عودة البنك الدولي إلى السودان: قراءة اقتصادية معمّقة في دلالات الزيارة، المخاطر، والآفاق

عمر سيد أحمد
O.sidahmed09@gmail.com
خبير مصرفي، مالي وتمويل مستقل
ديسمبر 2025

مقدمة
بعد سنوات طويلة من القطيعة وتجميد التمويل، وصلت إلى السودان في ديسمبر 2025 بعثة رفيعة المستوى من البنك الدولي. تأتي الزيارة في ذروة حرب واسعة أدت إلى انهيار البنية التحتية، ونزوح الملايين، وتراجع مؤشرات الإنتاج، وانقسام المؤسسات الحكومية نفسها بين سلطتين ومركزين إداريين. ومع ذلك، أعلن البنك الدولي استمرار تمويل مشروعات بقيمة 540.2 مليون دولار، والبدء في تقييم مشروعات أخرى كانت معلّقة منذ انقلاب 2021.
هذه الزيارة تطرح أسئلة جوهرية حول أسبابها، ودوافعها، والمخاطر المحيطة بها، وطبيعة المشروعات الممكن تنفيذها داخل بلد يعيش واحدًا من أعقد النزاعات في العالم اليوم. كما تثير تساؤلًا حول مستقبل العلاقة بين السودان ومؤسسات التمويل الدولية، وقدرة هذه المؤسسات على العمل دون وجود دولة مستقرة وفعّالة. ويمثّل هذا التحليل محاولة لقراءة الزيارة من زاوية اقتصادية وتنموية وسياسية، ضمن إطار أوسع لعلاقة السودان بمؤسسات التمويل الدولية في سياق الدول الهشّة والمتأثرة بالنزاعات.
أولًا: دلالات الزيارة – بين السياسي والتنموي

  1. تطبيع فني دون اعتراف سياسي
    لم تأتِ الزيارة باعتبارها اعترافًا سياسيًا بالحكومة القائمة في بورتسودان، بل ضمن نهج يتبعه البنك الدولي في التعامل مع الدول الهشّة، وهو نهج “Engagement without Recognition” أو التعامل دون اعتراف. ورغم أن البنك مؤسسة فنية بالأساس، إلا أنه يعمل داخل البيئة السياسية الدولية ولا يمكنه تجاوزها. بعد انقلاب أكتوبر 2021، قرّر البنك تعليق عملياته التزامًا بمبادئه التي تمنع تمويل حكومات غير ديمقراطية أو غير معترف بها دوليًا. لكن مع تفاقم الحرب والوضع الإنساني، أصبح استمرار التعليق مخاطرة بحد ذاته، فأُعيد فتح قناة الانخراط الفني دون تغيير موقفه السياسي.
  2. استجابة لازدياد الكلفة الإنسانية والاقتصادية للحرب
    أدت الحرب منذ 2023 إلى نزوح أكثر من عشرة ملايين شخص، وانهيار الزراعة في الجزيرة وغرب السودان، وخروج الخرطوم من الخدمة، وتوقف ما يقارب سبعين في المائة من الأنشطة الاقتصادية، إضافة إلى تفكك الخدمات الأساسية. ومع هذا الانهيار أصبح السودان واحدًا من أعلى الدول مخاطرة في العالم. لذلك لم تعد الغاية من العودة هي دعم الإصلاحات، بل تجنب الانهيار الكامل للدولة.
  3. رغبة البنك الدولي في حماية مشروعاته
    كان البنك الدولي قد علّق مشروعات بقيمة 1.8 مليار دولار. ولهذا فهو يسعى الآن لمعرفة ما الذي تم تنفيذه، وما الذي يمكن إنقاذه، وما تعرض للضرر الكامل. زيارة بعثة التقييم تمثل جزءًا من هذا الهدف.
  4. ضغط الدول المانحة
    تشعر دول مانحة كبرى—وفي مقدمتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي—بأن تجاهل السودان يفاقم مخاطر الإرهاب عبر الحدود، وتدفقات الهجرة، وتجارة السلاح، فضلًا عن زيادة النفوذ الروسي في البحر الأحمر. ونتيجة لهذا الضغط السياسي عاد البنك الدولي عبر مسار الخدمات الأساسية.
    ثانيًا: ماذا يستطيع البنك الدولي عمله وسط حرب؟
    استطاع البنك الدولي خلال العقدين الماضيين تطوير أدوات للعمل في الدول الهشّة التي تشهد صراعات طويلة مثل اليمن وسوريا وجنوب السودان والكونغو. هذه الأدوات تمكّنه من تنفيذ مشروعات في بيئات تفتقر إلى دولة مستقرة.
    أبرز هذه الأدوات نموذج التنفيذ عبر وكالات الأمم المتحدة (UN Implementation Modality)، بحيث لا تُضخ أي مبالغ في خزينة الحكومة، بل تُنفذ المشروعات عبر وكالات مثل UNICEF وFAO وWHO وWFP وUNOPS التي تتولى المشتريات والتنفيذ المباشر على الأرض.
    كما يعتمد البنك على التمويل المجمّد والمخصص (Ring-fenced Funds)، أي صرف التمويل لأهداف محددة مسبقًا مثل شراء أدوية، أو دعم التعليم، أو إنشاء أنظمة طاقة شمسية، أو توفير بذور للمزارعين، بحيث لا تمر الأموال عبر مؤسسات الدولة.
    ويستعين البنك بآلية المراقبة بواسطة طرف ثالث (Third Party Monitoring) تكلف بها شركات عالمية أو منظمات دولية أو شبكات مراقبة مستقلة لضمان تنفيذ الأنشطة والتحقق من عدم الانحراف المالي أو الإداري

ويُفضل البنك اختيار مشروعات منخفضة المخاطر التشغيلية لا تعتمد على شبكات بنية تحتية كبيرة، مثل مشروعات الطاقة الشمسية، والمراكز الصحية، والتعليم، وخدمات المجتمعات.
وأخيرًا يعمل البنك في مناطق أقل خطورة نسبيًا، مثل بورتسودان والشمالية والبحر الأحمر وجزء من الجزيرة ومناطق شرق السودان.
ثالثًا: المخاطر التي يواجهها البنك الدولي داخل السودان
يواجه البنك الدولي مخاطر كبيرة في البيئة السودانية. تبدأ هذه المخاطر بالمخاطر الأمنية المرتبطة بالقتال المستمر، وتغير خطوط التماس، واحتمال نهب المقرات والمخازن، واستهداف العاملين. وهناك أيضًا المخاطر المؤسسية الناتجة عن انقسام الدولة إلى مركزين، وتشتت الوزارات، وانهيار البيروقراطية، وفقدان القدرة الإدارية، وتشرد الموارد البشرية.
أما المخاطر المالية فتتمثل في انتشار الفساد، وغياب الشفافية، وصعوبة تتبع الأموال في بيئة معقدة تسيطر عليها شبكات مصالح مختلفة. ويواجه البنك مخاطر سياسية تتمثل في عدم الاعتراف الدولي بالحكومة، مما يمنع التمويل المباشر. كما أن المخاطر التشغيلية تتعلق بانقطاع سلاسل الإمداد، وصعوبة استيراد المعدات، وضعف الموانئ والمطارات، وانهيار النظام المصرفي، وغياب الموازنات الحكومية.
رابعًا: لماذا يعتمد البنك الدولي على وكالات الأمم المتحدة بدل مؤسسات الدولة؟
يعتمد البنك الدولي على الأمم المتحدة بدل الوزارات السودانية لعدة أسباب واضحة. السبب الأول هو انهيار قدرة الدولة على التنفيذ؛ فالمؤسسات الحكومية أصبحت منهارة، ومنقسمة، وتفتقر إلى الشفافية، وتخضع لتأثيرات سياسية وعسكرية. السبب الثاني هو عدم الاعتراف الدولي بالحكومة، وهو ما يمنع البنك من توقيع اتفاقيات أو تقديم تمويل مباشر، تطبيقًا لمبدأ “No Direct Financing to De-facto Authorities”، أي عدم التمويل المباشر لسلطات الأمر الواقع.
ويسعى البنك الدولي لضمان الشفافية والمساءلة، وهو ما يتوفر في وكالات الأمم المتحدة التي تمتلك أنظمة محاسبية حديثة، وآليات مشتريات عالمية، وقدرة على العمل في بيئات النزاع، إضافة إلى تقديم تقارير دورية. كما أن أموال المؤسسة الدولية للتنمية تخص المانحين ودافعي الضرائب في الدول الأعضاء، مما يتطلب أعلى درجات الحماية عبر آليات مالية ورقابية صارمة.
إضافة إلى ذلك، تمتلك الأمم المتحدة انتشارًا ميدانيًا واسعًا في مناطق عديدة من السودان، في حين أن مؤسسات الدولة تكاد تكون غائبة خارج نطاق محدود.
خامسًا: ما الذي يبحث عنه البنك الدولي الآن؟
يرغب البنك في تقييم محفظة المشروعات من 2021 إلى 2025 لمعرفة ما الذي تم تنفيذه، وما الذي تعرض للضرر، وما الذي يمكن إنقاذه. كما يعمل على التحضير لمرحلة التعافي المبكر عبر مشروعات في مجالات الزراعة والمياه والطاقة الشمسية والصحة والتعليم والحماية الاجتماعية والرقمنة والشمول المالي. ويتجه البنك نحو إنشاء وحدة تنسيق داخل وزارة المالية، لا بهدف تحويل التمويل للحكومة، بل كجسر اتصال فني.
ويبرز مشروع الطاقة النظيفة والرقمية كأحد المؤشرات المهمة، إذ يشير إلى تحول نحو بنية كهرباء لا مركزية تتجاوز الشبكة القومية المدمرة، إضافة إلى التركيز على التمويل الرقمي وتعزيز قدرات المجتمعات على الصمود.
سادسًا: ماذا تعني الزيارة اقتصاديًا؟
تمثل الزيارة بداية عودة جزئية للمجتمع الدولي إلى السودان، لكنها ليست عودة كاملة كالتي حدثت في 2020 بعد الثورة المدنية. إنها عودة فنية وإنسانية وتنموية محدودة، تهدف إلى تخفيف الضغط الاقتصادي عبر دعم قطاعات مثل الأمن الغذائي والتعليم والصحة والطاقة. كما تسعى الزيارة إلى منع الانهيار الكامل للدولة خشية الفراغ الأمني وتمدد نفوذ قوى خارجية.
وتشير الزيارة أيضًا إلى بدء نقاش دولي حول شكل السودان في اليوم التالي للحرب، بما في ذلك إعادة الإعمار، والإصلاحات الاقتصادية، ومستقبل إدارة الدين العام.
سابعًا: السيناريوهات المحتملة
السيناريو الأول هو توسع تدريجي في المشروعات إذا استقر الوضع الأمني. السيناريو الثاني هو تجميد العمليات مرة أخرى إذا تدهور الوضع الأمني في الشرق والشمالية. أما السيناريو الثالث، وهو الانتقال إلى مرحلة إعادة الإعمار، فيتطلب وقف الحرب، وتشكيل حكومة انتقالية معترف بها، وبرنامجًا اقتصاديًا متفقًا عليه.
خاتمة
عودة البنك الدولي بعد أربع سنوات من القطيعة ليست حدثًا عابرًا، بل تعكس تحوّلًا كبيرًا في مقاربة المجتمع الدولي للأزمة السودانية. فالبنك يعود اليوم ليس لدعم الإصلاحات أو تمويل خطط تنموية طويلة الأجل، بل لمنع الانهيار الكامل، وإعادة تشغيل الحد الأدنى من الخدمات الأساسية، وحماية ما تبقى من مشروعاته. هذه العودة الجزئية تحمل فرصًا محدودة لكنها تذكّر بأن السودان يقف على حافة نقطة اللاعودة، وأن مستقبل الاقتصاد السوداني رهن بوقف الحرب واستعادة الدولة قدرتها على العمل قبل أي وعود بالتمويل أو الإعمار.

عن عمر سيد احمد

Avatar

شاهد أيضاً

الذهب بين النهب والتهريب ودعم التعافي والتنمية بعد الحرب

إعداد: عمر سيد أحمدخبير مصرفي، مالي وتمويل مستقلأغسطس 2025مقدمةيمثل الذهب في السودان أحد أعمدة الاقتصاد …