عن الشاعر صلاح حاج سعيد وآخرين.. أخاطب ضمائركم !

 


 

 

أي زمان هذا؟ ما نكاد نقارع بثورتنا المشتعلة منذ ثلاث سنوات أبالسة السياسة ومليشيات الدم والخراب، حتى يداهمنا الحزن القاسي. إما برحيل أو مرض مبدع، ظل يكابد ردحاً من الزمن في طي النسيان! هل كتب لذاكرة شعبنا أن تظل صاحية هذه الأيام ، فتذكر شلالات الدم في سبتمبر 2013 ومذبحة الإعتصام أمام القيادة وغيرها من جرائم القتلة ، وتسهو هذه الذاكرة عن معاناة رحلة الفقر والإغتراب التي يعيشها مبدعو بلادنا في شتى مجالات الحياة؟ إنّ الشعوب التي صنعت وتصنع ثورة جبارة بحجم ثورة 19 ديسمبر لا يمكنها أبداً أن تعطي قفاها لمن أعطوها نتاج العرق والدموع. فالإبداع الحق يبشر للثورة قبل ميلادها. والمبدع الأصيل يؤذّن في سارية الحدث قبل أن انفجاره. إنّ الإبداع في أرقى مراقيه يسبق بزوغ شمس الحرية. ويحرّض الشعوبَ على الحلم بميلادها. هكذا كان شعر مغني الوطن خليل فرح في ثلاثينات القرن الماضي:
عزة في الفؤاد .. سحرك حلال
ونار هواك شفا .. وتيهك دلال
ودمعي في هواك .. حلو كالزلال
تزيدي كل يوم عظمة..أزداد جلال
ويستمر جريان نهر الإبداع لذلك الجيل في قصائد مبدعين كُثْر. ينشد الشاعر الصاغ محمود أبوبكر بشيء من الرمز الجميل:
صَهْ يا كنارُ وضعْ يمينك في يدي
ودَعِ المزاحَ لذي الطلاقةِ والددِ
أو التورية الجميلة في رائعة يوسف مصطفى التني (في الفؤاد ترعاه العناية) ، حين يسخر من الإستعمار الإنجليزي - المصري ، ويصف الدولتين المستعمرتين لبلادنا بذئبين هزيلين يشقان بطن الأسد المنازل (السودان):
مرفعينين ضبْلانْ وهازلْ
شقوا بطن الأسد المنازلْ
نبقى حزمهْ كفانا المهازلْ
نبقى درقة الوطن العزيزْ
ويستمر مبدعو هذا الوطن في عطائهم شعراً ونثراً وغناءاً، مبشرين لوطن جميل، ولأمة لا تلد إلا الجمال. كان للكلمة والنغم العذب في بلادنا منذ معارك الإستقلال مروراً بثورات شعبنا ضد الإستبداد وحتى اليوم – كان للكلمة والنغم العذب حوار العاشق والمعشوق.. لا غنى لأحدهما عن الآخر.
ونعود لنطرح ذات السؤال: هل عجزت ذاكرة شعبنا أن تحمل في زمن المليونيات والرفض للموت الرخيص أن تذكر المتعبين من أبناء وبنات الوطن المبدعين؟ هم عانوا ويعانون في صمت قاتل ، يمنعهم من الإستجداء كبرياء عرف به السودانيون أينما كانوا. وأطرح السؤال : لماذا يذوي أهل الكلمة والنغم العذب حتى يغادروا الفانية مراراً وتكراراً ونحن نفلح في المراثي القبيحة في شأنهم؟ عن الشاعر صلاح حاج سعيد وآخرين كثر أسمحوا لي أن أعاتب شعبنا.
عندما قرأت أبيات صلاح حاج سعيد في رائعة فنان الثورة والفقراء مصطفى سيد احمد (تحرمني منك)..أحسست أنّ عاميتنا فصيحة ما تزال:
لا الزمن يقدر يحوّلْ
قلبي عنّكْ..
لا المسافهْ ولا الخيالْ..
يشغلْني عنّك
عارفني منّكْ !
وأقرأه في رائعة أخرى:
وبقيت أغني عليك غناوي الحسرة
والأسف الطويل
وعشان أجيب ليك الفرح
رضيان مشيت للمستحيل!
ومعاكي في آخر المدى
فتيني يا هجعة مواعيدي القبيل
بعتيني لي حضن الأسى
وسبتيني للحزن النبيل!

ما تزال الكلمة الحرة تقاتل جنباً إلى جنب مع اللحن الجميل لشعب لا يعرف إلا الجمال.. حتى ثورته جاءت مبرأة من التخلف والهمجية ، فاستنت سنة جديدة للشعوب .. (سلمية سلمية) صدحت بها حناجر شبابنا الممسك بزمام الريادة ورسن جواد الثورة. لكننا نخطيء إن حسبنا أنّ أدواتنا للنصر تسقط من ذاكرتنا تاريخ الكلمة الموقف والحرف الذي يصنع الجمال.
كلمة أخيرة أهمس بها لرفاق الشاعر المبدع صلاح حاج سعيد ومبدعين آخرين: تفقدوا رفاق الحرف والنغم.. ومجالات الفنون الأخرى، فهم من يبشر للثورة قبل ميلادها. إلحقوا صلاح حاج سعيد قبل فوات الأوان. هل يحتاج علاجاً؟ أم هي الحاجة والفقر ، وكبرياء السوداني الذي يموت غبنا إن مد يده حتى لأقرب الأقربين.
وأخيرا يا رفيق الّحرف والكلمة الموقف صلاح حاج سعيد.. لم أتشرف بلقائك ، لكني عرفتك من خلال حرفك النابض بالحسن والحياة. وكفاني خجلاً أن سرق المنفى عمري دون أن نلتقي. لكن سنلتقي إن طال العمر بعون الله.. وسنقول في الثورة وفي الوطن وفي حسان الوطن ما يجعل النيل يطرب ..كما قال النوبي الجميل مرسي صالح سراج:(طرب النيل لديها وتثنّى)! عزاؤنا أنّ أمتنا ليست بعاقر. وهي كلما حاول القتلة واللصوص ذبحها نهضت مثل طائر الفينيق من رمادها حرة مفردة جناحيها في مدنها وبواديها الشاسعة. كن بخير يا رجلاً أعطانا، ونسينا أن نرد له الجميل.

فضيلي جمّاع
لندن
17/5/2022

fjamma16@yahoo.com
///////////////////////

 

آراء