، 2020.
izzeddin9@gmail.com
انتهينا في حديثنا إلى أن انكفاء المؤسسة العسكرية وسائر الأجهزة الأمنية على نفسها، وما تتمتع من قوانين ونيابة وشرطة عسكرية خاصة بأفرادها. إضافة إلى منهجها الخاص في إعداد وتأهيل أفرادها بما يناسب طبيعة عملهم، وتخصصيهم بنصيب الأسد من موازنة الدولة.
كل ذلك زاد من عزلة العسكر عن فضاءهم الاجتماعي العام، وسلخهم من جسد الدولة بما يشكل منهم "مجتمعاً موازياً" قائماً بذاته، داخل معسكراتهم وثكناتهم وقشلاقاتهم السكنية.
وعزز عندهم الشعور بأن مؤسستهم دولة دخل الدولة، ومع تطاول فترات حكمهم بالانقلابات العسكرية، تمددت "دولنة" مؤسستهم، متجاوزة إطارها الدستوري. وترسخ لديهم الشعور بأنهم دولة ... "فوق الدولة" (1).
وقد أعلنها صريحة قائد الانقلاب الأخير البرهان بأن الجيش "وصي" على الدولة. فارضاً وصايته حتى على الثورة ذاتها، والتي ما ثارت جماهيرها إلا للإطاحة بنظام "دولته" المزعومة ادعاءً وكذباً.
(27)
دعنا الآن نتجاوز دور الأحزاب والطبقة السياسية المدنية في تعزيز هذه "الوصاية" العسكرية على الدولة (سنعود إليه لاحقاً) لنرجع إلى ما أقررناه في مفتتح هذه الحلقات. حيث قلنا بأنه: " مهما بلغ منسوب الوطنية من ارتفاع ومهما صدقت وخلصت نواياه في الحكم لا يستطيع القائد العسكري إدارة شؤون دولة مدنية ديمقراطية، دعك من أن ينشئها ويؤسس بنيانها. ويرجع ذلك لطبيعة بنية المؤسسة التي برمجته نفسياً وفكرياً وسلوكيِّاً على متطلبات وظيفتها في الدولة، كذراع باطشة في خدمة نظامها السياسي تحتكر شرعية العنف واستخدام السلاح" (3).
وقد حاولنا – باقتضاب غير مُخلّ، قدر الإمكان – أن نقوم بعملية تفكيك داخلية لهذه البنية، بحثاً عن مصدر شرعية هذه "الوصاية" المدعاة على الدولة وشعبها. وآن لنا أن نسأل عن "فهم/ حنك" العقل العسكري وبنيته المبرمجة مؤسسيَّاً، لمعنى، وكيفية إدارة الدولة ؟.
28
دعنا نأخذ نموذجاً واحداً – كنت قد تعرضت له من قبل – للحكم العسكري كمثال يعتبر هو الأكثر مثالية بينها. وهو الحكم العسكري الأول في تاريخ السودان بعد الاستقلال، بقيادة الفريق إبراهيم عبود (1958م)، بعد عامين من أول تجربة حكم برلماني ديمقراطي من استقلال السودان.
أي مؤرخ موضوعي منصف لا يستطيع أن ينكر، بأن هذا نظام (نوفمبر) استطاع أن يحقق وينجز خلال ستة أعوام، هي كل عمره في سدة الحكم، معدلات تنمية، لم تستطع الحكومات الانقلابية الثلاث التي تلته أن تحقق ما يقاربها، من النواحي الاقتصادية، بل – على العكس – كانت فترات حكمها تمثل تراجعاً متواتراً ومتوالياً في خطواتها عن ما حققه سلفها (النوفمبري) من معدلات تنموية.
لم يكن الفريق عبود فاسداً أو مفسداً، لا مالياً ولا إدارياً، بل لم يستفد من منصبه مغنماً خاصاً ، لا هو ولا أحد من عائلته أو أقاربه. بل كان الرجل زاهداً، طاهر اليد، نزيهاً، خرج من الحكم – مثلما دخل – وهو لا يملك حتى منزلاً خاصاً في المدن والاحياء التي شيدها.
29
ورغم ذلك ثار الشعب عليه وأسقط نظامه. لماذا؟.
لأنه أسقط مبدأ الحرية في معادلة الحكم.
والحرية هي الكفة الأخرى المقابلة لمبدأ العدل الاجتماعي، حتى يستقيم ميزان الاستقرار السياسي المستدام. (3).
والحرية تعني حق "الاختلاف"، و "تباين الآراء،" و "تعدد" الثقافات.
والعسكري/ الأمني لكي يقوم بـ”الواجب” على الوجه الصحيح والأمثل، يجب عليه أن يغلق باب "الاختلاف".
ففي العسكرية لا مجال لهرطقات مثل "حرية الارادة" أو "الرأي الآخر".
هناك "أوامر"، وتنفيذ للأوامر .. و (بس).
وهكذا.
كي ينفذ عبود برنامجه العمراني لصالح الشعب، قام بمصادرة الحريات، منع الأحزاب والنقابات وكل مؤسسات المجتمع المدني من ممارسة دورها في الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية، وصادر حق التعبير عن كل صوت يغرد خارج سطور نوتته الموسيقية، حتى ينجز مهمته الوطنية على الوجه الكامل دون إزعاج أو "شوشرة".
في حين تعتبر الحرية من المقدسات، ليس حرية الفرد في خياراته الفكرية والعقائدية فحسب في فضاء الحياة المدنية الديمقراطية، بل، وحتى حقه في التعبير عن رأيه في الشأن العام.
بل أكثر من ذلك: في المجتمع المعافى، تُعتبر حرية الفرد في التعبير عن رأيه في الشأن العام "واجب" أخلاقي ووطني، وليست مجرد "حق".
30
هما نقيضان لا يلتقيان في حقل السياسة وإدارة الدولة.
- فانحياز الأول/ العسكري/ الأمني .. للواقع.
- بينما انحياز الثاني/ الدني/ الثائر .. للحلم، وللممكن.
- الأول هاجسه الاستقرار .. والثاني دافعه التغيير.
ومفردات مثل الحلم وحرية الفرد والتغيير الجذري، في العقل العسكري/ الأمني تعني مباشرة الانفلات والفوضى (وهو جِنه وجِن الفوضى).
يقف العقل العسكري/ الأمني متحجراً أمام حائط "الواجب" وهو في حالة "إنتباه"، ولا يستطيع تجاوزه.
وبالتالي فإن أقصى ما يمكن أن يصل إليه هذا العقل من مفهوم "الحكم" هو “واجبه” في توفير الحد الأدنى من متطلبات مفهوم "العدالة الاجتماعية".
والحد الأقصى من هذا المفهوم الواسع والكبير، ينحصر عنده في تأمين المساكن والمستشفيات والمدارس والطرق، أي "العمران" بشكل عام.
وهذا الحد – وهو الأدنى – لمفهوم العدالة الاجتماعية، الذي يقتصر على التعمير نجح فيه بامتياز الحكم العسكري الأول بقيادة الفريق إبراهيم عبود (1958 – 1964). حيث استطاع، وخلال ستة سنوات، أن ينجز حركة عمرانية غير مسبوقة كانت بحق نقلة نوعية في مختلف المجالات.
لقد قام بـ"واجبه" كـ"عسكري" ... في "الموقع السياسي" على أكمل وجه.
وكما ذكرنا لم يشفع له هذا السجل العمراني الحافل وأطاح الشعب بنظامه.
ألم يكن ذلك وحده درساً كافياً يستوعبه العسكر والنخب السياسية والحزبية يجنبهم ويجنب الوطن تكرار سيناريو الفشل وتفكيك الدولة ؟.
31
حسناً
في القضايا الوطنية الكبرى تستطيع أن ترى بوضوح مدى ما يسببه حكم العسكر من أضرار كارثية ببنية الدولة، تؤدي بشكل حتمي إلى تفككها. وخير مثال لهذا لنوع من القضايا، ما كان يطلق عليه جهلاً/ غفلة/ تعمداً، (لا أدري!) بـ"مشكلة الجنوب"، والتي في حقيقتها كانت "مشكلة السودان". وما يؤكد ذلك أنها الآن تسمى حيناً مشكلة دارفور، وأخرى مشكلة كردفان شمالاً وجنوباً، ومرة تسمى مشكلة النيل الأزرق، والآن طفت على السطح مؤخرا مشكلة الشرق، وكلها كانت قائمة، قبل وبعد انفصال الجنوب.
فكيف تصدى لعلاجها الحكم العسكري الأول؟.
32
لأنه يؤمن بأن "الوحدة الوطنية" بالنسبة لمجتمع متعدد الأعراق ومتنوع الثقافات مثل السودان تُعتبر هي المهمة الأكبر، باعتبارها البوابة الوحيدة ليصطف الوطن كله، صفَّاً واحداً، من أجل تحقيق التنمية، والدولة القوية، والنهضة المأمولة.
ولكن، ولأنه عقل – حسب البرمجة المؤسسية – لا يستطيع أن يتفهم معنى التنوع والاختلاف، سعى جهد طاقته لتحقيق هذه الوحدة بمحاولة صب كل المكونات السودانية الاثنية والثقافية المختلفة والمتنوعة في "قالب" عروبي وإسلامي موحد (كدا بالزندية) !.
ولهذا كانت مهمته المقدسة الأولى والكبرى هي أسلمة وتعريب الجنوب، باعتباره "أكبر المختلفين" وأبعدهم عن قالب المكونات السودانية الأخرى. وهذا بالطبع بناء على افتراض عروبة وإسلامية كل الشعوب والمجتمعات السودانية. وهو افتراض لا أساس له من الصحة، بل هو صبياني ورغبوي تماماً. إذ لا توجد في هذا العالم كله دولة واحدة مواطنوها على مثل هذا التطابق العرقي/ الإثني/الديني/ الثقافي.
"ورغم أن مشروع، أو على الأقل فكرة أسلمة وتعريب الجنوب هذه كانت تراود الحكم الوطني الأول بعد الاستقلال إبان حكومتي إسماعيل الأزهري وعبد الله خليل، إلا أن عبود أول رئيس سوداني يقر، وينفذ سياسة تعريب وأسلمة الجنوب بوسائل شتى شملت القوة العسكرية والاقناع واستخدام كل المصادر المالية والبشرية المتوفرة (4).
33
وكما يقول أسكوباس بوقوو " كان واضحا أن عبود قد أقر سياسة التعريب والأسلمة كرجل عسكري/ عربي/ ومسلم، وكان واضحا أنه يرغب في تطبيق تلك السياسة بصورة سلمية، ولكنه كان على استعداد أيضا لتطبيقها بالقوة العسكرية إن دعا الأمر" (5).
وقد أورد بوقوو “ما جاء في منشورة جنوبية هي (صوت جنوب السودان) الصادرة في عام 1964م، من أن مدراء المديريات الجنوبية أصدروا بيانا جاء فيه: "يجب أسلمة وتعريب الجنوب من أجل تحقيق وحدة سياسية في السودان، والوصول إلى الهدف النهائي: قطر واحد (هو السودان) ولغة واحدة (هي العربية) ودين واحد (هو الإسلام)".
وكان ذلك الهدف يقتضي بالضرورة منع حرية الأديان، وسلب الحقوق اللغوية، وتقييد الحريات السياسية.
ولتنفيذ سياسة عبود لتعريب وأسلمة الجنوب تم فرض استخدام اللغة العربية، ليس فقط في المدارس، بل في مكاتب الحكومة أيضا. ومَثَّل ذلك عقبة أخرى أمام تطلعات الجنوبيين (الذين لا يجيدون العربية) في المساواة في التوظيف بالحكومة (خاصة في وزارات سيادية مثل الخارجية والدفاع)، وعدوا تلك السياسة محض "عبودية سياسية" (6).
34
وذكر بوقوو أن الحكومة قامت أولا بتخيير كل رجال الإدارة الأهلية بالجنوب بين اعتناق الإسلام أو فقدان كل سلطاتهم التقليدية. ووافق كثير منهم على اعتناق الإسلام حفاظا على سلطاتهم ونفوذهم في أوساط مواطنيهم. وأرسلت إليهم الحكومة طائرات خاصة حملتهم إلى الخرطوم حيث وجدوا ترحيبا كبيرا واحتفالات ضخمة، وقامت الإذاعة السودانية بالإعلان عن أسماء كل رجال الإدارة الأهلية في الجنوب الذين اعتنقوا الإسلام. ولعل القصد من ذلك الإعلان الإذاعي هو بعث رسالة للمجتمع الدولي بجدية الحكومة في عمليتي التعريب والأسلمة، وبعث رسالة أخرى للجنوبيين بأن قادتهم الشعبيين قد دخلوا في دين الإسلام وأن عليهم أن يحذوا حذوهم. وطلبت الإدارة في الجنوب من التجار الشماليين العاملين في مختلف المناطق حمل المصاحف معهم حيثما ذهبوا ليروه لزبائنهم من الجنوبيين. وكان ذلك من أجل “العرض” فحسب، وليس من أجل عاطفة دينية حقيقية. وقد كان أحد المفتشين قد خاطب جمعا من الجنوبيين وقال لهم: “لسنا مهتمين بصلاتكم أو صيامكم. كل ما يهمنا هو أن تدخلوا الإسلام وأن تدعوا الآخرين من أهلكم لدخوله، وأن يقوموا بتغيير ديانة أبنائهم المسيحيين للإسلام. فالمسيحية دين غريب عليكم كان ينبغي أن يذهب مع رحيل المستعمر الأوربي” (7).
الغاية – الوحدة الوطنية – نبيلة كما ترى. ولكن فهمها، ووسيلة تحقيقها، وآليات تنفيذها تخرج من تحت قبضة عسكرية ولا ترى في "الاختلاف" ثراءً وتنوعاً، وإنما تراه شذوذاً وخروجاً عن "الصف"، إذا أطلق له العنان فإنه سينشر الفوضى ويثير البلبلة والفتنة، لذا يجب قمعه وكبته، والتعامل معه بصرامة وحزم.
وهذا ما فعله عبود ونظامه ، فأسقطته شرارة ندوة كانت عن مشكلة الجنوب والحريات العامة، في جامعة الخرطوم ! (8).
تواصل بإذن الله.
آخر خبر !!
ياسر العطا: "لا توجد دولة محترمة فيها جيشين"
25 فبراير، 2023
- أولاً: وينا هي الدولة (محترمة أو غير محترمة) ؟.
- ثانياً: فيها جيشين بس؟!!.
وين قوات ناس الحركات المسلحة، و وين قوات ناس درع السودان ودرع الشمالية ودرع الوطن والنيل الأزرق وقوات شيبة في الشرق ..
وأكان للغرب داك، ما تحسب.
(الكلام دا من خطاب في عزومة عقد زواج.
بدل ما يبارك ويتوكل. عمل ليهو جلسة عمل أمنية زي عادة حكام الزمن دا .. يصرحوا بأخطر أسرر الدولة الأمنية والسياسية في صالونات وخيَّم وقعدات المناسبات الاجتماعية).
أكان سكتّوا، أنا قايل أفلح ليكم ، وأريح لينا
مصادر وهوامش
(1) عجلنا الذهبي المقدس (4): بنية المنظومة العسكرية .. وجرثومة الفشل، صحيفة سودانايل الرقمية، بتاريخ 22 فبراير, 2023.
(2) عجلنا الذهبي المقدس (3): لم يبقَ سوى الأُكسجين، بعد أن باعوا الماء !!، سودانايل (سابق)، بتاريخ 15 فبراير 2023م.
(3) وتقف تجربة حكم الرئيس جمال عبد الناصر في مصر أيضاً شاهداً على ذلك. فقد استطاع أن يحدث تغييراً اجتماعياً في مصر، استطاع عبره بمجانية التعليم والاصلاح الزراعي بتوزيع الأراضي الزراعية للفلاحين بانتزاعها من الإقطاعيين، وإقامة صناعات صغيرة ومتوسطة وتضييق الفجوة بين الفقراء والأغنياء ..الخ، أن يخلق طبقة متوسطة في مصر صارت هي رافعة المجتمع المدني، ولكنه صادر بالمقابل الحرية السياسية والرأي الآخر وفتح السجون على مصراعيها أمام الطبقة الوسطى التي ساهم في نشأتها بمجانية التعليم. للذا كان سهلاً على لسادات ومن خلفه أن كل ذلك بـ"استيكة" الانفتاح والتبعية ومحولاتهما!.
(4) حول ما ذكرناه هنا عن فترة الانقلاب الاول، راجع : "أقنعة الثورة المضادة (1)"، موقع صحيفة سودانايل الرقمية، 5 يناير، 2020.
(5) سكوباس س. بوقوو، إدارة الفريق عبود العسكرية للسودان (1958 – 1964م) وتطبيق برنامج أسلمة وتعريب جنوب السودان، عرض: بدر الدين حامد الهاشمي، موقع صحيفة سودانايل، 06-16-2015.
(6) مصدر سابق، سكوباس س. بوقوو، إدارة الفريق عبود العسكرية للسودان.
(7) نفسه، سابق.
(8) سابق، "أقنعة الثورة المضادة (1)"، موقع صحيفة سودانايل الرقمية، 5 يناير، 2020.
izzeddin9@gmail.com