كيف لا
محال أن يكون هذا السودان بأربع جهات فقط : شرق وغرب ، جنوب وشمال ، فلا بد أن هناك جهة غير معلومة لم تثبتها الجغرافيا بعد ،كبقعة ملعونة أو كجزيرة "غوري" تأتي منها ضربات الشيطان تحدث وصمة العار على جبين البشرية ،أو منطقة خفية طُمرت وآلت إلى ما آلت إليه "أطلانطيس".ومحال أن يفرّ الذهن إلى غير التفكير في أزمات البلاد كما لا يمكن الفرار من فتاوى علماء الداخل والخارج التي ما تركت قضية إلا وأفتت فيها غير هيّابة ولا مبالية إن كان مالك في المدينة أم لا.
هناك عقل في الجنون كما قال شكسبير . عقل يصدّعك بأن تكف عن التفكير ، أو أن تكفّ عن الأمل بأن السودان ماضٍ إلى خير ، هذا لو كنت مواطناً عادياً.وعقل يمسك بيدك على ألا تكتب حرفاً أو تقول كلمة إذا كنت مهتماً بمناقشة قضايا البلد مع بقية أبنائه الآخرين . وعقل يقول لك لو كنت سياسياً وبطرف يدك قبضة من الحكم وجاه السلطان فحدّث بلسان مبين ونفّذ غير ما تقول بيد خفية .
محال أن يحدث كل هذا في بلد ليس فيه سوى أربع جهات فقط كما تقول الجغرافيا . بلد نأمل أن يكون لنا فيه كل شيء ثم لا نجد شيئاً غير ثمن الريح التي لم نقبض منه غير هذه التي تثير بعض الغبار، وعوضاً عن ذلك لا تفعل هذه الريح غير أن تنقل الغبار من بقعة إلى أخرى .
كدنا نصدق أنّ هذا البلد من أربع جهات فقط تتحول تدريجياً إلى الديمقراطية ، فعزمنا على ممارسة حقنا فيه ودوّنا أسماءنا للمرة الأولى ، وأدمينا بلا رحمة تجاويف هذا الكائن المأمول ، وليتفرق بعدها من هتفوا بالحرية والديمقراطية سائرين فوق أشواك الخوف لا يروا غير النهايات التعيسة التي تراءت أمامهم ، تكمن بداخلها صور شهداء الحريات على مرّ العقود .
قطعت السلطة سير نمو ومحاولات الوصول إلى هامش من الحرية ومنعت عن حبله السري أكسجين الحياة ولم يزل المواطن بعد معصوب القلب والعينين . ما رُوي وأثبت في أكثر من مصدر يقول أن منفذو قمع التظاهرة السلمية ، قاموا بتنفيذ القانون على طريقتهم الخاصة . وبالرغم من أنّ هذا الحديث أريد به أن يرفع اللوم عن السلطة بتصديها للمظاهرة ، إلا أنّه يدين الحكومة أكثر مما يرفع اللوم عنها. يدينها حينما نرى أجهزة الدولة تتقلص على كثرتها وسعتها ، وحينما تصبح واجهتها ومنفذة قوانينها مثل هؤلاء . ما قيل هو أنّ منفذي القمع قاموا بشخصنة القضية لأنهم كانوا يثأروا لكرامتهم لأنّ قيادات سياسية تقدمت المظاهرة السلمية رفضت الخضوع لتعليماتهم. فإذا ثأر لكرامته فمن يا ترى يثأر لكرامة شعب أو كرامة من قُمعوا . وإذا كذب المشهد فالسلطة الحاكمة في مأزق كموج من حميم.
تحولنا الديمقراطي يمشي بساق مبتورة في هذا البلد ذو الأكثر من أربع جهات ، شرقه صفقات تحت الهجير ، وفي غربه عرق الجلادين ما زال يتصبب على ظهور الضعفاء هناك ، والشمال يدخل معركة حاسمة أو خاسرة ، أما البقية فيخرج من جراحاته ليعود إلى أخرى يمسك أسنة أقلامها المسمومة الكتبة العنصريون . ومن البقعة غير المعلومة تأتي أرواح منهكة تسعى من منفى إلى منفى ، فهل بقي في هذا البلد موقع قدم أو شيء يستحق أن يُرى .
(عن صحيفة الخرطوم)
moaney15@yahoo.com
///////