عن الأغلبيّة الصامتة: “أولاد صعاليك وبنات مطلوقات” 

 


 

مأمون التلب
26 December, 2021

 

(1)

بدأت هذه "الأغلبيّة" خروجها من جذورٍ متعمّقةٍ في فئات معتبرة من "الشعب السوداني الحاكم" عشيّة انتصار الثورة الأوّل بإزاحة الدكتاتور عمر البشير. إبّان اعتصام القيادة بدأت أصواتهم تترنّح واصفةً الثائرات والثوار بأشدّ ما يملكونه من "سلطة الأخلاق العامّة"، وصولاً لتبيّنها ظاهرةً في فلم "خفافيش الظلام" الذي عُرض في شاشة "التلفزيون القومي"، في تناغمٍ تام مع الخطّة المدروسة الذاهبة في طريقها لفضّ الاعتصام.

"ديل أولاد صعاليك وبنات مطلوقات ما بيمثّلوا الشعب السوداني"، تخرجُ جملة كهذه من فاه قائدٍ مُسلَّح، مهمّته قتل شعبه وليس الدفاع عنه، شانت تاريخه الجثث المبعثرة في أرجاء البلاد، والأقدام الراكضة للنساء والأطفال بحثاً عن معسكرِ لجوء.


(2)

مع محبّتي العميقة لكلمتي "صعلوك" و"مطلوقة"، إذ لم يحدث خيرٌ وتغييرٌ إلى الأفضل دون إسهامٍ جذريّ لهاتين الكلمتين، ولكن فقط لمسايرة الجدل فلنضعهما في الناحية السلبيّة من الأخلاق، والمقياس هنا هي "أخلاق الأغلبيّة الصامتة".

بمقابل الصعلكة والانطلاقة، فهذه الأغلبيّة لم تصمت أبداً، ومنذ بدايات السودان، ولكن لأن نضالات الشابات والشباب أخرستهم، وأوقفت ألسنتهم السفيهة عن الخوض في أخلاق الناس والتدخّل في حياتهم عنوةً وبالقوانين. عندما شعروا بالإخراس، لأول مرة، أسموا أنفسهم "أغلبيّة صامتة". نسمعهم يعبّرون عن ذلك في القنوات الفضائيّة، وفي وسائل التواصل الاجتماعي وغيرها، لا همّ لهم سوى "ما الذي تفعله المرأة"! ومن هم هؤلاء اللذين لم نرهم في حياتنا؟ يقول أحدهم في فيديو عن اعتصام الموز: "هذه هي الوجوه السودانيّة النيّرة التي نعرفها، لقد غيّبها الصعاليك عن المشهد، أولاد بيتعاطوا مخدّرات وبنات حالقين شعورهن صِلَع".


(3)

"الأغلبيّة الصامتة" ليست من فئة الكيزان فقط، إنها طبقة ممتدّة ومستفيدة من هذه السلطات مجتمعة (الدينيّة والأبويّة والذكوريّة..إلخ)، وانخراطها بها في البزنس باحتياز أكبر قدرٍ من المال السَهل الفاسد، والنساء الخانعات لهكذا سلطات. ثمّ أن انفلات المرأة من هذه السلطات لهو أشدّ خطراً من كلّ شيء، لهذا نجد أن السلطة التي تُمثّلهم -العسكريّة- بامتياز، تستخدم سلاح الاغتصاب بكلّ سهولة. هذه الأهوال، وغيرها من الحروب، في مقابل "صعاليك" و"مطلوقات"؟ بهذه الكلمات من فم القائد، تفتح الدرب سالكاً للجنديّ بأن يقتل ويغتصب أجمل بنات وأبناء بلادنا؟!

هذه الكلمات الحربيَّة تذوب وتتفكك في بحيرة دماءٍ يسفكها "الأخلاقيّون".


(4)

هذه الأغلبيّة صمتت فعلاً عن القتل والاغتصاب والتشريد والنزوح طوال تاريخ السودان، يصرخون عندما تنحاز الحياة نحو الحريّة. في تاريخنا الحديث كان لهم حدثٌ وثّقته وكالات العالم في العام 1983م، يصفها شاهد عيّان وفنان عظيم، الأستاذ عبد الله محمد الطيب، في مقالٍ له قيد النشر*، كتب فيه:

"ضمن ما أصاب الخرطوم وباقي مدن السودان في مقتل، اغتال كل ما يَتَنفَّس فيها من حيوية، عافية وجمال، كانت سيئة الذكر (قوانين سبتمبر). الحصينة بإرهابٍ وضجيجٍ غوغائيّ صاحب صدورها، وما زال يُهَدِّد كل من يجرؤ على مقاربتها؛ سَدَّ المنافذ على كلّ محاولةٍ للنظر إليها نقدياً، وتقييم مساهمتها في ترييف المدينة، ومنحها كل هذا القبح.

في سبتمبر 1983م أصدر الجنرال جعفر نميري -وقد أصبح إماماً وخليفةً للمسلمين، بل ومُجَدِّد القرن كما وَصَفَه حسن الترابي (مستشار رئيس الجمهورية، ولاحقاً النائب العام)، وفحوى اللقب أنه، وفي كلّ مائة عام، يظهر من يُجَدِّد الدين ويعيد له شبابه، وأن المائة الأخيرة كانت من نصيب سعيد الحظ جعفر نميري- أصدر المُجَدِّد قراره بتطبيق الشريعة الإسلامية في بلاد السودان.

أعقب قراره –مباشرةً- هجومُ العشرات -هؤلاء الذين يُجيد الأخوان المتأسلمين بوسائلهم الشيطانية حشدهم- يتقدّمهم مجدد القرن شخصياً، وكتائبه الأمنية وشرطته، على البارات، حيث انهالوا على زجاجات الخمر تحطيماً، رموها في النيل وسط احتفالات وضجيج غوغائيّ، مُفتَتِحَاً عصراً من الغوغائية والانحطاط، وبضربةٍ واحدة رَجَعَ بالبلاد مائة عام إلى الوراء، ما حادَت بعدَه عن السير في الاتجاه الذي رَسَمَهُ لَها.

طالت بعدها الأحكام الحَدِّية بالقطع من خلاف، الصلب، الجلد و.... إلخ؛ أجساد الفقراء، وتطرَّفَت لاحقاً إلى غرز المسامير في الرأس! والخوزقة! وجرائم وبشاعات لا تُحصَى في بيوت الأشباح.

بسبب سرقة بضعة جنيهات لسدّ الرمق، بُتِرَت أطراف العديدين، بينما كانت تتهيأ للطفيليين من الإسلاميين وأشباههم –ممن أبتلينا بهم الآن- نهب موارد البلاد. كانت السرقة والنهب الطفيلي تُعلِن عن نفسها في مجمعات سكنية، شركات، وبنايات شاهقة. يصنعون بيوتهم ومكاتبهم وواجهاتهم الاستثمارية على شاكلة ذائقتهم الجمالية المُعاقة، ووجدانهم المشوه.

كانت الخرطوم تتهيَّأ لتتصدَّر قائمة المدن الأكثر قبحاً.

"الشروع في الزنا"، "الزي الفاضح" وسيل من التّهم الجزافية صُمِّمت خصيصاً لقهر النساء. يبثها التلفريون في توقيت معلوم، دون أن ينسى ذكر اسم الفتاة الرباعي؛ مكان عملها أو دراستها وسكنها، وتنشرها الصحف في تشهيرٍ واغتيالٍ معنويّ لا يمت للأخلاق ولا الإنسانية بصلة.

بسبب اضطراباتهم النفسية وهوسهم الجنسي، لن يخطر ببالهم سوى الشيطان حاضراً أيّ لقاءٍ في أيّ مكانٍ وزمانٍ بين رجلٍ وامرأة. ودخلت قاموسنا اللغوي -لأول مرة- المفردة الهمجيَّة (الكشَّة!)، تستهدف نساء ورجال الطبقات الفقيرة من الباعة، السابلة والمتشردين.

والضجيج الغوغائي الغبي لا يتوقف، يأتي من جميع الاتجاهات، التلفزيون، الإذاعة، الصحف ومكبرات الصوت المرتفعة، بصورة لا إنسانية، من المساجد، الزوايا والأسواق.

أعتقد أن لهذا الحدث الخطير أبعاداً أكبر بكثير من مجرد محاربة "الرجس والخمور" (ابتغاء مرضاة الله) كما ظلّ يردد إعلام الإسلاميين بإلحاح، وبصورةٍ تُطَابِق تقنية غسيل المخ كما تمارسها الشركات التجارية في الإعلان عن منتجاتها التي لا يحتاجها أحد، إلا أن تكرار الإعلان، وإلحاحه، يتكفَّل بخلق هذا الاحتياج؛ إذ يُعَطِّل ملكة التفكير والنقد". انتهى


(5)

ثورة ديسمبر، بإطالتهم عمرها، تذهب فعلاً في اتجاه تغيير اجتماعيّ وفكريّ يتعاظم، وهذه الفئة المختلّة، "الأغلبيّة الصامتة"، ستُقتلع من جذورها، إذ ستصبح "أخلاقها" وصمة عارٍ على جسد تاريخنا المعاصر.

أريدُ، قبل الختام، أن أُشير إلى الوعي الكامل للثوار بما يعتمل أمراض مزمنة في قلب دولتنا السودانيّة. عليَّ أن أُشير، كذلك، إلى أنني لا أؤمن بالكيان المُسمَّى "دولة" أصلاً، ولا بالحدود، أو ما يُسمَّى بالسيادة الوطنية، إنني أؤمن أن مسار الثورة السودانيَّة يتلاقى مع مسار بقيَّة الثورات في عالمنا المعاصر، وهي ثورة جيل كوني، وجد نفسه متّصلاً بالعالم بأجمعه، بينما نحن عشنا الفُرقة وشتات البشريَّة. إن إدراك الديسمبريون لمقام ثورتهم في هذا الإرث العالمي سيكون مقدّمةً هائلة لما يُمكن أن نُسميه ثورة شاملة حقّاً. فمن الواضح، الجلي، أن ما اصطلح على تسميته بـ"إرادة الشعوب" قد أُلغي من مسار التاريخ منذ أن أصبح العالم ذو قطبٍ واحدٍ رأسمالي، وأن ثورة السودان الآن ما هي إلا التلويحة الأخيرة للإنسانيّة قبل غرقها. ولكن هل ستغرق؟ لن ندري ذلك أبداً. ما نراه هو استبسالٌ لشعوب النيل في إيقاف هذا التباهي الأخرق بأن العالم يحرّكه المال فقط، ما نراه بأن شعوب النيل وصحرائه تتضافر لأجل قِيَمٍ أخيرةٍ وسامية، حُرمت منها الشعوب الفقيرة، وهي الحريّة والسلام والعدالة، بهذه البساطة.

بعد أن طرحت الكاتبة الروائيّة المؤثّرة، استيلا غايتانو، خطابها الأخير حول احتفالات الكريسماس التي تقفز حتّى الثورة عليها، إذ يصادف ميلاد السيد المسيح انبعاثاً قويّاً لروح البشر، فقد أصدرت لجان مقاومة الخرطوم شرق بياناً جميلاً وسياسيّاً يطرح الأسئلة الملحّة لأهل السودان في مقابل ما تطالب به "الأقليّة الصامتة"، فبتاريخ 24 ديسمبر 2021، صدرت التهنئة بميلاد السيّد المسيح، أقتبس منها وأنهي بها كلمتي:

"أعظم قيمة عملت دكتاتوريّة الإنقاذ على دفنها هي قيمة التعايش المجتمعي السلمي، حتّى أضحت قيم السودانيين الفاضلة جريمة في دستور النظام، إلا أن لثورة ديسمبر المجيدة الدور الفاعل في انبعاث هذه القيم، من جديد، لتتوشّح الإنسان السوداني مقالاً وفعلاً، فلا حرب باسم الدين، ولا متجارة بكتب الله السماويّة، ولا تفضيل لأولٍ على آخر. حيث أن سمة دولتنا المنشودة، ووطننا الذي نعمل لأجله، هي دولة المواطنة الحقَّة التي يتساوى فيها الشعب في الحقوق والواجبات، دون تمييز على أساس الهويات دون الوطنيّة (كالدين والعرق واللون والشكل والقبيلة والطائفة)، وتلك عهود اقتربت نهايتها بفضل نضالنا الشعبي السلمي، الذي تتجسَّد فيه القيم التي نطمح لها".

 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* بعنوان: "استعادة المدينة".




eltlib@gmail.com

 

آراء