عفوا.. القوات المسلحة ليست صمام أمان السودان!

 


 

رشا عوض
27 April, 2024

 

رشا عوض

بما ان السودان خضع للحكم العسكري اكثر من نصف قرن، فان من الطبيعي جدا ان تستوطن ثقافة تقديس الحكم العسكري واسطرة القوات المسلحة واختزال الوطن فيها واختزال الوطنية في عبادة المؤسسة العسكرية، ولان الالة الاعلامية للاستبداد العسكري لديها قدرة فائقة على تغييب العقول وتحويل كثير من البشر الى ببغاوات عقلها في أذنيها فتردد ما يتم تلقينه لها دون ادنى تفكير، تجد في ظل الحرب القذرة الدائرة حاليا من يردد : القوات المسلحة صمام امان السودان! ( بأمارة ايه يعني!!!!) بل ويراهن على العسكر ويستنجد بهم في حسم فوضى الساسة المدنيين!

هل يعقل ان يجرؤ شخص عاقل على ترديد هذا الكلام المقرف في هذا التوقيت بالذات!! بينما الدانات ووابل الرصاص يمزق اجساد السودانيين! وبينما الطيران يدك المنازل والمصانع والمستشفيات والاسواق والجسور دكا! وبينما عصابات الدعم السريع تنهب ممتلكات الناس وتبدد محصول اعمارهم وتطردهم جماعيا من مدنهم وقراهم وتقتل وتعتقل وتعذب وتغتصب وتذل الاسرى وتوثق اذلالهم امام الكاميرات! وبينما عساكر الجيش والحركات المسلحة المتحالفة معه يسرقون وينهبون ويروعون، وبينما تفرق اكثر من عشرة مليون سوداني بين نازح ولاجئ ومتسلل بالتهريب الى مصر وغيرها بعد ان تحولت مدنهم الى مدن اشباح!! وبينما الجثث تغطي الشوارع والاحياء السكنية تتحول الى مقابر ! والفتح المبين الذي يفاخر به الجيش هو انتصاره في موقعة “ذات تحرير الطريق الى مقابر احمد شرفي” بعد مرور عام كامل على الحرب!!! اغلقوا طرق الحياة ويفاخرون بفتح الطريق الى المقابر! وكل هذه الويلات ليست في حرب ضد عدو اجنبي بل في صراع سلطة بين جناحي القوات المسلحة! مهما بلغت فوضى الساسة المدنيين فهل هناك اساس للمقارنة بين فوضاهم المزعومة هذه وبين الاقتتال بالمدفعية الثقيلة والطيران داخل الاحياء المكتظة بالسكان ووسط المستشفيات والمدارس والمصانع! معقول في الوقت الذي تتحطم فيه بلادنا وتتهاوى جدرانها حجرا حجرا في صراع عسكري عسكري (عريان) على السلطة لا يخجل البعض من لعق البوت العسكري وتلميعه بترديد اسطوانات سمجة وغبية عن ان العسكر هم الجهة المسؤولة والمؤتمنة على الوطن ومفتاح الاستقرار ويجب ان تكون وصية على المدنيين القُصَّر! بالله عليكم من القاصر الذي يستحق الحجر والوصاية؟ ومن المجرم في حق الشعب السوداني؟

هل الكارثة التي نحن فيها الان تسمح لشخص لديه الحد الادنى من الاحترام لنفسه ولعقول الاخرين ان يقول القوات المسلحة صمام امان السودان!! اين هو الامان بل اخشى ان نتساءل قريبا اين هو السودان نفسه!!

كل المآسي التي نحن فيها الان حدثت ببركات هذه القوات المسلحة المعطوبة والمأزومة التي تستهلك ثلاثة ارباع ميزانية الدولة، وللتوضيح هذه القوات تشمل الجيش والدعم السريع وهيئة عمليات جهاز الامن والاحتياطي المركزي وبالتوازي معها كتائب الكيزان ( البراء بن مالك وامثالها) ، فانا لا اشتري مطلقا اسطوانة التضليل الفاجر التي تحاول عبر منهجية “الغرس المستمر” ان ترسخ في وعي السودانيين كذبة بلقاء خلاصتها ان قوات الدعم السريع هبطت على السودان من السماء صباح السبت الموافق الخامس عشر من ابريل ٢٠٢٣ والقوات المسلحة غير مسؤولة او مساءلة عن هذه القوات تكوينا وتسليحا وتدريبا! بل القوات المسلحة هي البطل الذي يجب ان نسانده دون قيد او شرط للقضاء على الخائن الذي هبط علينا من السماء! وان هناك مسافة اخلاقية كبيرة تفصل بين القوات المسلحة وقوات الدعم السريع، كل هذا محض تضليل سياسي يعكف على ترويجه الكيزان وسدنة الحكم العسكري الذين يرغبون في تحويل هذه الحرب القذرة الى وسيلة ترفيع اخلاقي وسياسي للجيش والهدف هو رغبة هذه الجهات السياسية المشبوهة في استغلال الجيش مجددا كحصان طروادة يحملهم في طريق عودتهم الى السلطة، ولذلك يستميتون في طمس الحقائق الواضحة وضوح الشمس وعلى رأسها ان الجيش والدعم السريع وجهان لعملة الاستبداد العسكري ، يتشاركان الخوف من الديمقراطية، وقد تشاركا الانقلاب على الثورة مرتين، مرة بعد فض اعتصام القيادة العامة ومرة في انقلاب 25 اكتوبر 2021 الذي تراجع عنه الدعم السريع واستمر فيه الجيش، كما تشاركا الانتهاكات المروعة لحقوق الانسان في دارفور ، وان تاريخ الانتهاكات في السودان من قتل للمدنيين وترويع لهم لم يبدأ في حرب الخامس عشر من أبريل، وان الجنجويد لم يهبطوا من السماء بل صنعهم الجيش المسيطر عليه كيزانيا ، صنعهم خصيصا للبطش باهل دارفور وكان شريكا لهم في جرائمهم ضد سكانها وكان طيرانه غطاء لكل التجريدات الدفتردارية بقيادة مؤسس الجنجويد الاصلي موسى هلال، كما كان ذات الطيران غطاء وسندا لتجريدات قوات الدعم السريع، الحرب الدائرة حاليا لا جديد فيها على الصعيد الاجرامي ومفارقة الاخلاق! الجديد فقط هو عبقرية المكان! فقد وجد اهل الخرطوم وبحري وامدرمان ومدني أنفسهم وجها لوجه مع وحشية حروب قواتنا المسلحة الباسلة! إذ كانت حروبها على مدى عشرات السنين تدور في الجنوب ودارفور وجبال النوبة والنيل الازرق بذات الإزدراء لحياة المواطنين وبذات الاستخفاف بكرامتهم واستسهال تشريدهم واقتلاعهم من ديارهم ! وكان هناك تعتيما اعلاميا على الانتهاكات المروعة ضد مواطني الجنوب ودارفور وجنوب كردفان بل كان هناك تجريما وتخوينا لكل من يسلط الضوء على تلك الانتهاكات بواسطة نفس الآلة الاعلامية الفاجرة للكيزان التي ترفع عقيرتها الان بتخوين وتجريم الناس تحت دعاوى انهم لم يدينوا انتهاكات الدعم السريع كما يجب! في حين ان هؤلاء الفجرة كانوا ينكرون جرائم الدعم السريع ومن قبله جرائم جنجويد موسى هلال اصحاب السجل الاجرامي الابشع من الدعم السريع حين كانت تلك البنادق جميعها في خدمة سلطتهم! لم يكتفوا بالتستر على الانتهاكات وتحصين مرتكبيها بل كانوا يعاقبون من يتحدث عنها ويزجرونه ويصنفونه كجزء من مؤامرة صهيو نية وامبريالية ضد الوطن!!! (متلازمة البجاحة والوقاحة وانعدام الحياء السياسي) !!!

ما هو صمام امان السودان الحقيقي؟!

هذه الحرب تجربة قاسية وباهظة الكلفة الوطنية، ولذلك يجب ان نستخلص منها الدروس الصحيحة كي لا تكون كل خسائرنا هذه مقابل لا شيء، اهم دروس هذه الحرب هي:

أولا: صمام امان السودان هو الحكم المدني الديمقراطي الفيدرالي، فبعيدا عن اي مرافعة نظرية عن أفضلية الخيار الديمقراطي، معطيات الواقع تقول باستحالة نجاح الدكتاتورية العسكرية في السودان على بؤسها! نتيجة لغياب اهم شروطها وهو وجود مؤسسة عسكرية واحدة بقيادة واحدة لتفرض هذا الخيار البائس، حاول البرهان وحميدتي الحكم انقلابيا ففشل الانقلاب، حاول الكيزان إزاحة الدعم السريع من المشهد للتخلص من فكرة الاصلاح الامني والعسكري و لاستعادة وضعية المؤسسة العسكرية الواحدة المهيمنة ومن ثم استئناف استبدادهم العسكري فكانت النتيجة هي اندلاع هذه الحرب التي فاجأتهم بأن الامر ليس بهذه البساطة! فلا يمكن ان تشتغل على مدى ثلاثين عاما على تفريخ المليشيات وإضعاف الجيش عبر حزبنته وادلجته وافساد عقيدته القتالية ثم تتوهم انك ستعيد الامور الى ما كانت عليه في ظرف سويعات او ايام او “ازبوع إزبوعين”! هذه رغائبية طفولية اوردتنا موارد الهلاك! ولو استمرت الحرب طويلا فسوف تقود لتقسيم البلاد لا لعودة الدكتاتورية الكيزانية لكامل السودان كما يتوهمون.

ثانيا: اي مشروع سلام لا يقترن بالتحول الديمقراطي ومخاطبة جذور ازمة الدولة السودانية سيكون مجرد استراحة محاربين، كل اتفاقيات السلام في السودان ينطبق عليها ذلك، وبالتالي إذا اردنا ان تكون هذه الحرب هي آخر حروب السودان فلابد من مشروع سياسي يؤسس لانتقال تأسيسي للدولة السودانية يتجاوز صفقات تقاسم السلطة بين جنرالات الحرب.

ثالثا: رفض الحكم العسكري ونقد المؤسسة العسكرية وممارساتها مشروع بل واجب في سياق اصلاح الدولة السودانية ونقد كل مؤسساتها من خدمة مدنية ومنظومة عدلية واحزاب سياسية ومنظمات مجتمع مدني، فالنقد أفضل وسيلة بناء وهو في مصلحة الجميع، ولو تأملنا في هذا العالم سنجد ان اقوى الجيوش وأكثرها تحقيقا للانتصارات هي الجيوش الخاضعة للنقد والمساءلة والسلطة المدنية في الدول الديمقراطية بينما افشل الجيوش واكثرها عرضة للهزائم هي الجيوش الحاكمة و المحاطة بهالة من التقديس ولا يجرؤ احد على مساءلتها.

رابعا: رغم التجني على المدنيين واتهامهم زورا باشعال الحرب تظل الحقيقة الموضوعية هي ان جذر الحرب الرئيس هو رهان الكيزان على العودة الى السلطة بالقوة العسكرية، ورغبة فصيل في الجيش في الحكم العسكري ورغبة الدعم السريع كذلك في الحكم استنادا للقوة العسكرية، السباق الانقلابي على السلطة في ظل تعدد الجيوش هو ما جعل اندلاع هذه الحرب امرا حتميا، ولذلك فإن شرط تحقيق السلام المستدام في السودان هو طي صفحة الحكم العسكري ولكن السؤال: هل سيقتنع الجنرالات الذين يتجالدون على السلطة الان بالدبابات والتاتشرات والطائرات بذلك؟ كم من الوقت والدماء والدموع والدمار يحتاجون كي يلجموا اطماعهم؟

خامسا واخيرا :

تحت وطأة هذا الزلزال الذي اصاب بلادنا يجب ان نضبط بوصلتنا الفكرية والسياسية والاخلاقية في اتجاه الضفة الصحيحة من التاريخ(الدولة المدنية الديمقراطية ذات المؤسسة العسكرية والامنية الخاضعة لامرة الحكومة المنتخبة انتخابا حرا ونزيها، دولة التنمية المتوازنة والعدالة الاجتماعية والحريات، دولة المساواة في حقوق المواطنة ونبذ العنصرية، دولة المصالحة الوطنية على اساس الحقيقة والعدالة الانتقالية، وفي سياقنا السوداني يتطلب ذلك إعادة بناء الجيش والامن والشرطة على اسس جديدة ضمن مشروع ديمقراطي متوافق عليه وطنيا لاعادة بناء الدولة ككل )، ضبط البوصلة في هذا الاتجاه في حد ذاته قيمة وطنية مضافة واستثمار مستقبلي مقدس ومصدر إلهام للأجيال، بمعنى اخر بذور صالحة لا بد من الحرص على اكتنازها في الوعي والذاكرة الوطنية الى ان تتهيأ الظروف لانباتها نباتا حسنا وحصاد ثمارها، نحن لا نعرف متى وكيف ستنتهي هذه الحرب، ولا نعرف شكل النظام الذي سيعقبها ، ولا تفاصيل مشروع السلام الذي ستتوقف بموجبه واقعيا ، كما لا نعرف على نحو كامل ومفصل ما تخطط له الايدي الخفية الخارجية النافذة في هندسة الاوضاع الاقليمية في منطقتنا تبعا لتعقيدات دولية كثيفة، فضلا عن المؤامرات الاقليمية صغيرها وكبيرها في محيطنا المعادي للديمقراطية، فدايناميات الحرب في الميدان العسكري وفي مطابخ السياسة الدولية والاقليمية ليست فقط خارج سيطرتنا نحن كدعاة سلام وتحول ديمقراطي، بل ان بعضها خارج سيطرة اطراف القتال انفسهم، واجبنا هو تقوية الاصطفاف المدني الديمقراطي والمثابرة على جعله عاملا فاعلا ومتفاعلا بوعي ووطنية ومؤثرا في الدفع باتجاه “الضفة الصحيحة من التاريخ” مهما بدت بعيدة .

 

آراء