عن مسألة شرق السودان

 


 

 

قال صلاح احمد ابراهيم في خمسينات القرن العشرين: (دبايوا...أوشيك، من قبيلة الهدندوة، دون أن يكل يرصد الآفاق، من دغش الصبح إلي انحباس الضوء في المساء، مفتشاً عن غيمة فيها سلام الماء، يرفع ساقاً ويحط ساق، كوقفة الكركي في المياه، مرتكز الظهر علي عصاه.
أهلكت المجاعة الشياه، ولم يعد لأوشيك غير هذا النعال، صداره والثوب والسروال، والسيف والشوتال، وشعره المغفوف الوديك والخلال، وعلبة التنباك، يرقب الزقوم والصبار والأراك، السل في ضلوعه يفح أقحوان، عيناه جمرتان.)

استهلال:
يقع إقليم شرق السودان في مساحة تبلغ 110 ألف ميل مربع بمحاذاة البحر الأحمر، على ساحل طوله 640 كلم، ويمتد غرباً بالأراضي السودانية حتى نهر عطبرة؛ وتسكنه حوالي ستة ملايين نسمة نصفهم من قبائل البجة: هدندوه وبني عامر وأمرأر وحضارم وبشارين وحلنقة وكميلاب، بالاضافة للرشايدة والأشراف والقبائل النيجيرية المهاجرة والأقليات السودانية الأخرى المقيمة منذ عدة أجيال. وتتحدث قبائل البجة لغاتها الكوشية القديمة بالإضافة للعربية التي وفدت مع الإسلام والطريقة الختمية التي ينتمي لها معظم البجاة.

الموارد وسبل كسب العيش:
ظل هذا الاقليم يعتمد علي موانئ البحر الأحمر كمخدم للعمالة اليدوية (غالباً العتالة)، وعلى الزراعة في منطقة طوكر بحوض خور بركه وضفاف نهر القاش، وعلي نذر يسير من الرعي المتناقص منذ موجات التصحر التي ضربت الاقليم منذ قرن. وهكذا فإن شعوب البجة ظلت في حالة تهميش وفقر متصاعد منذ عشرات السنين، وظل شرق السودان واحداً من آخر بؤر سوء التغذية والدرن بالعالم. هذا في الوقت الذي يعج فيه الاقليم بالثروات المحتكرة بواسطة عناصر من خارج الإقليم، كالتجارة في الصادر والوارد والقطاعي (التشاشة)، والخدمات كالمواصلات والترحيل، والتنجيم عن المعادن كالذهب في جبيت ومنجم أرياب (الذي أنتج ًسبعة طن ذهب عام 1999 علي سبيل المثال)، كما توجد حالياً حوالي مائة شركة تستخرج الذهب، بالإضافة للسابلة المغامرين من كل صوب وحدب - الدهابة العشوائيين. فالاقليم غني بالمعادن والأحجار الكريمة في قاع البحر (كما تشهد الاتفاقية التي تمت مع وزير النفط والمعادن السعودي دكتور يماني أيام النميري)، وبالحديد والنحاس والتنجستون والرخام وغيرها من المعادن النفيسة التي لم تستثمر بعد.

التاريخ السياسي والاجتماعي:
على الرغم من التهميش فإن شعوب شرق السودان لم تنزع طوال تاريخها نحو مصير يختلف عن باقي الوطن، مثلما فعل الجنوب الذي دخل في حرب مع الشمال استمرت لستين عاماً انتهت بفصله عام 2011. وظل الشرق جزءاً من الحركة الوطنية المناوئه للاستعمار منذ بواكيرها تحت ألوية مؤتمر الخريجين ومن بعده الأحزاب الاتحادية، و قدم شهيداً عام 1948 في مظاهرات بورتسودان ضد الجمعية التشريعيه؛ ولقد فاز الحزب الوطني الاتحادي بأكثر من تسعين بالمائه من دوائر انتخابات 1953، ثم انتخابات 1958 و1965 وهكذا. إلا أن مؤتمر البجة ظهر للوجود عام 1958 وتم تدشينه رسمياً عام 1964. ولم يكن خصماً على الحزب الاتحادي، ولكنه رفع شعار النظر لمطالب الشرق برؤية جديدة تعمل علي تحقيق المضمون الاجتماعي للإستقلال، وهو محاربة التهميش والفقر بالتقدم الاقتصادي والتحول الاجتماعي، وبمشاركة أهل الشرق في ادارة أنفسهم بأنفسهم في إطار سودان موحد تحت نظام فدرالي. ولقد تعاقبت على السودان أنظمة عسكرية وحزبية وإسلاموية لم تفعل أي شيء يذكر في مجال التنمية، بل عملت علي غسل أدمغة شعوب الشرق المطحونة لتصبح مجرد تابعين وهتيفة للاستبداديين دون مردود يتناهى إليهم - في شكل تنمية وتقدم.
وفوق هذا وذاك، فإن شرق السودان هدف لأطماع العديد من القوى الأجنبية؛ فقد أوشكت روسيا باتفاق مع البرهان/حميدتي أن تشيّد قاعدة بحرية علي البحر الأحمر لتهرب عبرها الذهب الذي تنتجه شركاتها بشمال شرق السودن، والذي ساهم في تمويل مغامراتهم الحربية التوسعية بأوكرانيا ( حسب تقرير ال CNN المذاع). ولقد أوقف البرهان إجراءاتها – مكرهاً أخاك لا بطل - بعد تهديد الأمريكان له (بشهادة سفير الولايات المتحدة في الخرطوم).
ومن ناحية أخرى، فإن أسياس أفورقي المتحالف مع روسيا له ذيول بشرق السودان يريد أـن يلعب بها: فهو يسعى هذه الأيام لترتيب صلح بين قبائل الشرق بعاصمته أسمرا. وليس الدافع هو المشاعر الأخويه بحكم التمازج الإثني الحدودي بين إرتريا وشرق السودان، إنما الغرض هو تأمين ظهر بلده في حال نشوب حرب مع إقليم التقراي، وهو أمر وشيك، إذ تدخل المجتمع الدولي وضغط في سبيل انهاء الحرب بين إثيوبيا والتقراي، و كان الإريتريون قد تدخلوا وتطفلوا لصالح حكومة أديس في تلك الحرب وذبحوا آلاف التقراي، ولن تذهب تلك الدماء هدرا، ولن نستغرب إذا سمعنا عن ثمة عدائيات جديدة بين التقراي والتقرنجه (أي بين شفتة التقراي وأبناء خؤولتهم الإرتريين).
وهنالك، كما هو معروف، تكالب من الدول الخليجية لابتلاع ميناء بورتسودان ومنطقة الفشقة الخصبة، وهناك تدخل دؤوب من دولة الإمارات للتوسط لحل مشكلة سد النهضه و ذلك ثمنا لأراضي الفشقة.
فيمكن لقوي ثورة ديسمبر أن تطرح مشروعاً بتأجير سواكن لمن يرغب من الدول، نظير مقدم لا يقل عن تسعين مليار دولار زائد إيجار شهري، و يمكن طرح المنطقة بين بورتسودان وحلايب أيضاً في مناقصة للإيجار لعدد محدود من السنوات. ولنتفاوض أولا مع الولايات المتحدة حول هذا الأمر، وذلك لتوفير الموارد الكافية لابتدار التنمية الاقتصادية الاجتماعية بالشرق.

مقترحات محددة:
( 1 ) : إن التنمية الاجتماعية الاقتصادية لن تنجح في الشرق وفي كل السودان إلا بتحقيق الديمقراطية واستقلال الصحافة ونزاهة القضاء، وبتحقيق الحوكمة الجيدة عن طريق ممثلي الشعب في الجهاز التشريعي، بشفافية ووطنية، تحت رقابة الشعب غير المكبل بالقوانين المقيدة للحريات. بمعنى أن أي جهود تبذل لاستنهاض الشرق لن تفلح في وجود السماسرة واللصوص البعيدين عن رقابة الصحافة الحرة، والذين فطموا على الفساد (كما حدث للمنحة الكويتية المليارية لصندوق شرق السودان، التي انتهت إلى جيوب حفنة من رموز المؤتمر الوطني البجاويين وراحت شمار في مرقة). إذن، من مصلحة الشرق والسودان أن يتم استكمال أهداف ثورة ديسمبر الخاصة بالحرية والعدالة والسلام.

( 2 ) : يجب منح الشرق حقوقه المشروعة ونسبته القانونية في موارده كالموانئ ومناجم المعادن خاصة الذهب، ويجب تنظيم عمليات التعدين بحيث لا تفتح الأبواب لكل من هب ودب، إنما بشراكة ملزمة مع أبناء وبنات الشرق، خاصة المنظمين في جمعيات تعاونية. ويجب الاستفادة من التاريخ العريق للجمعيات التعاونية العمالية ببورتسودان وتشجيع التعاونيات لولوج أبواب التعدين وكافة الأنشطة الصناعية والزراعية والتجارية والخدمية.

( 3 ) : هنالك أكثر من مائه و خمسين مصنعاً ببورتسودان للصناعات التحويلية الخفيفة كاستخرج الملح وصنع البلاط وتعليب الأسماك والمأكولات، و قد توقف ثلثها عن العمل في بيئة التردي العام الذي شاب الحياة الاقتصادية منذ أواخر النظام البائد حتي الآن. فيجب تكوين لجنة خبراء مطعمة بكوادر شرقية ملتزمه - لدراسة حالات تلك المصانع وغيرها بمدن الإقليم، ووضع خطط لها تتضمن حلولا لمشاكل الطاقة والتمويل والخام إلخ.

( 4 ) : لدى وزارة الري دراسات جيدة بمساعدة بعض المنظمات الدولية لإعادة الحياة لمشاريع الإعاشة بخور بركه ودلتا القاش لانتاج القطن والبقول وتربية الماشية، حيث أنها قريبة من أسواق السعودية والخليج المتعطشه للخضر والبرسيم المزروع علي تربة طبيعية خصبة بدون سماد كيماوي، ويمكن الاستفادة من تلك الدراسات، و قد بدأت عمليات التمويل من قبل البنك الدولي لتلك المشاريع، ولكنها توقفت بسبب انقلاب 25 أكتوبر 2021.

( 5 ) : على قوي الحرية والتغييرأن تنشىء صندوقاً خيرياً تدعمه المنظمات الدولية والمحلية والمغتربون، لصيانة البنية المؤسسية من مدارس ومستشفيات ومرافق وطرق. والجدير بالذكر أن طريق بورتسودان كسلا الخرطوم شيده الشيخ زايد عليه الرحمة وبلا شكك سيتكفل الاماراتيون بصيانته. فلا مانع من بعض التدخلات الخيرة لعوننا ولكن ليس لخدمة استراتيجيات لا مصلحة لنا فيها. والتركيز علي مثل هذه المشاريع أفضل من اللت والعجن حول من يشارك في الحكومة الانتقالية منذ نيف وعام.

( 6 ) : يسعى أسياس أفورقي هذه الأيام لتنظيم مؤتمر صلح للقبائل البجاويه في عاصمته أسمرا، و جحا أولي بلحم ُثوره. فلتتبني قوى الثورة عقد هذا المؤتمر بكوستي أو سنار أو جبل مرة .

( 7 ) : يجب الاتصال بكافة فرقاء قبائل البجه والاستماع لهم وطرح رؤية قوي ثورة ديسمبر الشاملة لمستقبل الاقليم، ويجب التوافق مع هذه الفصائل حول الحكم الفدرالي المقترح للدستور الجديد، والاتفاق على الضمانات الخاصة بتوزيع السلطة والثروة بعدل وقسط ورعاية كاملة لمصالح غمار أهل الشرق من ضغوط الاقتصاد الفوضوي الراهن الذي يتحمل وزره الكادحون في الشرق و في باقي السودان. و يجب الاتفاق كذلك على تخصيص منحة سنوية لاستنهاض الشرق على غرار المبلغ السنوي الذي خصص لدارفور بموجب اتفاقية جوبا 2021, و ليس بالضرورة رقماً فلكياً كالذي خصص لدارفور.
حريه سلام وعدالة
سلمية خيار الشعب.
و السلام.

هاتف 0963159399

fdil.abbas@gmail.com

 

آراء