عن حربنا التي لا تشبه الحروب

 


 

 

abdullahaliabdullah1424@gmail.com

بسم الله الرحمن الرحيم
قبل الحرب كانت هنالك مخاوف من انجرار البلاد لحرب لا تبقِ ولا تذر. وما جعل تلك المخاوف تنزوي الي المناطق الآمنة، مفسحة المجال للآمال العريضة بالخلاص من الانقلاب باقل كلفة، مظنة ان هنالك حد ادني من العقلانية والوطنية يفترض توافرها فيمن يتسنمون دفة السلطة وقيادة المؤسسة العسكرية وبدرجة اقل مليشيا الدعم السريع والحركة الاسلامية. اما ما كشفته هذه الحرب اللعينة، اننا مهما علمنا عن انحطاط الكيزان فاننا لا نعرفهم حق المعرفة، ومهما تخوفنا من همجية مليشيا الدعم السريع، فهي اكثر شرا من كل المخاوف.
ويبدو ان ما جعل الاوضاع تنحدر لهذا المنحدر الكارثي، عدم التوافر علي قيادات سياسية وعسكرية وحركات مسلحة ومنظمات مجتمع مدني ولجان مقاومة، قادرة علي التبصُّر في المرحلة الانتقالية بحكمة، وتعلم كيفية التعاطي مع هشاشتها، حتي الخروج الي بر الامان. وغالبا جزء من هذه الوضعية الانتكاسية التي تصيب الثورات بصورة متكررة، بل وبذات نمط التفريط والعك السياسي والتربص العسكري! يرجع الي عجز النخبة عن افراز تنظيمات وقيادات مؤهلة للحكم، وسهولة استجابة المجتمع للشعارات الحماسية وتصديق الوعود الجوفاء، عوض الانقياد للحكم الرشيد.
اما ما جعل حربنا الراهنة غريبة حتي علي نوعية الحروب الاهلية التي لم تتوقف منذ الاستقلال الكاذب، انها في الاصل حرب كيان اجرامي انشق لفرقتين. وهو كيان معني فقط بالسيطرة علي السلطة ونهب الموارد واستغلال المواطنين. والحال كذلك ما جعل حربنا اكثر قذارة، ان المواطن تحول الي وسيلة في ادارة صراع السلطة القذر، فمن جهة قادة الجيش (وحلفاءهم الاسلامويين) يستغلون معاناة المواطنين للمتاجرة بها، سواء في خطابهم الموجه للخارج، او لاستقطاب المُستَنفرين في الداخل. اما من جهة مليشيا الدعم السريع، فهي تعرض املاك واعراض المواطنين كحوافز لاستقطاب المقاتلين!
وهذا بدوره يقودنا لواحدة من ملامح هذه الحرب التي ابتلينا بها، وهي افتقارها للعقائد والمبادئ التي لطالما منحت المتقاتلين القدرة علي التضحية. فمن جانب الجيش فهو يقاتل من اجل الحفاظ علي بقاءه ومصالح قادته وحلفاءهم الاسلامويين. وفي الحد الادني يقاتل الشجعان ضد همجية مليشيا الدعم السريع. اما في جانب مليشيا الدعم السريع فقد استدخلت مسلك جديد في صراع السلطة، وهو الكسب المادي، اي القتال من اجل غنائم الحرب!
وصحيح ان مسلك المرتزقة الذي تنتهجة مليشيا الدعم السريع ليس بجديد، بل بعد ميلاد الشركات الامنية كبلاك ووتر الامريكية وفاغنر الروسية، اصبحت تتخذ هذه الممارسة الطابع المؤسسي. ولكن الفارق ان صعود نزعة القتال من اجل المال، تزامن مع خفوت بريق العقائد الخلاصية والايديولوجيات المثالية، والتوجه العام تجاه الجوانب المادية البحتة. وهو ما يشي بتخطي العالم مرحلة (نزع السحر) الي تجريده من القيم والمعاني.
وكذلك ما جعل حربنا لا تشبه الحروب، هو اداء الجيش الذي لا يشبه اداء الجيوش وكانه خارج الخدمة! لدرجة جعلت مليشيا الدعم السريع تكسب مواقع وحاميات واهم ولاية في البلاد من دون قتال! اما الامر المُحير الذي اعجز الكل عن استيعابه، ليس ان قائد الجيش هو المتسبب الاول في إضعاف الجيش وتقوية مليشيا الدعم السريع، مما يستدعي التخلص منه ومحاسبته كخائن منذ اول يوم لاندلاع الحرب، ولا الابقاء عليه قائدا للجيش وهو يستمر في الخسران بدرجة الفضيحة فحسب، ولكن لان اصراره علي رفض التفاوض من غير مسوغات موضوعية، ولإرضاء اطماع سلطوية وغرور اجوف ومصالح كيزانية، يتسبب في معاناة للمواطنين لا قبل لهم بها، ونشر الرعب في البلاد وتدمير بنيتها التحتية، والاغرب من ذلك انه قد يؤدي لإلحاق هزيمة بالجيش تسير بذكرها الركبان، وما يعنيه ذلك في التحليل النهائي من ذهاب ريح الدولة وتسليمها للفوضي العارمة.
وايضا ما يجعل حربنا استثناء، ان البرهان وقادة الجيش وشرذمة الكيزان، لا يعجزون عن الحسم العسكري وحماية المدنين فحسب، ولكنهم يرفضون اي اطروحات سياسية او دولية تدعو لحل المشكلة سلميا! والاسوأ من ذلك انهم يجرمون القوي السياسية الداعية للحلول السلمية، ويقمعون كل دعاوي لوقف الحرب، في الولايات التي يسيطر عليها الجيش! بل عوضا عن ذلك يجيشون مدنيين ليس لهم صلة بالحرب، بل ويجهلون فنونها (مجرد حمل السلاح لا يعني التاهيل لخوض المعارك)، لينوبون عن الجيش في مهامه التي عجز عنها! بالله عليكم، من يتوقع قائد عام للجيش وبعد ما يقارب عام من الدماء والدمار، وبدل ان يعلن الانتصار او التفاوض لانهاء القتال، يعلن عن تسليح كل من يقدر علي حمل السلاح (كلمة دلع للمستنفرين)! والحال كذلك، قيادة الجيش والكيزان لا ينتقمون من الشعب فحسب، ولكنهم لا يحسنون حتي هذا الانتقام، ليتم بابشع الصور. وبتعبير آخر من لم تلحقه لعنة الحرب في الولايات الآمنة، ينتظر دوره ويتحمل مسؤوليته، لان قيادة الجيش والكيزان يراهنون علي انتهاكات الدعم السريع، لهزيمتها اخلاقيا بعد ان عجزوا عن الحاق الهزيمة بها عسكريا!
وفي ذات السياق في حين تدعو مليشيا للتفاوض وتطرح حلول سياسية وتعلن الدفاع عن الدولة المدنية والمنهجية الديمقراطية، وغض النظر عن مصداقيتها او افعالها التي تغالط اقوالها وشعاراتها، إلا ان مجرد الظهور بهكذا مظهر ولغة هو مكسب لها (بدلالة الترحيب بدقلو في كل زياراته، والاستماع لوجهة نظره، وغالبا الترحيب بها)! في حين ان الجيش الذي يفترض انه مؤسسة، يتعامل بعشوائية وتقلبات المليشيات، وهو ينسحب من المفاوضات بدون اسباب مقنعة (مجرد ذرائع للتهرب)، ويتبني خطاب عسكري وسياسي بعيد عن الواقع، ويتذلل للخارج بعناد طفولي لتمرير رغباته (اعتبار مليشيا الدعم السريع قوة ارهابية ومتمردة) ولكن دون ان يقنع احد! وكذلك قائده لا ينفك يمارس الاكاذيب والظهور باقنعة لا حصر لها! والاسوأ من ذلك اختفت الحدود بين قيادة الجيش ونفوذ الكيزان، ليصبح الجيش اداة في يد الكيزان لتمرير طموحاتهم السياسية والمحافظة علي اطماعهم السلطوية.
وعموما السبب الاساس في ان حربنا لا تشبه الحروب، لانه لم يبتلَ مجتمع بجماعة مرواغة واجرامية ومنحطة كالحركة الاسلامية، ولا مليشيا بهمجية ووحشية ولصوصية الدعم السريع، في العصر الحديث. فالاسلامويون معادلتهم في الحياة بسيطة، والاصح سطحية كسطحية مشروعهم الخاوي. فهم اما يحكمون او لا يدعون احد يحكم، ولا بلاد صالحة للحكم؟! ام مليشيا الدعم السريع فهي تكوين حربي، ولا يصلح لشئ سوي الحروب القذرة، وتاليا من غير حروب تتحلل المليشيا الي مليشيات متقاتلة! ولذا في اي لحظة تحاول المليشيا التخلي عن تكوينها الحربي لصالح مشروع سياسي. فما سيحدث، اما توفير موارد مهولة لارضاء مقاتليها وهو ما يتعارض مع اي التزامات حكومية تجاه المجتمع، ومن ثمَّ يؤدي لعدم الاستقرار المجتمعي. واما محاولة اخضاع المقاتلين المتمردين عن طريق العنف، وهو ما يؤدي لحروب داخل المليشيا، وتاليا تهديد بقاء الدولة. خاصة وان المليشيا بحكم طبيعتها وآلية عملها، قابلة للشراء والعمالة او التوظيف من خارجها.
وكل هذه التعقيدات وعطفا علي كارثية الحرب وخسائرها الباهظة انسانيا وعمرانيا، يقول شئ واحد، لا سبيل غير التفاوض وقبول التسويات الواقعية التي تحددها موازين القوي علي الارض. اقلاه كمرحلة اولي تسمح بايقاف الحرب، واتاحة مساحة للعمل السياسي والمدني، والذي عبر نضاله السلمي والاستفادة من الاخطاء والتجارب، يمكن الدفع نحو توسيع نطاق المكاسب المدنية. اي ما نحتاجه هو السير خطوة خطوة والقطع مع ثقافة الثورات والتغيير الجذري، التي اثبتت التجارب المريرة، انها لا تتلاءم مع مجتعات معقدة التركيب، ونخب سياسية وعسكرية ضيقة الافق، ودول في غاية الهشاشة، رزحت تحت عهود الاستبداد والفساد لعهود طويلة، كحال دولنا ومراحلنا التاريخية المتاخرة التي نرواح فيها. والاسوأ من ذلك، وجود اعداء اقوياء وجاهزون لاجهاض التجارب الواعدة. وكأن منطق القوة يفرض علي الاقوياء ان يظل الضعفاء ضعفاء علي الدوام.
واخيرا
ما بين البرهان ومدربنا
علي ايام الاهتمام المرضي بكرة القدم، صدف ان تزامن وجودنا في النادي مع وجود مدرب سابق وتالي لوجودنا. وهو مدرب اشتهر بطريقة لعب واحدة لا شريك لها، حتي اصبحت مصدر تندر للجميع واحراج لاقرباءه في النادي. وهو مدرب لا يعترف به او يثق في تاهيله احد! رغم انه للغرابة يحرز اعلي الدرجات في امتحانات المدربين، وكذلك حرصه الشديد علي الالتزام بالمواعيد وحماسه لوظيفته اكثر من اللعيبة انفسهم، وقبل كل شئ حبه للنادي وحرصه علي مصالحه. وغالبا مشكلة المدرب تمثلت في انه ينظر للتدريب من زواية واحدة، وهي اللياقة البدنية، ولذلك كانت طريقة تدريبه اقرب للتدريبات العسكرية، وما زاد الطين بلة صرامته وتجهمه طوال الوقت، وكأنه نادم علي وجوده في الحياة، او المزاح والابتسامة عار يجب تجنبه! اما انعكاس هذه النظرة الضيقة علي تقييمه للاعبين وتسييره للمباريات فكانت تثير غرابة اكبر، فقد كان معجب باقل اللعيبة مهارة واكثرهم لياقة، واثناء المباريات فجأة يستبدل افضل اللعيبة في المبارة واكثرهم مهارة، وكانه يتعمد اغاظة الجمهور وخلق مشاكل لا داعي لها مع افضل اللاعبين! ولكن اعتقد السبب لهبوط معدل لياقتهم بسبب المجهود المبذول حسب قراءته (اي بحسن نية)، وليس مجريات المبارة! وهو في كل ذلك شديد التعنت والاعتداد برايه.
اما ما كان يعجز عن استيعابه، هو ان افضل خدمة يقدمها للنادي هي ابتعاده عن تدريبه. ولكن ما دور مدرب بهذه المواصفات؟ قد لا يصدق البعض ان دوره تمثل فقط في احضاره عندما ترغب الادارة في طرد مدرب لم ينجح، او لا تملك الادارة الموارد الكافية لاحضار مدرب كفؤ! ولذلك تبرز المشكلة كل مرة عندما يحين اوان ابعاده بطريقة ظريفة، وإلا يتم اللجؤ لازاحته مرغما، تحت رغبة وضغط الجميع وعلي راسهم اقرباءه (ليتخلصو من الاحراج بسبب النقد العنيف واحيانا التجريح للمدرب من بعض المشجعين المتعصبين، خاصة في حالة الهزيمة، وان لم يكن هو المتسبب فيها)! ولحسن الحظ هو يغضب الي حين (روحه رياضية)، ويظل منتظر الفرصة مرة اخري.
ولكن ما علاقة مدربنا يطراه الله بالخير بالبرهان. العلاقة تتمثل في عدم التاهيل او اقتناع احد بان البرهان يصلح لقيادة الجيش او اي شئ يحتاج للقيادة. واكبر مقياس للفشل هو النظرة الضيقة للامور التي تحكم كل التصرفات، وفي حالة البرهان تتعلق تلك النظرة بحرصه علي البقاء في سدة السلطة باي ثمن. وعليه ان افضل خدمة يقدمها البرهان للجيش والوطن والمواطن، هي ان يقدم نفسه طوعا، طُعما لاسماك البحر الاحمر. لان مدربنا مهما كانت درجة فشله، تظل متعلقة بالرياضة كهواية، واثر فشله لا يتخطي مشجعي الفريق باي حال. كما انه يستجيب للضغوط ويغادر منصبه ولو ضد رغبته، عكس البرهان الذي كلفت اخطائه وطمعه وغدره، دماء غالية لا عد لها، ودمار طال معظم المنشآت والمشاريع ومؤسسسات الدولة، بما فيها جيشها! وحرفيا انتهي من دولة اسمها السودان، ورهن مصير شعبها للمجهول. خاصة بعد ان اسهم بغباء يحسد عليه، في تمكين مليشيا همجية تُعبر صراحة عن مشروع خارجي يراد فرضه، وموارد يراد نهبها، وطبيعة ديمغرافية يراد تغييرها، وقضاء مبرم علي اي حلم بالحرية او التغيير او الديمقراطية. ورغما عن كل ذلك لا سبيل لعزله من منصبه ناهيك عن محاسبته، وكل ذلك بسبب بدعة عسكرية سخيفة، تضع القائد فوق النقد والمحاسبة.
ويحمد للكاتب الضابط السابق خليل محمد سليمان شجاعته، بعد ان ظل يتجاوز تابوهات الجيش من اجل تحريره من اوهامه، وهو من هو رفيق سلاح، وكذلك مطرقة الاستاذ عزالدين صغيرون في تحطيم صنمه المقدس لرده للاحترافية. ولو كان هنالك استجابة لو بنسبة عشرة في المئة، لتلك النصائح وذلك النقد الايجابي، مع الابتعاد عن الاستماع للخبراء العسكريين الفالصو، الذين يسبحون بحمد القيادة ويسجدون لعجل الجيش المقدس، طمعا بسدانة هيكله. لما كنا في هذه المحنة المُكلفة التي لا نعرف لها مخرجا. ودمتم في رعاية الله.
///////////////////////

 

آراء