عن مَي غصّـوب: من يعزف مزامير الخلود ؟ .. في ذكرى رحيل صاحبة دار الساقي .. من السفير جمال محمد ابراهيم إلى الأستاذ عمر جعفر السوري

 


 

 

 

عن مَي غصّـوب: من يعزف مزامير الخلود ؟

في ذكرى رحيل صاحبة دار الساقي. . (1952-17فبراير 2007)
من السفير جمال محمد ابراهيم
إلى الأستاذ عمر جعفر السوري..

(1)
لقد حدثتَ بشجنٍ، يا صديق وللحديث شجون ، وأصاب قلمك وللأقلام متون ، واغتسل قلبك – دون شك – من أوشاب الحاضر المرتبك، فخرج مقالك مترفاً بذهب السبعينات، بريقه يأخذ بالألباب ، يزيد من غوايتنا بأيام ٍ خوالي ، لم تفلح ولن تفلح العشرية الأولى من قرننا الجديد، ولا التي ستليها، في أن تمحو كتابها المحفور في صخر التاريخ ، بأزاميل الصحو ، ومزامير الخلود. لقد نظرتُ ملياً في كتابتك ، فأيقنت أن من كانت تحلم بضحكة طفل فأيقظت أمّة ، ومن نصبت منحوتة من صنع يديها ، فمنحتنا طوداً بحجم "دار الساقي" ، لن يكون مناسباً أن يتسق حلمها مع استغماية لعبة السياسة التي اصطادتنا في مفتتح القرن ، إذ لم يكن ثمة قطب يوازي هذا المنفلت فيردّه إلى صوابه الآفل . وإني لأنظر مرّة بعد مرّة ، فيزيد يقيني أنّ للكون ثبات واعتدال ، فإن لم يقم على توازن قطبين أو ابتلع قطب قطبا ، فسيطغى القطب الواحد على الجميع، والجميع هم في آخر القصة الجمهور الأغلب في العالم الثالث. ولقد كان القرن العشرين حقيقاً ، هو عصر الأيديولوجيا التي سمتْ بقدرات الفرد واحترام كرامته ، على "استعبادية" الإستعمار التي تحدّرت إلينا من بقايا ظلام العصور الوسطى . لربّما يقال أن عصر "الأيديولوجيا"- وبعد نفاد دورها في بداية التسعينات ، قد اضمحل تماماً . تضاءل بريق الماركسية . استنفدت أغراضها الوجودية ، وبقي قليلها يترسّم خطى لم تعد تبين لمن يتقصّدها . بزوال القطب المقابل، وجد القطب الأوحد الأمريكي فرصته ، فأعمل فينا أنيابه وأظلافه و"صليبيته" ، إن صحّ الزعم الذي أجبروا كبيرهم أن يبتلعه خشية أن تبين السوأة . إذاً فالأيام الماثلة ، هي أيام البراجماتية ، وأنها صارت رديفاً للغات العصر الماثل ، لغة عصر الوجبات السريعة والثقافة السريعة والمضاجعة السريعة ، ألا ترى كيف ارتجافنا شرقا وغرباً من وباء الطيور ، أو ركوننا مذهولين إلى الإنترنت، يستعمر كامل أيامنا، أو رعبنا من " السيدا" وقد سدّت علينا الأبواب، إلى ما ألفنا من مراهقات صبيان الستينات والسبعينات ؟ قيام القطب الواحد يتغطرس فينا ، أهو قيامتنا في "العالم الثالث"؟ لعمري ، فإن " العالم الثالث" تعبير تجاوزته القواميس ، إذ لن تجد له تعريفاً مقنعاً ، حتى في ماكينات البحث التي استحدثتها لنا "غوغل ".

(2)
لسنا من الداعين إلى تقديس الماضي ، بمثلما تفعل قبيلة "الشلك" عندنا في جتوب السودان ، بأجدادهم ، تتجذر العقيدة عندهم عبادة لسلفٍ شبع موتا ، أو مثل الجالسين يتحرّون البركة تحت قبة شيخ ٍ ، أو مدفن وليّ غابرة أيامه . الشجن الذي حكيت َ أنت عنه أيها الصديق ، هو شجن عصرٍ نما وكبر وأثمر بين قطبين ، شغلتهما "الحرب الباردة" ، فانفتح المجال لبؤساء القرن العشرين - شعوب آسيا وافريقيا - الذين تغنّى لهم بقصيدٍ شاعرنا السوداني تاج السر الحسن وموسقهُ لحناً يغنّى ، المغنّي الفذ عبد الكريم الكابلي، ذات ليلة قبالة النيل في الخرطوم، وبين الحضور زعيم العرب الكبير جمال عبد الناصر . تلك قصة باندونق عام 1955 وقد تجسّدت أول الستينات من القرن الماضي قصيدا ولحنا وغناءا في مسرح أم درمان القومي. كانت انتفاضة القارتين نائمة في أحشاء حربين كونيتين طاحنتين ، كتب الله صحوتهما في منتصف القرن العشرين . اجتاحت القارتين رياح التغيير، وطلبتا في إثر ذلك براءتهما من غشم الإستعمار ومن هجمته الظالمة . سبقتنا لبنان إلى نيل الإستقلال . تململت مصر من دوس المندوب البريطاني بحذائه الثقيل ، تاج مليكها العربيد . وفي "جاه الملــوك ، نلوك"، كما يقول العامة عندنا : تشجعتْ نخبنا في السودان ، بتأثير وتأثر بمصر ، فأنشأت مؤتمر الخريجين ، وجاء على غرار "مؤتمر الهند" الذي وقف شامخاً يناطح التاج البريطاني، فأسقط رداء السيطرة، وارتدى لباس شراكة الكمونولث . وهكذا لم نأخذ من الهند عمامتها فحسب، بل "مؤتمرها" أيضاً . تململت بلدان افريقيا : في غانا ، يدمدم نكروما . في غينيا . . يرفل في عباءة الإستقلال "سيكوتوري"، ورجال مثل "موديبو كيتا" و"جومو كينياتا" و"بن بيللا". . . أوه .. من يتذكر هذه الرموز ، في اشتغالنا بكلّ ما هو سريع الآن ، من أكل ومطالعة ومعاشقة معجلة ، من يتذكر ؟

(3)
لا أعرف لمه أثرتَ شجني عن أيام القرن العشرين الجميلة ، تلك التي قصصت أنت عنها في كتابتك البديعة ؟ لكن أعود فأسأل نفسي : أليست مي غصّوب ، هي وردة في بستان تلكم الأيام الجميـــــلة . . ؟ ألم يكن الرّاحل "جوزف سماحة" ، شمعة على شجرة ميلاد وطن ٍ شبّ كبيراً ، بجبران وميخائيل نعيمة والشاعر القروي وايليا أبو ماضي وبشارة الخوري وأمين نخلة وخليل حاوي وسعيد عقل ، وأيضاً حنا مقبل ، في المسافة الفاصلة بين قطبين ؟ ألم يزهر فـــي " الهدنة التاريخية " التي أسميناها فترة "الحرب الباردة" تمويهاً ، فأتيح له نموّاً باذخاً ، أسهم خلاله في تشكيل عالم ٍ جديد ٍ ، سعى العالم الثالث ورموزه لاستغلال سانحة التاريخ وفرصتها الذهبية ، لصياغة معادلة لكون ٍ جديد ، عبر شراكة مع الكبار في العالم . .؟ كان ثمة مفكر فذ ، إسمه "شارل مالك" ، تمكن في "الهدنة التاريخية" الواقعة بين قطبين ، أن يضع بصمة في الأمم المتحدة. كان "شارل مالك" سفيرا ومندوباً للبنان في المنظمة الدولية في اواخر الأربعينات وفي سنوات الخمسينات، مثلما كان وزيراً وفيلسوفا .

(4)
حتى في مرحلة الزلازل القاتلة في الشرق الأوسط ، كان ثمّة من هدر بصوته الرخيم في أروقة الأمم المتحدة ، لساناً ينطق بقرارات العرب بعد حرب يونيو 67 ، وزير سوداني ذرب اللسان ، إسمه محمد أحمد محجوب . في "الهدنة التاريخية" ، نجحنا في أن نبتني جسوراً قوية ومتينة مع أنفسنا ، ومع العالم الشبيه من حولنا . أجمل ما في " الهدنة التاريخية" ، أنها بالفعل هدنة ، ولكنا حققنا فيها - في عالمنا الثالث - بعض نجاحات ، غير أن إخفاقاتنا كانت أكبر . وتلك حقيقة لا مهرب من أن نقرّ بها . "الهدنة التاريخية" التي أطلقوا عليها اسم "الحرب الباردة" ، لم تكن بلا أسنان ولا براثن . في ثنايا هذه الهدنة ، قامت ثقافات وبادت أخرى . تآكلت أحلام وردية ممّا رسم "نكروما" ، وبنى أسد يهوذا : "هيلا سلاسي" . وفي الشرق الأوسط تآكلت دعاوى القومية العربية، والتي "تسلطنّا" فيها على أيام الناصرية. وفي عشّ لدبورٍ قصيّ ، استرهن "أنور خوجة" أرناؤوطه ، فأهمله العالم السادر بين قطبين ، ولم يلتفت إليه قطب . كتبتَ أنت عن "هولوكوست" جاكارتا، وعن ضحايا "سوهارتو"، وصدق قلمك. ساعة توالت الإنهيارات ، لم تسلم "البانيا" بعد تناثر الإتحاد السوفيتي ، هباءاً في أفق آسيا ، إرباً كردية وأرمنية وطاجيكية وآذرية . وخنق نفسه "الأبرتايد" واستولد ديمقراطية بهية من شموخ مانديلا . نفضتْ ريشها "كوريا"، ولم ترتد . وفي "كوبا"، لم يبق من كاسترو غير خيال ِ فزاعة ٍ ، يحرسه الأطباء ، أدرك أخيراً قراصنة العولمة ، أن جزيرة عنده ، يحسن أن تستغل لإيواء جرذان الإرهاب الدولي ، ممّن تصطادهم – عدلاً أو جوراً- براثن القطب الواحد في استفردها بنا ، وبعالمنا الآفل في بهائه.

(5)
كيف لا نستمريء - إذاً - لعبة استرجاع الماضي الذهبيّ الذي ألفنا في الستينات والسبعينات، وهو حنيننا الطقوسي لوليمة "الهدنة التاريخية" التي نعمنا بها قليلاً، ثم هجمتْ علينا نمور العولمة من كلّ حدبٍ وصوب ، ووحوش صياغات الشرّ الجديدة ، من نوع "دوبيا بوش " - أو "بوش الإبن"، ذلك الذي لبس طاقية الإخفاء ساعة كان ينبغي أن تبين شجاعته في 11 سبتمبر ذلك العام . . !
في ألم النوستالجيا ، يرحل أناس مشعّون مثل النجوم ، بل هم إشعاع تمثل بشراً من مجرات بعيدة ، لو رحلوا بأجسادهم ، هم باقون شعاعاً وضوءاً ساطعا. يا لك من محظوظ .. رصدَ "الهدنة التاريخية" بعين ، وكتب عنها بعقل ، وبكاها بقلب ، وما حظيت أنا بمثل حظك ، فعرفتُ بعضاً ممن كتبت عنهم أنت . لم أكن أعرف الراحلة "مَي" ، وإن تعاملتُ مع "دار الساقي" على أيامي في لندن ، كما لم ألتق ِ بالراحل سماحة ، وإن كنت شغوفاً بكتابته في "الأخبار " البيروتية ، امتدح بعضها مع صديق ٍ ألفت ُ إليه ، هو إبراهيم عوض ، وشقيقه الأكبر وليد صاحب مجلة "الأفكار " الأسبوعية. كم أحسست ُ بقوة انتمائي للراحل ، لحظة دخلت معزياً في دار نقابة الصحفيين قبالة الكورنيش ، وأحتضنت طلال سلمان، صاحب "السفير"، وهو يحبس دمعة ، والحضور في وجوم الحزن ، لفقد قلم ٍ جليل ، إسمه "جوزف سماحة" . أليس هو من جيل "الهدنة التاريخية" ، ذلك الذي ارتوى من رحيق الستينات والسبعينات والثمانينات ، وكاد أن يأخذه الشهيق في زمن القتال الناشب بين بيروتين ، في الشرق واحدة وفي الغرب أخــرى ؟ لا ، ليس حنيناً لماض ٍ فحسب . لم تكن تلك السنوات ، إلا تبراً صُراحا. والذي ننعيه حين يغادرنا ، "سماحة" أو "مَـي" ، نعرف أنه يأخذ جزءاً عزيزاً من تاريخٍ ينتمي للعصر الذهبي ، للسنوات الملتهبة في حمأة الذهب وهو يتأهب لأن يتشكل إبداعا ، لا يماثله إبداع من أيّ نوع ، في أيّ عصر ٍ آخر، وأيّ زمان آخر .

(6)
لو سمعت من يحدثك عن "الجاهلية" ، فأنت مدرك أيّ عصر ذلك . حين تسمعهم يحدثونك عن "القرون الوسطى" ، نعرف جميعنا ما المقصود . لو جاء ذكر "عصر النهضة" ، ذلكم هو "الرينيزانس" ، حقبة بهية في تاريخ البشر . تماماً حين نسمع عن " العصر الذهبي " ، فالمقصود هو عصر اينشتين وهيجل وماركس وطه حسين والفيس بريسلي وبرناردشو ومارلين مونرو وجان بول سارتر والعقاد والتجاني يوسف بشير والأخطل الصغير ونزار قباني وتاج السر الحسن وفيروز وأم كلثوم .. وأيضاً ... مي غصوب وجوزف سماحة . قائمة من ذهب بلا ترتيب. لقد شهدنا ، أيها الصديق ، طرفاً من زمن البهاء المحفور في ذاكرة التاريخ . .

الخرطوم- مارس 2007- مارس 2018

 

آراء