عن الفئران والشياطين

 


 

 

كتب د. محمد عبد الحميد

قصة قصيرة

في البرج القاهري التجاري الشاهق، طلبت المصعد للنزول من الطابق الخامس. بعد هُنيهة إنتظار جاء المصعد، وجدت بداخله رجلين متشابهين في السحنة والقوام. كلاهما مدملج دون بدانة ويميلان للقصر، هندامهما راقي وكذلك بدا لي سلوكهما.
لحظة دخولي بادرني أحدهما بجملة أيقنت أنها إيماءة تؤكد بأنه عرف هويتي فقال لي
(فك الله كَربكُم).
لم تكن اللهجة تخفى عليّ. فتأكد لي ما خمنته من قوامهما أنهما من اليمن. فرددت بذات طريقته اللمّاحة (وكَربكُم).
بينما أخذ المصعد في النزول، تفاعلت عناصر كيمياء المودة التي تجمع بيننا وبين أهل اليمن، فتصاعد أريجها بدواخلنا بسرعة فاقت سرعة هبوط المصعد.
قال نفس الشخص الأول وقد كان يحمل مسبحة في يده وهو أميل من صاحبه للإنفتاح والحديث.
تعرِف أن من خرّب بلادنا هو نفسه من يعمل على تخريب بلادكم الآن.
هزَّ صاحبه رأسه علامة الموافقة.
إنقدحت شرارة حزن عميق في دواخلي، قلت بأسى: نعم إنه شيطان الزمان.
رفع يده التي تمسك بالمسبحة الأنيقة ثم قال : كلا إنهم أناس مثلنا مثلهم، ولكنهم من أؤلئك النوع الذين تؤزهم الشياطين... فهمت بصورة واضحة أيضا هذه الأيماءة السياسية الحاذقة.. ثم استطرد : لكنهم في الحقيقة لا يعرفون كنه شعوبنا. فجوهركم معشر السودانيين مختوم بميسم الصمود ورفض الإستحقار..
قلت : نعم ولكنهم عميو البصائر، فقد اختاروا أيضاً قوماً عمروا الأرض بالحضارة، وأسلمت ملكتهم لعظمة الإله الواحد الأحد لمجرد دهشتها بالمعمار الرسولي في القصر المنيف، أما هؤلاء وهممت أن أصب جام غضبي وأُنكِل بحظوظهم الضئيلة من الحضارة .. لم أكمل حديثي فقد كان المصعد قد وصل للطابق الأرضي حيث كان علينا أن نفترق... حوّل المسبحة من يده اليمنى ليده اليسرى بسرعة فائقة، أخذ يدي وشد عليها بقوة. نظر في عينيَّ مليّاً وقال بلهجة صارمة... نحن أمة ختم الله جوهرها بالحكمة، فقد دمرنا في السابق فأر، فسيكون من الحكمة ألا ندع الفئران تكرر فعلتها فينا مجددا، وضحك ضحكة بانت معها أسنانه المصبوغة بالتبغ ... ودعتهما وقد إمتلأت جوانحي بنوع غريب من الغبطة وأخذت أردد في نفسي قوله (ص)حقاً ( إن الحكمة يمانية).
د. محمد عبد الحميد

wadrajab222@gmail.com

 

آراء