عواسه اقتصاديه
د. حسن بشير
12 February, 2012
12 February, 2012
(في الإجابة علي بعض الأسئلة)
العواسة هي بالطبع طريقة تقليدية لصنع الطعام في السودان خاصة ما يتعلق منه بما يشبه الخبز او الرغيف.أما العواسة الاقتصادية فهي التنظير بدون معرفة في علم هو، مثله مثل آي علم أخر له قوانينه وأساليبه ومناهجه وتخصصاته ونتائجه. إلا أن ارتباط علم الاقتصاد بالحياة اليومية جعل منه موضوعا للتناول الواسع حتى أصبح الناس يخوضون فيه بدون دلالة لما يقولون او يقدمون من أرقام وإحصائيات وما يعقدون من مقارنات.أصبح مثل ذلك التناول للشأن الاقتصادي امرأ مألوفا في جميع أنحاء العالم خاصة فيما يتعلق بالجوانب العملية التطبيقية او في الشأن المرتبط بحياة الناس اليومية. المشكلة عندنا في الجرأة الخاصة بالتنظير وإطلاق الألقاب والتفخيم والمسميات لغير المشتغلين أو المختصين في فروع علم الاقتصاد بتخصصاته المتشعبة شديدة التعقيد. من المعروف إن تطبيق النظريات الاقتصادية يتم عبر السياسات الاقتصادية الكلية والجزئية وبالتالي فإذا أصبح الذين يعلمون بتلك النظريات والذين لا يعلمون سواسية فان ذلك سينتقل إلي التطبيق (أو قناعة البعض الراسخة بصحة مفاهيم مغلوطة)، ويصبح الموضوع (عواسه اقتصادية) او تعلم للحلاقة في (رؤوس اليتامى).
بالنسبة للمسئولين التنفيذيين فان الموضوع في أساسه سياسي، لذلك عليهم أن يأتوا إلي الجمهور، عند ما يريدون مخاطبته مسلحين برأي الخبراء والمستشارين المختصين في المجال المعين، حتى يكون سندهم علمي متين ولا يعرضون أنفسهم، ومن يمثلون للحرج. الاستشارة والاستنارة برأي الآخرين أمر دارج في جميع أنحاء العالم، فالرؤساء والوزراء الذين يطلون علي العالم كل يوم ليسوا عباقرة وإنما هم علي اطلاع ودراية بمهنهم ومسئولياتهم التنفيذية، عبر مطابخ متخصصة، تقدم لهم جملة من الخيارات التي يجب عليهم اتخاذ المناسب لأهداف سياستهم في تعبيرها عن المصلحة العامة ومراعاة أهداف المجتمع.
في هذه الأيام وفي ظل الأزمات التي يعاني منها السودان تكثر المراجعات والمرجعيات الاقتصادية وتسود وفرة في التناول الاقتصادي، لكن بعض الذين يخوضون في هذا الموضوع يبدو أنهم علي قناعة تامة بان الاقتصاد ليس علم يتطلب التخصص وإنما مجرد طق مشروع للحنك. لا توجد مشكلة في ذلك إلا للذين لا يفرقون مثلا بين الناتج القومي الإجمالي والناتج المحلي الإجمالي ومكوناتهما وفي نفس الوقت يخوضون في تفاصيل، مربكة. ما يلفت الانتباه هذه الأيام هو الاهتمام المتزايد بميزان المدفوعات والعجز والديون ..الخ. وفي هذا تعقد مقارنات، هي عبارة عن مفارقات كتلك التي تقارن الدين الأمريكي او الديون السيادية الأوربية بما يحدث في السودان، وتضع الاقتصاد السوداني واقتصاديات تلك الدول علي قدم المساواة، مما يعطي نتائج لا علاقة لها بالواقع.
تلك المصطلحات ذات علاقة بما يسمي بالأصول الخارجية الصافية ( Net Foreign Assets )، اذا كانت الدولة مدينة فان عائدات تلك الأصول تكون اقل من صفر، أما إذا كانت دائنة فهي موجبة. هذا بدوره مرتبط وبشكل وثيق بالعجز في الميزان التجاري والعجز في الحساب الجاري ( Current Account)،الأول يعني أن الاستيراد اكبر من التصدير، أما الثاني فيقيس مدفوعات الفائدة او عائدات صافي الأصول الخارجية للدولة المعنية. هذا يعني ان المصطلحان ليسا متطابقان، فالحساب الجاري يقيس نسبة العجز الي الفائض للأصول (بما فيها الأصول المالية والتمويلية) المملوكة للدولة في الخارج خلال فترة زمنية محددة ، فإذا كانت الدولة دائنة ( Net Creditor) فستتحصل علي فوائد من ما راكمته من أصول ويظهر ذلك كفائض في الحساب الجاري علي عكس الدولة المدينة (Debtor). ذلك يعني ان الحساب الجاري يساوي العجز التجاري مضافا إليه صافي عائدات عوامل الإنتاج الخاصة بالدولة المعنية في الخارج ( CA=NX+iNFA) اي (صافي التجارة الخارجية "الصادرات – الواردات" والفوائد من صافي الأصول الخارجية.(الموضوع هنا يحتاج إلي الرجوع إلي المراجع العلمية المتخصصة).
ما ورد أعلاه ضروري للإجابة علي سؤال مهم هو كيف ولماذا يحدث العجز في الحساب الجاري للدول؟ وهل ذلك العجز بالضرورة سيء؟ من المعروف ان الدول التي تعاني من عجز في الحساب الجاري آو بشكل عام في ميزان المدفوعات تصاب بنقص في التوظيف بسبب عدم العدالة في المنافسة او لارتفاع التعريفات والعوائق الجمركية، لذلك قد يتلخص الحل في تحرير التجارة الخارجية وتوفير مناخ ملائم للاستثمار. قد يؤدي تحرير التجارة الخارجية وإزالة العوائق الجمركية إلي التخفيف من حدة العجز، لكن من الضروري النظر إلي العجز في علاقته بكل من أنماط الاستهلاك، الاستثمار والادخار في البلد المعني.هنا يكمن حجر الزاوية والفروق المهولة بين اقتصاديات الدول المتقدمة والفقيرة وبين الدول الصاعدة وتلك التي تعاني من ركود اقتصادي مزمن.
السؤال كيف يمكن لدولة ما أن تصبح دائنة عبر أدوات الدين (التمويل) العام (السيادية) دون أن تتوفر للمواطنين مقدرة علي الادخار؟ وللقطاع الخاص القدرة علي ضخ استثمارات جديدة؟ من الذي سيشتري الأوراق الحكومية المصدرة؟ كلما ارتفع المستوي المعيشي ومستويات الدخول والمعيشة كلما ازدادت مقدرة الدولة علي الاقتراض عبر أدوات الدين العام وكلما ارتفعت متانتها المالية المسنودة بأداء اقتصادي نشط. إذن الطريق إلي التخلص من العجز يمر عبر تحرير التجارة الخارجية، إدخال أساليب إنتاج متماثلة (عدالة المنافسة بين منتجي القطاع الخاص) وإجراء إصلاحات هيكلية شاملة.
جانب آخر متعلق بالاستثمارات الخاصة المحلية والقدرة علي الادخار، علي سبيل المثال في الولايات المتحدة الأمريكية نجد ان معدلات الاستثمار اعلي من معدلات الادخار (يرتفع الإنفاق الاستهلاكي ومستوي الرفاهية هناك بالرغم من تأثير الأزمة المالية العالمية علي تلك العوامل)، وهذا بالضبط ما يرفع الطلب علي التمويل الأجنبي (تمويل الطلب علي الاستثمار الداخلي عبر مستثمرين أجانب). في هذه الحالة إذا قمنا بربط العوامل ببعضها البعض فسنحصل علي استنتاج يفيد ب(أن انخفاض الادخار المحلي مع الارتفاع في الميل نحو الاستثمار يؤدي إلي عجز في ميزان المدفوعات)، يعني ذلك ان معدلات الاستثمار المرتفعة يمكن أن تؤدي إلي عجز ناتج عن الفرق بين المكاسب من عائدات الإنتاج ( Earnings) والإنفاق (المنصرفات) ( Expenditures)، إي ما يعرف بالامتصاص المحلي ( Domestic Absorption).
نتيجة لما تقدم سيظهر سؤال حول السبب وراء العجز هل هو الارتفاع في الاستهلاك؟أم الارتفاع في الأنفاق الحكومي؟ أم الارتفاع في الاستثمار؟ وهذا ما يقودنا مرة أخري إلي البداية عندما اشرنا الي عدم التمييز بين الناتج المحلي والناتج القومي. في السودان نجد أن العجز ليس بسبب إي واحد من تلك العوامل. المشكلة عندنا متمثلة في النقص الحاد في الموارد الحكومية إي كانت مصادرها (ضرائب، ديون عامة، قروض أجنبية أو حتى القدرة علي الاستدانة من الجهاز المصرفي)، تدني كبير في قدرة القطاع الخاص علي الاستثمار، انخفاض خطير ومستمر في مستويات المعيشة مما يقلص كل يوم من الاستهلاك العائلي، ارتفاع تكاليف الإنتاج وضغوط التضخم الركودي وتدني الإنتاج والإنتاجية. بالتالي فان المقارنة بيننا واقتصاديات الدول المتقدمة من المفارقات الخيالية.
ما نحتاج إليه ليس واحد من قبيل خيارات مثل زيادة الإنفاق الحكومي وزيادة القدرة علي الادخار وإنما علينا البحث في جميع الخيارات. مع ذلك ولتأكيد إجابة لا تفي بأغراض معرفية صلبة، لكنها ضرورية للتدخل في مسار الجدل حول المقارنات الجارية، نشير إلي أن العجز في ميزان المدفوعات والحساب الجاري عندما يتصاحب مع التوسع الاقتصادي، فانه يكون حميدا، لأنه يؤدي إلي الانخفاض في معدلات البطالة وارتفاع مستويات الدخول وهذا مسار يقود إلي أن العجز ناتج عن زيادة كبيرة في الاستثمار تمت تغطيتها باستثمارات أجنبية (أصول مملوكة لأجانب)مما أدي ألي عجز في الحساب الجاري. هو حميد كذلك لامه يؤدي إلي زيادة معدلات النمو المستقبلية واستدامتها عبر التوسع في الإنتاج المتجه إلي الخارج. والعكس من ذلك تماما عندما يعاني الاقتصاد من الركود والانكماش، أما الأشد سوءا علي الإطلاق فهي حالة التضخم ألركودي التي يعاني منها الاقتصاد السوداني والتي فاقم من حدتها أزمة إمدادات الوقود في محيط المشكلة بين دولتي السودان وجنوب السودان.
hassan bashier [drhassan851@hotmail.com]
////////////