عن الجماجم التي راكمها أوباش الإبادات الجماعية تحت تراب الأرض الطيبة .. أحكي لكم

 


 

عمر الحويج
5 March, 2023

 

(الجماجم التي صارت في واحد)
قصة قصيرة
من مجموعتي القصصية ( إليكم أعود وفي كفي القمر) الصادرة عن دار عزة للنشر - عام 2009م
***
لا أحد يدري ، إن كان ذلك بفعل البرد القارس ، أو كان ذلك بفعل انعدام المأوى : أياً كان الأمر ، فقد اندسّ ثلاثتهم ، تحت عجلات الشاحنة الضخمة .
في اليوم التالي ، كان ثلاثتهم ، عنواناً - وإن لم يكن منزوياً كثيراً - في صحف الصباح .. ما حدث بعد ذلك لم تُشِر إليه الصحف ، في حينه .. لكنه وصل أسماع الناس .. كل الناس في ما بعد :
الجماجم التي كانت ثلاثاً صارت في واحد .. الجماجم التي صارت في واحد ، تقود الشاحنة .. الجماجم التي تقود الشاحنة تتحدث :
أنا .. تأكيداً ، قد وصلت إلى هنا ، في ذات اليوم الذي صرنا فيه جماجم في ذلك اليوم .. لم تكن هنالك بداية . هنالك .. فقط تلك الليلة ، الظلام ..تلك الليلة ، غير المقمرة : ساعدناهن ، على التسلل خلسة .. من وراء ظهر الآخرين . هنّ كذلك .. لم يبخلن علينا ، أعطيننا .. من الفرح ، الكثير .. ولكن الفرح لم يكتمل :
في تلك الليلة الظلام .. تلك الليلة غير المقمرة ، جاءتنا ، تلك التي يخشاها الجميع ، يخافها الجميع .. يموت فيها الجميع . جاءتنا هذه المرة ، ليس ككل المرات ، جاءتنا هذه المرة .. من فوق وليس من .. تحت.. لا نحن ، ولا الآخرون ، لنا سابق علم ، بأنها قد تأتي يوماً من فوق ، لذلك حسبناها ، لوهلة .. "صوت الرعد العابر"، من ذلك الذي تآلفت معه .. أسماعنا ،وواصلنا فرحنا إلى حين .
توقف ، فينا الفرح :
حين اكتشفنا .. أن البعض منا .. تفحم جسده .
حين اكتشفنا .. أن البعض منا تطايرت أطرافه .
حين اكتشفنا .. إن البعض منا .. صار بدون فرح .
اندفعنا .. وجهة مساكننا : لم نجدها .. مساكننا !! . ولم نجد أهلنا فيها : لا فوقها .. لا تحتها .. لا خلفها : حين نقَّبْنا في ما تبقى من أثر .. لم نجد غير الرماد ، وقبض الريح ، و .. تبعثرنا شتاتاً . فقط رفيقتي، التي ساعدتها على التسلل خلسة .. كانت معي ، وحتى هي .. فقدتها بعد حين .. أصابتها حمى قاتلة: تركتها.. حتى قبل أن يكتمل موتها.. بدراً . ربما لهذا .. هي ، والذين تفحمت أجسادهم ، والذين تطايرت أطرافهم .. والذين صاروا بدون فرح .. هنا الآن .. مع الـ... والجماجم التي كانت ثلاثاً ، صارت لا تحصى .. والجماجم التي لا تحصى صارت في واحد . والجماجم التي صارت في واحد ، تقود الشاحنة ، والجماجم التي تقود الشاحنة .. تردِّد مع المغني ، الذي لم يأت بعد :
هو.. ها.. يا هوو.. ها
العروس عايزة عريس
والعريس عند السلطان
والسلطان عايز.. دماء
والدماء.. عند الساحات
والساحات عايزة.. مطر
يا مطر.. يا مطر.. يا مطر
.. المغنّي الذي لم يأت بعد.. يتحدّث:
هو .. لا يعرف ، هذا الرجل ،الذي وصل .. في ذات اليوم الذي فيه .. صاروا ، جماجم .. لا يعرف .. رفيقته التي كانت معه .. رفيقته ، التي ساعدها على التسلل خلسة ، رفيقته تلك : لم تمت من الحمى .. حتى أنه لم يتركها ، قبل أن يكتمل موتها بدراً .. كما ادَّعَى .
رفيقته ماتت .. نعم . ولكنها ، لو تعلمون .. لو يعلم ، ماتت من : الفرح .. كيف؟؟.
لست أدرى .. ما أعلمه ، ما أنا متأكد منه : أنني .. كنت هناك .. كنت أغني لهم في تلك الليلة الظلام .. تلك الليلة غير المقمرة ، رغم ذلك ، غنيت لهم ، كما لم أغن من قبل . استدعيت : إلى تلك الساحة كل الإيقاعات : المنسية منها ، وغير المنسية .. و .. رقصت هي ، كما لم ترقص فاتنة من قبل . رقصت ، بكل الفرح .. حتى كبر الفرح ، بداخلها .. كبر الفرح بداخلها ، حتى تحول طفلاً كبر بداخلها ، كبر الطفل بداخلها .. بحجم الفرح الذي كبر بداخلها و .. رقصت .. رقصت حتى انفجر الفرح بداخلها .. و.. انفجر الطفل بداخلها .. وانفجر الجمع الراقص ، وانفجرت حتى إيقاعاتي : المنسية منها وغير المنسية ، وانفجر الـ... والجماجم التي كانت ثلاثاً صارت لا تحصى ، والجماجم التي لا تحصى صارت في واحد ، والجماجم التي صارت في واحد ، تقود الشاحنة ، والجماجم التي تقود الشاحنة تتحدث:
أنا .. رفيقته .. ؟؟ !! .. كلا .. إنهم لا يعرفون : المغنِّي لا يعرف .. ذلك الرجل ، هو أيضاً .. لا يعرف ، كلهم لا يعرفون : أنا لم أمت بفعل الحمى القاتلة ، ولا أنا مت من .. الفرح : حتى لم أرقص في تلك الليلية الظلام .. تلك الليلة غير المقمرة .
أنا .. يا من لا تعرفون - زوجة وأم - زوجة : لذلك القابع في الركن القصي .. وأم : لذلك الطفل الذي كان .. جميلاً .
نعم .. خرجنا في ، تلك الليلة الظلام . تلك الليلة غير المقمرة ، خرجنا جميعنا ..خرجنا ، و لم نتسلل خلسة .. كما يدعون . خرجنا لنصل ، ولكننا خرجنا .. ولم نعد . طفلي الذي كان .. جميلاً ، فقدته .. في تلك الليلة الظلام ، تلك الليلة غير المقمرة : حين فقدته ، كان بين يديّ ..كان في حضني . ولكنه لم يكن طفلي الذي كان .. جميلاً . لم يكن طفلي الذي أعرفه ، لو لم يكن في حضني كل الوقت .. لأنكرته ، لقلت أنه .. غيره ، حين فقدته في تلك الليلة الظلام .. تلك الليلة غير المقمرة ، كان يفتش عن ثديي : يفتش ، بحثاً عن قطرة إكسير تمده .. ببعض من جولات .. أُخَر . فلم يجده : ليس الأكسير .. أعني ثديي لقد فقدته هو الآخر ، في تلك الليلة الظلام .. تلك الليلة غير المقمرة : فقدت .. ثديي ، وطفلي الذي كان .. جميلاً .
حين وصلنا ، أنا .. وزوجي ، ذلك القابع في الركن القصي ، لم ندخر وقتاً .. لم نستثمره . حين وجدنا سقفاً .. أسَمَّيْنَاه بيتاً.. قررنا أن ننجب طفلاً ، ليكون جميلاً كالآخر . لم ننجح : لمدة طويلة لم ننجح .. لم أحس به ، يزرع نفسه داخلي ، طفلي الذي سيكون .. جميلاً . إلى أن كانت ، تلك الليلة الظلام .. الليلة غير المقمرة ، كان عزمنا مختلفاًَ : حاراً وقوياً .. كان هو .. زوجي ، ذلك القابع في الركن القصي ، يستدعيه بكل عنفه .. وكنت أنا ، أناديه بكل عنفواني .. طفلي الذي سيكون .. جميلاً . إنه يرتعش . إنه يهتز ، في اللحظة الرعشة ، يهتز .. سقفنا الذي ، أسمّيناه بيتاً : يهتز .. وتهتز معه الـ .. والجماجم التي كانت ثلاثاً ، صارت لا تحصى والجماجم التي لا تحصى صارت لا تحصى ، والجماجم التي لا تحصى صارت في واحد ، والجماجم التي صارت في واحد تقود الشاحنة والجماجم التي تقود الشاحنة تتحدث :
نعم .. أنا ، ذالك القابع في الركن القصي .. زوجها . نعم .. أنا زوجها ، وهي زوجتي .. رفيقتي ، عهدتها دائما ذكيةز، أبداً لم تكن.. تنسى ، لكني أراها الآن ، قد اختلط عليها الأمر . لم يكن ذك الطفل الذي فقدته ، وهو يفتش عن ثديها .. هو طفلنا . ولا ذلك الذي أوشك ، أن يزرع نفسه داخلها .. هو طفلنا . طفلنا ، حيث لم تعد تذكر ، زوجتي ، رفيقتي ، كان ينمو.. داخلها ، يوما إثر يوم . كنا نرقب خروجه ، بين لحظة .. وأخرى . إلى أن كانت ، تلك الليلة الظلام .. تلك الليلة غير المقمرة ، حين جاءها المخاض .
وبكل اللهفة والشوق ، توجهت بها ، إلى المستشفى ، لكن يومها .. لم نجد الطبيب ، قالوا لنا : لقد حزم أمتعته ، خرج بعيداً .. ولم يعد . أسرعت عائداً بها إلى المنزل ، لتتلقفها .. جدتها لأمها . أبعدتني .. جدتها .. بعيداً ، انتهرتنا جميعاً ، حين اعترضنا : جميعكم .. خرجتم إلى الدنيا ، من تحت هذه الحفرة ، وأمهاتكم معلقات على هذا الحبل !! . و.. طال انتظارنا .. إلى أن خرجَت .. أخيراً .. وحدها : دون طفلي : دون زوجتي ، ولم أرها بعد ذلك.. رفيقتي. إلا ، وأنا قابع في هذا الركن القصي .
حين التقيته ، أنا .. أعلم ، أنها لم تكن صدفة . كنت عامداً.. بل متعمداً . حين أخبرته ، بأمر زوجتي .. وطفلي الذي فقدته . أعلم أنه تأثر قليلاً ، فقد سالت إلى أسفل ، دمعة .. من عينه اليمنى .. ولكن حين أكملت قائلاً : إنني لم أجد الطبيب.. لأنهم قالوا.. أنه حزم أمتعته ، وخرج بعيداً .. ولم يعد. رأيته ، يغضب .. وحين تابعت .. أنني حتى ، لم أجد المستشفى الذي ظللنا نستقبل فيه أطفالنا الجدد ، زاد غضبه - ليس غضبه فقط - إنما رأيت دمعة العين اليمنى . تتسلق عائدة إلى أعلى.. وإن كانت في اتجاه العين اليسرى، أما أنا .. فلم أعد لا إلى الأعلى .. ولا حتى في اتجاه الـ... والجماجم التي كانت ثلاثاً ، صارت لا تحصى ، والجماجم التي لا تحصى صارت لا تحصى ، والجماجم التي لا تحصى ، صارت في واحد ، والجماجم التي صارت في واحد ، تقود الشاحنة ، والجماجم التي تقود الشاحنة تردد مع المغني ، الذي لم يأت بعد :
يا مطر .. يا مطر .. يا مطر .
والطفل الذي ينتظر الخروج يتحدث :
أنا .. طفلها .. نعم .
كبرت .. بحجم الفرح بداخلها .. نعم .
زرعت .. نفسي داخلها بغير ما ظنت .. نعم .
ولكني .. لا زلت في انتظار.. الخروج .
لا زلت في انتظار .. الليلة المقمرة .
فأنا أبداً لا أخرج ، في الليلة الظلام .

omeralhiwaig441@gmail.com

 

آراء