عصبية القبيلة في سجلاتنا الرسمية … بقلم: د. عبدالرحيم عبدالحليم محمد

 


 

 


abdelrmohd@hotmail.com

كانت تلك بضع أيام من العام الماضي وأنا وأسرتي نزلاء في فندق قيون الأثيوبي ، آتين من ضفاف المحيط الهادي عابرين من خلال الجارة الشقيقة إلى دفء مياه الوطن.وقد تخيرت خط السير هذا لإحساسي بأن تاريخا خاصا يحتشد داخلي ويتكون في نفسي كخلية عسل بري يربط بيني وبين هذه الجارة وأن المرور من خلال وجنتيها البنيتين هو مرور عبر تراكمات من الحزن تكونت هناك على أرصفة المدن البعيدة ، وأن رؤيتي لهذه المدينة هو إعادة لمجرى ذكريات حبيبة وحميمة ربطتني بها منذ عام 1981 عندما زرتها عريسا في زمن العمر الطازج. ثم توالت زياراتي لها عندما كان يعمل بها أخي السفير عبد المحمود ثم من بعد ذلك رحلات العمل عبر الخطوط الأثيوبية واليها أثناء عملي بالناقل الوطني للمملكة العربية السعودية لعقدين من الزمان.
فندق قيون هو نزل حكومي تديره الدولة وتنبؤك مبانيه الحجرية العتيقة بأنه كان رمزا لزمن أجمل ، رغم جهود الموظفين والعمال الحكوميين في محاولة الحفاظ على الصورة الذهنية القديمة لهذا الفندق وإبقائه مرفقا خدميا منافسا في ظل رياح الاستثمار الخارجي  الذي نراه الآن يزحف نحو طريقة الاقتصاد الحكومي وتملك الدولة لوسائله إلى طريقة منفتحة قادرة على استقراء الواقع الاقتصادي العالمي اليوم.ان فندق قيون كما رأيته أخيرا يقوم برسالة ضمن خدماته تتخطى النمط التقليدي لعمل الفنادق الى دور وطني أكثر إشراقا يتعلق بإدارة التنوع في أثيوبيا وهو تنوع يتجاوز السحنات واللغات والألحان والأديان والأزياء الى نطاق اجتماعي أرحب يتصل بطقوس الزواج وحفلاته. هناك تحت بساط العشب وعلى مسرح جميل لا عيب فيه سوى أنه طبيعي خالي من المواد الكيماوية ، يشهد الجمع حفلات الزواج الأثيوبية حيث تأتي أفواج العرائس الى البساط الأخضر  ليعلنوا بدء طقوس الالتئام المبارك وهي طقوس يجسدها الملبس الزاهي وان كان فقيرا وتجسدها العقيدة على اختلافها ويربط بينها لحن الكرار الأثيوبي ذلك الطنبور الذي يخالطه شجن لا هو فرح ولا هو حزن ولكنه يتمشى في أوصالك كتمشي البرء في السقم.
الذي عاد بي الى فندق قيون والى رحلتي الخاطفة منه الى  صدر الحبيبة عازة عند مقرن النيلين هو الإحساس بفرحة أولئك القوم بالتنوع وقدرتهم على عرضه أمام الدنيا على الطبيعة فالتنوع هناك لا يعني قبول الآخر فحسب وإنما الاحتفاء به ومن هنا يجوز القول بأن الجارة الشقيقة التي عرفت كم هو طاعم طبق الأنجيرا عرفت أيضا كم هو طاعم طبق التنوع مصداقا للقول بأن التنوع هو توابل الحياةDiversity is the spice of life. . من فندق قيون طوفت مع أسرتي على الأماكن القديمة وهناك لا أطلال تبكي عليها وإنما زهور تبكي معك أو تضحك ان شئت ومع هؤلاء الذين يرسلون لنا الخصوبة والعذوبة  من طمي هضبتهم التي يقطف الناس من على سفحها النجم . من أديس أبابا أفضل تمرين عضلاتي وحقنها بشيء من الوطن قبل الوقوف على أعتابه الطاهرة ومن ضروب هذا التمرين مثلا تحسس طعم الكسرة الأثيوبية في أول تعبير يجمع بين الحس والذوق ... وان شئت فمع عربة تاكسي هرمة تنطلق بك حسب جهدها إلى المطعم السوداني لكي تتذكر البلطي "المدغلب " ذاك على أيام مطاعمنا الجميلة  ولا عيب في فول المطعم إلا افتقاده لجبنة الدويم . هناك تتصالح مع  الهطول المفاجئ وتختبئ بأمعاء ملأى  هنا وهناك من انسكابه المبارك على خدود المدينة . تتأهب بعد زخة مطر عابر  لكي تعود أدراجك الى فندق قيون  لتحسن استثمار الدقائق في التأمل في محاسن المدينة وأحزان  الناس قبل أن تعبئ أكياسك بالبن وتحزم حقائبك مسافرا الى وطنك  و  مبتدءا طقوس عطلتك في وطن لم تره  إلا قبل سبع سنين عجاف ارتحل خلالها أحبة وأنفض سمار وتلاشت أمكنة ولم تزل الذكريات محفورة هنا وهناك في الأمكنة وعلى الطرقات وفي قسمات المارة.

كم أمرضني البعد عنك أيها الوطن العجيب ... هي ورد من أوراد النفس يأتيني كوسواس خناس كلما عانق صدر الطائرة الأثيوبية هذا الممر وهناك من علو منخفض ترى النيل في رحلته الأبدية نحو الشمال كسيف صقيل . ضابط الجوازات يقدم لي هذه المرة استمارة الوصول... يا سبحان الله ربما حق له إثبات واقعة وصولي الا الوطن لأنني كنت في حالة شبيهة بالشك بأنني وصلت فربما يكون الوطن هو الذي وصلني وأن   تلك ا الاستمارة!!. لماذا يضعون القبيلة في النموذج وما عسى صاحب الأمر أن يفعل بها كجزئية مطلوبة في النموذج ؟ لماذا لا يتعاملون مع هذه الجزئية كتعامل فندق قيون مع الزيجات من مختلف قبائل الأقليم الأفريقي؟ لماذا يريقون أحبار الإعلام من صحف وتلفاز بأغنيات للوحدة لا يطرزها نغم ممارسة صادق يتجه نحو إعمال الذكاء الوجداني المدروس  في صناعة و  إدارة وقيادة التنوع كنعمة لا مفردة مطلوبة في سجل رسمي من سجلات الدولة؟ لماذا يستخدم المدعوون في أجهزة الإعلام عبارات مثلا "قبيل’ " الإعلاميين وقبيلة الشعراء وقبيلة النجارين؟ لماذا التغني بهذه الكلمة ونحن في عصر الكيانات الكبيرة وفي وطن يكاد أن يتسرب من بيت أناملنا كالماء لأننا لم نع حقيقة أن الأعلام رسالة وعقد اجتماعي وسايكولوجي وأن من الأسباب التي تؤدي الى خرق بنوده هو عدم إحسان صناعة النسيج الثقافي عبر أغنية صادقة أو زيجة بهيجة كتلك التي ينظمها فندق قيون؟ لماذا لا ندير تخصصات لإدارة التنوع في مدارسنا وجامعاتنا بل لم لا يكون هناك مركز بحثي لفنون وأبحاث التنوع في وطن جيوبه مليئة بألوان التنوع ليس في أنواع الطير فحسب ولا أغنيات الحصاد وإنما في المياه التي جعلها اله في وطننا ما بين ماء عذب وملح أجاج؟؟؟
أيها المسئولون عليكم إزالة مفردات الشتات من سجلاتنا الرسمية  واعلموا أن التنوع هو الذي يعطي لهذا العالم الماسخ طعمه  وأن الناس على دين إعلامهم كما قال بذلك السيد الرئيس ذات مرة وكونوا كالجارة الشقيقة ..تحتفل بالتنوع وبالعديل والزين ولا تضع مفردات الشتات في سجلاتها الرسمية.

 

آراء