عندما ينطق التاريخ … ذكريات وزير (4)

 


 

 




mohamed@badawi.de

نلت إجازة الترجمة من كلية غرودن وتم تعييني في الحكومة مترجما، أنا ومعي الزميلين سيد أحمد حميدة وعباس التجاني. وعندما علم أخي الشيخ بالأمر ذهب من فوره ليزف ريح الخبر الميون إلى والدي لكي يسترد روحه وكأنه يحمل في يديه قميص يوسف. وأعلم والدي بالأمر فانبسطت أسارير وجهه وكاد فؤاده المؤمن أن يطير من الفرحة – كما أخبري شقيقي من بعد. رفع يديه إلى السماء شاكرا حامدا على هذه النعمة. بيد أن شقيقي الشيخ باغته بأمر أسكت أجراس الفرحة بدخيلته هنيهة. إذ طلب منه أن يذهب إلى مديرية التعيين ليتحدث مع المدير، مستر جلدر. كان مستر جلدر مدير مديرية كردفان. أذعن أبي لرجاء شقيقي الشيخ وذهب لمقابلته مسترحماً متوسلا:
- يا سعادة المدير أنا رجل مزارع وهاهوذا ابني بدوي قد أكمل تعليمه بالكلية وأنا أقف أمامك راجيا أن تنقله بجانبك إلى مديرية كردفان.
ما كان من مستر جلدر إلا أن نزل عن رغبة والدي فكتب على الفور رسالة للسكرتارية المدنية (Civil Secretary) بالخرطوم: "سادتي الكرام، حقيقة إنني أبغض المبتدئين، لكن لا بأس أن أجرب أحدهم، لذا فأنا لا أبالي أن آخذ منهم بدوي مصطفى في هذه البلد."
فاستجابت السكرتارية المدينة لطلبه وعيِّنت معه من بداية السنة لغاية شهر نوفمبر من عام ١٩٣١.
بعد ذلك أتاني أمر تحويل طارئ بسبب ابن دفعتي أمين إدريس الذي كان أهله من أعيان النهود. طلب والده من مستر ماير مفتش النهود أن ينقله بجانبه بدلا من السكة الحديد - كما فعل والدي من قبل عندما طلب تحويلي لمديرية كردفان.
فكتب مستر ماير بدوره رسالة للسكرتارية المدنية قائلا: "الرجاء تحويل أمين إدريس لي."
ردت عليه السكرتارية المدنية بالموافقة: "يمكن أن تأخذ في مكانه بالسكة الحديد بدوي مصطفى، سيد أحمد حميدة وعباس التجاني."
فقرروا أن يأخذوننا لنشغر مكان عمله المبغوض بالسكة الحديد. فوقع هذا الخبر من قلبي موقع الصاعقة لأنني كنت أعرف طبيعة العمل بها إذ عمل بها شقيقي الشيخ من قبل وذاق بها من الويلات ألوانا. فطرت كالبراق هاما بإخبار شقيقي الشيخ بالأمر لنجد بأسرع مما يمكن حلّاً لهذه الكارثة. فاهتم شقيقي الشيخ للإمر أيما اهتمام وأرسل لتوه برقية لصديق له يدعى إمام إبراهيم بالخرطوم. كان إمام يعمل موظفا بوزارة المالية وكان يحظى بقدر عظيم من التقدير والإجلال من قبل الإنجليز. طلب منه الذهاب إلى السكرتارية المدنية لاستخراج ملفي منها وتذكيرهم أن مدير كردفان المستر جلدر قد طلبني للعمل معه في برقية سابقة. وأنجز إمام إبراهيم المهمة على أحسن وجه. فأرسلت السكرتارية المدنية برقية تعقيب فيها: "تحويل بدوي مصطفى ملغي وأن يمنح درجة عليا إلى حين وصول إشعار آخر".
غضب المستر ماير عندما قرأ البرقية غضبا شديداً وأوجس في نفسه أنني دبرت هذه الحيلة من وراء ظهره شرّ تدبير. وصاح في وجهي لحظتذاك غاضبا مزمجراً:
- أنا سوف أنقلك إلى الجنوب لتقعد ١٠ أو ١٥ سنة هناك. وأنا لا أكترث لذلك!
لحسن حظي، أخرجني من هذا المأزق صديقي حسين محمد أحمد عندما تجرأ كواسطة خير لدى الباشكاتب. طلب منه أن ينقلني إلى رشاد لتفادي الاصطدامات والمشاكل. وتمت الموافقة فنقلت إلى رشاد وعملت بها إلى أن آذن الله بأن أنقل إلى وزارة المالية بالخرطوم لسد الأماكن التي كان يشغرها الشوام الذين صاروا على وشك الانتهاء من خدمتهم بالسودان. وكان وقتئذ يعين حتى طلبة السنة الرابعة من كلية غردون لإكمال النقص الذي خلفه الموظفين من أهل الشام. على كل جاءت برقية من المالية تقول: "حسين محمد أحمد لا يحسن الحفاظ على مال السودان. الرجاء ارسال بدوي مصطفى بدله". تعجبت للأمر إذ كان صديقي حسين من خيرة الناس لكنني انصعت لرغبة التعيين وانتقلت إلى الخرطوم التي صارت فيما بعد مسقط رأسي.
عملت بالمالية من سنة ١٩٣٢ إلى سنة ١٩٤٣ وبعدها ضقت ذرعا بالخدمة في الدواوين الحكومية تحت رحمة المستعمر. ولم أرد الاستقالة بمحض إرادتي؛ لأن الموظف الذي يستقيل بإرادته لا يعطى مكافأة إنهاء الخدمة فيخرج من المولد بلا حمص. فما كنت أملك من حيلة إلا أن أتمارضت على الإنجليز بداء الشقيقة والصداع الحاد وكنت في دأب دائم بين الوزارة ودار الشفاء بعلة المرض. وعندما تكاثر غيابي من العمل طلب مدير المستشفى ذات يوم مقابلتي للبت في قضيه تخلفي عن الخدمة بسبب الصداع، فأومأ إلى ذات يوم محذرا:
- بدوي مصطفى إذا استمريت على حالك هذه في التغيب عن العمل فأنا مضطر أن أكتب عنك شهادة بأنك "غير صالح للعمل" (invalid). فقلت له بقلبي: "ما هو ده الأنا دايرو". فكتب لي الشهادة وكانت فرحتي بها عظيمة إذ أوزعتني أن أطوى صفحات بؤس وضيم نغصت عليّ حياتي. على كل حال حزت بالمكافأة التي بلغت حينذاك ٢٣٦ جنيها وكنت خليقا أن أبدأ بها مشورا جديدا من حياتي. كانت تلك آخر أيامي بالدوائر الحكومية فهجرتها غير آسف ولا نادم، وبدأ مشوار الأعمال الحرّة والمغامرات الطويلة على قدم وساق.

////////////////////////

 

آراء