عسكر السودان: أخلاق مسالمة أم خوف من الشعب؟

 


 

 

1

قد يتساءل من يراقب تطورات الساحة السودانية منذ أن انطلقت السيرورة الثورية الجارية في أواخر عام 2018 عن سبب عدم قيام المؤسسة العسكرية بسحق الانتفاضة الشعبية وسط حمّام من الدماء على غرار ما قامت به الأجهزة المسلّحة إزاء الانتفاضات الشعبية في ساحات أخرى. وقد يعتقد المراقِب أن الأمر يتعلّق بخاصية ثقافية سودانية تجعل الحكم العسكري السوداني يأبى سفك دماء أبناء الشعب وبناته.
بيد أن إمعاناً بسيطاً في مجريات الأمور كفيل بتبديد مثل هذا الوهم. فإن سجلّ الأجهزة المسلّحة السودانية حافل بالمجازر، فضلاً عن أن جزءاً منها ـ متمثلاً بميليشيات الجنجويد التي تحوّلت إلى «قوات الدعم السريع» بزعامة محمد حمدان دقلو ـ ضالعٌ في أعمال إبادة في منطقة دارفور. والحال أن السلطة العسكرية السودانية قد حاولت أن تنقضّ على الانتفاضة الشعبية في بدايتها لتردعها عن مواصلة حراكها: كان ذلك في مجزرة فضّ الاعتصام أمام مقرّ القيادة العامة للقوات المسلّحة يوم الثالث من يونيو/ حزيران 2019، وكان لعصابات دقلو الدور الأبرز في المحاولة.
ثم أن قتل المتظاهرين بات عنصراً ثابتاً في المشهد السياسي السوداني منذ تنفيذ العسكر لانقلابهم على حكومة المساومة مع المعارضة في 25 أكتوبر/ تشرين الأول من العام الماضي. فمنذ ذلك اليوم المشؤوم وحتى نهاية الشهر المنصرم، وقع ما يفوق المئة من السودانيين قتلى برصاص الأجهزة المسلّحة، علاوة على حوالي ستة آلاف من الجرحى. فلا يتحلّى قط عسكر السودان بأخلاق مسالمة، ولا تكمن أية نزعة توفيقية وراء إعلان رئيسهم عبد الفتّاح البرهان يوم الإثنين عن استعدادهم لإخلاء السبيل أمام حكومة مدنية، وكأنه يعترف بفشل انقلابه.
إن ما يحول دون تنفيذ الأجهزة المسلّحة السودانية لمجزرة على نطاق واسع، سواء أكان الأمر بصورة مستدامة مثلما جرى إزاء الانتفاضة الشعبية في سوريا، أم في واقعة واحدة رهيبة على غرار مجزرة فضّ الاعتصام في ميدان رابعة العدوية في القاهرة إثر الانقلاب الذي قاده عبد الفتّاح السيسي، إن ما يحول دون تكرار ذلك في السودان لا يتعلّق قط بنُبل أخلاق أو ما يشبه ذلك، بل في فرق عظيم بين الحالة السودانية وسائر الحالات التي شهدتها المنطقة العربية منذ انطلاق «الربيع العربي» من تونس في أواخر عام 2010، باستثناء الحالة التونسية ذاتها.
فإن النظر إلى التجارب الثورية العديدة التي باتت تتميّز بها هذه المنطقة بعد عقود طويلة من السبات السياسي في ظل أنظمة استبدادية بدا كأنها لا تتزعزع، يشير إلى مسألة جوهرية تحكم قدرة الأنظمة على استخدام البطش بلا حدود، ألا وهي ثقتها بتماسك قواتها المسلّحة. ويدخل عاملان في المعادلة، أولهما هو تركيب القوات المسلّحة وثانيهما وجود قيادة ثورية تحوز على شرعية جماهيرية. فثمة أنظمة حرصت على تركيب الأجهزة المسلّحة على أساس الانتماءات القبَلية أو الطائفية بما يضمن ولاءها للجماعة الحاكمة، على غرار ما تمّ في ليبيا وسوريا، وهذه حالة مغايرة تماماً لحالة القوات المسلّحة القائمة على تجنيد عادي، بدون أنواع التمييز المذكورة أو ما يضاهيها. أما العامل الثاني، فيتجسّد بوجود قيادة للحراك الشعبي تعترف الجماهير بشرعيتها على نطاق واسع.

القيادة العسكرية أعجز حتى الآن من أن تجازف بفقدان السيطرة على قواعدها من خلال عصيان أفرادها، والقيادة الجماهيرية أعجز حتى الآن من أن تقنع أفراد القوات المسلّحة بالتمرّد على قادتهم والانحياز إلى الثورة

فلو نظرنا في بعض الحالات الثورية التي شهدتها المنطقة لوجدنا الفروقات التالية: في تونس كان تركيب الأجهزة المسلّحة عادياً وكانت ثمة قيادة شعبية تحوز على شرعية كبيرة متمثّلة بالاتحاد العام التونسي للشغل، ففازت الثورة بالإطاحة بالجماعة الحاكمة بسهولة نسبية. وفي مصر كان تركيب الأجهزة عادياً أيضاً وكانت الثورة في عهدها الأول حائزة على قيادة ميدانية ذات شرعية عالية بحكم تحوّل ميدان التحرير في القاهرة إلى مركز للحراك. فقامت القوات المسلحة بالإطاحة بالحاكم وحاشيته المقرّبة، ثم راهنت على تعفنّ الأوضاع وتآكل القوى التي قادت المحطة الثورية الأولى حتى استولت على الحكم مجدداً وأرست عهداً جديداً من الاستبداد يفوق العهد السابق شراسة.
في الحالتين المذكورتين، تونس 2011 ومصر 2011، اضطرّت الأجهزة إلى تلبية رغبة الحراك الشعبي. واستمر الوضع على حاله في تونس حيث لا تزال القيادة الشعبية المتمثلة بالاتحاد العام قائمة، بينما تهافتت المعارضة في مصر بما أتاح للقوات المسلّحة القضاء على الحالة الثورية والارتداد عليها. وإذا شهدت تونس ردة سلطوية بزعامة قيس سعيّد مدعوماً من الأجهزة المسلّحة، فلأن الاتحاد العام سكت عنها، بل رحّب بها في البداية.
عودة إلى السودان، فإن الانتفاضة الشعبية تميّزت فيه بانبثاق قيادة شعبية ذات شرعية شعبية عظيمة، لا يضاهيها سوى الاتحاد العام التونسي من حيث الاعتراف بها وأهمية شبكتها التنظيمية الممتدة وسط الجماهير. أما القوات المسلّحة فعادية التركيب، باستثناء عصابات دقلو. فبعد أن تخلّصت القيادة العسكرية من عمر البشير على غرار ما فعلته زميلتها المصرية إزاء حسني مبارك، حاولت إرهاب الحراك الجماهيري بمحاولة فضّ اعتصام قامت بها العصابات المذكورة، لكنها خلقت حالات من التململ داخل صفوف القوات المسلّحة فرضت على هذه الأخيرة التراجع والدخول في مساومة مع قيادة الحراك الشعبي.
ولمّا ظنّ العسكر أن الحراك الشعبي بلغ حالة من التعفّن بسبب الانشقاقات التي شهدتها قيادته الأولى، قاموا بانقلابهم الثاني على غرار انقلاب السيسي، إلا أنهم سريعاً ما وجدوا أنفسهم يواجهون قيادة شعبية بديلة صعد نجمها إزاء تطوّر الأحداث، تتمثّل بلجان المقاومة. والحال أن هذه اللجان تحوز على شرعية جماهيرية كبيرة، لاسيما في أوساط الشبيبة، وقد أدركت أهمية مخاطبة صفوف القوات المسلّحة، كما بيّنه تقرير ميعاد مبارك في «القدس العربي» قبل ثلاثة أسابيع، حيث روى:
«دعت لجان مقاومة بحري، في مخاطبة في سوق كوبر، شرقي المدينة، الضباط والجنود في القوات المسلحة السودانية وكل الأجهزة النظامية للانحياز لمطالب الشعب السوداني، والتوقف عن حماية مصالح فئة قليلة من العسكر الموجودين على رأس السلطة. وقال المتحدث باسم لجان المقاومة، محمد حسن، خلال المخاطبة، إن الشارع السوداني يحترم مؤسسته العسكرية ولكنه «يرفض القادة الخمسة الذين قادوا الانقلاب وقاموا بتقويض الانتقال الديمقراطي في البلاد». وأضاف: «المؤسسة العسكرية لديها مهام محددة، ويجب أن تلتزم بمهامها من أجل استقرار البلاد».»
فإن الحالة السودانية الراهنة شبيهة بحالة الردب في لعبة الشطرنج حينما يكون الملك غير متعرّض لكش، لكن لا يستطيع التحرك بدون التعرّض لكش. فإن القيادة العسكرية أعجز حتى الآن من أن تجازف بفقدان السيطرة على قواعدها من خلال عصيان أفرادها، والقيادة الجماهيرية أعجز حتى الآن من أن تقنع أفراد القوات المسلّحة بالتمرّد على قادتهم والانحياز إلى الثورة تحقيقاً لمطلبها الأول، ألا وهو تسليم الحكم لسلطة مدنية ديمقراطية وعودة القوات المسلّحة إلى ثكناتها.

كاتب وأكاديمي من لبنان
نقلا عن القدس العربي

 

آراء