بعيدا عن الاسلوب الفضائحي الذي ادمنته الوسائط الاجتماعية واحترفه أصحاب العقول المسيسة، فقد حاولت في كتابي (المدينة الأثمة)، المزمع صدوره شهر ديسمبر، اتباع منهجية تقر بأن هنالك مشكلة تتعلق بفهمنا للجنسانية وتعاطينا للجنس (فالنساء يتحرشن كما الرجال)، لا تقتصر علي تنظيم أو جماعة معينة، إنما تشمل جميع أفراد المجتمع السوداني، ولو بدرجات متفاوتة. قد يحلو للبعض أن يرمي "الآخر" بدائه وينسل، لكن العلة تظل باقية ولابد من التعامل معها يوما بطريقة عقلانية ومنهجية. احسب انني خطوة خطوة في هذا الاتجاه. إليك عزيزي القارئ قدمة الكتاب:
في هذه المدينة التي عانت من صلف الطغاة، وما زالت تجأر تحت وطأة الاستبداد، يخوض المرء معتركاً صعباً، لا يلبث أن يكون الضمير أول ضحاياه (حرية الضمير، الفصل السادس). لا ترجو مثل هذه الأنظمة من الشخص أن يكون مبدعاً ومبتكراً، إنما تتطلّب منه أن يكون موقناً وممتثلاً. موقناً بأن الخلاص الأخروي لا يتحقّق إلا إذا ضحى المرء بكل أمانيه وأشواقه في الحياة وممتثلاً لأمر السلطان – الذي ومن عجب – يرى أنَ فئةً من الناّس خاصّة خلقت لنيل الحقوق والتمتع بمباهج الحياة، بالتحديد هو وذويه من المتخمين الولهين.
وإذا كان الإنسان يستمدّ قيمته من التضامن مع الآخرين، فإن فرديته تتأثر سلباً بالانعزال والانسحاب إلى فضاء خاص يجد فيه فرصة لممارسة حريته، لكنه نوعاً من الحرية لا يمنحه فرصة للتسامي ولا يسهم في انعتاقه من أسوار المدينة، إنّما الانغماس في أكثر أنشطتها إثماً، والتبجُّح بأكثر ألفاظها بذاءة (المدينة الآثمة، الفصل الأول).
فالجنس الذي من المفترض أن يكون حيلة الإنسان إلى الامتاع والمؤانسة يصبح أداته للتشفي من ذاته والانتقام من الآخرين. وإذا كان العنف مختزناً في الذاكرة الجمعية (الجنس عند السودانيين: نزوة أم غزوة، الفصل الثالث)، فإن ثمة آليات اجتماعية واقتصادية وسياسية – لابُدّ من الكشف عنها – ظلّت بوعي أو من دون وعي تسعى لتفعيل هذه الذاكرة حتى استحال الفضاء العمومي إلى مسرحٍ للموت والحقد والكراهية (ثقافة الموت والحقد والكراهية: الجنس محفِّزاً، الفصل الثاني). وفي كُلِّ مرّة يكون الضعفاء خاصّة، من أطفال ونساء، هم الضحية.
وإذ شارفت مجتمعاتنا حافة الانهيار أو كادت أن تنهار بالكامل، فلم يعد من الممكن الاستمرار في التمثيل أو القبول بمحاولات الإصلاح التلفيقية أو الترقيعية. لا بُدّ إذن من محاولة إصلاح جادة ترمي لتفكيك تاريخنا السياسي والاجتماعي، ومن ثم تعمل بصورة منهجية علمية؛ الأهم أن يكون الإجراء مؤسسياً وديمقراطياً يضمن تفاعل كافة المعنين، يرصد أسباب تقهقرهم عن مسيرة التنمية وتأخرهم عن ركب الحضارة، ويروم إعادة التوازن للمجتمعات من خلال التصميم الخلاق لسياسات (الحوكمة وقضايا الأسرة، الفصل السابع)، واتِّخاذ كافة التدابير لتنفيذها وضمان استدامتها.
وإذ ظللنا نكابر ونعاند بل نتّخذ من التدابير المؤسسية ما يضمن دونية المرأة، ونغفل تلك البنيوية المتمثلة في الثقافة واللغة، فقد تسبّبنا في تخلُّف مجتمعاتنا وحرمناها من مستودع ذاخر بالعبقرية ومُفعمٍ بالأريحية (الجميلات هنّ الجميلات، الفصل الخامس). يجب أنْ نوقن بأنَّ رفعة المرأة وارتقائها بالأسلوب الذي يتّسق مع ذاتها وكينونتها يعتبر ضماناً لنهضتنا وبعثاً لحضارتنا (الإفريقية والعربية والإسلامية والمسيحية النوبية)، التي طالما نشدت توازناً بين الجسد والروح (براعة الجسد ومهارة الروح، الفصل الرابع)، قعدت به دواعي التقليدانية وأراجيف المحافظة، قبل أن تهزأ به رياح الحضارة الغربية، الزائف منها والراجح.
بعيداً عن الحماسة، فإنّ هذا التوازن من شأنه أنْ يحقِّق للفرد ذاتية طالما كانت ضرورية لتعزيز الروح الجماعية اللازمة والمطلوبة لمحاربة "المنطق السكوتي الثابت" على حدِّ تعبير المهدي المنجرة (قيمة القيم، 2008)،الذي يُكبّل المجتمعات ويحول دون تصوّرها لهيكل مغاير وبنيان عماده العدالة الاجتماعية، الحُرّية، التنوُّع الثقافي، العزّة والكرامة الإنسانية.
(هذه المقالات موجودة في مكتبة سودانيل وقد عمدت الي تجميعها كي اخفف العناء الي القارئ)
auwaab@gmail.com