عودة دالي

 


 

د. أسامة عثمان
25 November, 2009

 

Ussama.osman@yahoo.com

 

لا تحسبن أيها القارئ الكريم بأننا سنحدثك تحت هذا العنوان عن فلم على شاكلة «عودة ديجانقو» أو «عودة الابن الضال». ربما عرف بعض القراء من أول وهلة من هو «دالي» المعني، وربما تساءل العدد الأكبر من القراء عن من هو دالي هذا ومن أين عاد؟. وحتى لا يطول بك التخمين أيها القارئ العزيز فإن «دالي» الذي نعني هو الدكتور أحمد المصطفى دالي، مساعد التدريس في قسم الجيولوجيا في كلية العلوم بجامعة الخرطوم الذي عرفته منابر الحوار وأركان النقاش في أواسط سنوات السبعين وبداية سنوات الثمانين مجسدا تجسيدا حيا لمبدأ «الحرية لنا ولسوانا» الذي كان ينادي به خطاب «الأخوان الجمهوريون» في أركان النقاش التي ابتدعوها ورسخت تقاليد في النقاش الفكري والسياسي المتحضر بين الطلاب وساهمت في نشر الوعي والمعرفة بشكل ملحوظ في أوساط طلاب الجامعة في تلك الفترة.

ولقد انتقل أسلوب الحوار في ركن نقاش من الشارع للجامعة حيث أن الأخوان الجمهوريين كانوا ينطلقون في نشر دعوتهم بالتوجه لعامة الناس مباشرة بإقامة الأركان للنقاش في الأسواق وأمكن التجمعات لأن منابر الخطابة الدينية مثل المساجد كانت موصدة أمامهم بسبب التشويش الذي كان يمارس ضد الفكر الجمهوري من القائمين على أمر الإسلام التقليدي من سلفية وصوفية وحركات سياسية كالأخوان المسلمين بسبب الطرح غير المألوف الذي أتت به الفكرة الجمهورية.

كان دالي يقيم ركنا يوميا للنقاش على مدى ساعتين، يبدأه بطرح قضية ثم يفتح الباب للنقاش والإجابة على الأسئلة. ويؤم الركن الكثير من الطلاب بمختلف مشاربهم الفكرية والسياسية وتقارع فيه الحجة بالحجة وينفض الركن عند الساعة الواحدة ظهرا ليعاود الانعقاد في اليوم التالي. ولقد كان منبرا للجمهوريين لشرح فكرهم من ناحية عامة ولكن أهميته كانت في كشفه للفكر السلفي وخطر الهوس الديني والفهم التقليدي للدين. ولقد كان فهم الجمهوريين المتعق الشريعة وأحكامها والفكر الإسلامي وقضاياه مصدر معرفة وتنوير للكثير من الطلاب. وكانت تلك المعرفة مصدر تحدٍ كبير للإسلام التقليدي المتمثل في السلفية والأخوان المسلمين والطائفية. ولقد تعلم الكثير من الطلاب أدب النقاش ودفع الحجة بالحجة من الركن الذي كان يقيمه دالي ويحل محله فيه أحيانا عمر القراي. وصارت جميع التنظيمات السياسية تلجأ لهذه الوسيلة للتواصل مع الطلاب بديلا عن الندوات ذات المكروفونات والخطب العصماء! بل حتى "أنصار السنة" الذين لم يكن له وجود في الجامعات وأماكن الوعي عموما صاروا يقيمون أركانا للنقاش في الأسواق والساحات العامة لأنهم أيضا لم يكن مسموح لهم بالحديث في عامة المساجد لأن المتدين السوداني التقليدي ينفر ممن يصعد المنبر ليشتم الأولياء والصالحين. ولقد شاهدت بعض الأخوان الجمهوريين يضرون قسرا للنزول من المنابر في بعض المساجد والشيئ نفسه رأيته يقع لأنصار السنة حالما يبدأون في تسفيه الأولياء والشيوخ. لعب ركن النقاش دورا كبيرا في زيادة الوعي في أوساط طلاب الاتجاه الإسلامي أكثر من غيرهم لأنه مثل استفزازا فكريا جعلهم يلجأون للاطلاع والاستعداد للنزال الفكري بأدواته وإلا صاروا هزوا عند الطلاب لأن دالي كان كثيرا ما يجهز عليهم بمنطقه السديد وأسلوبه الساخر الذي لم يفارقه حتى الآن على الرغم من أن الرأس قد اشتعل منه شيبا. وللتدليل على تأثير الركن على الآخرين فلنقرأ هذه الفقرة من حوار في ثلاث حلقات نشرت صحيفة أجراس الحرية مؤخرا حلقتين منه ولم نر الحلقة الثالثة والأخيرة على الرغم من رفع الرقاية الأمنية على الصحف. الحوار كان مع أحد القياديين في الاتجاه الإسلامي في تلك الفترة ولقد صار قياديا في الإنقاذ في عشريتها الأولي ثم انتهت به المفاصلة بين الإسلامينن إلى المؤتمر الشعبي الإسلامي ليكون أحد القياديين فيه. يقول السيد أبوبكر عبد الرازق "نحن كحركة إسلامية تضررنا من إعدام محمود محمد طه ومن إنزواء الجمهوريين عن الساحة السياسية. للجمهوريين فضل كبير جدا في تعليم كثير من كوادر الحركة الإسلامية وتثقيفها بمعنى أن الجمهوريين لابتداعهم لأركان النقاش والحوار الفكري والثقافي استفزوا أفراد الحركة الإسلامية ودفعوهم لإطلاع واسع جدا لامتلاك العلم وقدرة المجادلة والمقارعة». ثم يواصل قائلا :"وكثيرون جدا من جيل الحركة الإسلامية الذين برعوا في الحوار والجدال كان ذلك بأثر من الحوار والجدال مع الجمهوريين، فهم لهم فضل كبير على الحركة الإسلامية، ولولا بروز الجمهوريين وطرحهم للقضايا السياسية لما أهتم أغلب أفراد الحركة الإسلامية بالقضايا السياسية والفقه السياسي، فالحزب الجمهوري دخل الساحة عبر قضايا فكرية اجتماعية وإن كان في الخمسينات نشأ كحزب سياسي استفز الأخوان للإطلاع على الفكر الجمهوري. والفكر الجمهوري ليس كله باطلا أو كله شرا ففيه أفكار نيرة جدا في كثير من المجالات تتفق مع أفكار كثيرة مطروحة من قبل الحركات الإسلامية وبشر بها القرآن» ويواصل السيد عبد الرازق شهادته قائلا: "الفكر الجمهوري استفز الحركة الإسلامية للاطلاع على كل الموروث الإسلامي وبالتالي فإن هذا الجدال أورثنا علما موسوعيا ما كان لنا أن نناله لولا استفزاز الحزب الجمهوري والأحزاب الأخرى حتى الحزب الشيوعي الذي استفزنا للقراءة في فسلفة التاريخ ومثالية هيغل ومادية ماركس وأنجلز» ويخلص القيادي الإسلامي إلى القول: " وعندما دخلت الحركة الإسلامية كان من القضايا المستفزة لي جدا قضية الفن والغناء وقضية المرأة وقضية الحكم السياسي، في تقديري أن محمود محمد طه لو كان حيّا أو استمر الفكر الجمهوري مطروحا في الساحة لكان سببا في ثراء فكري كبير للإسلاميين في الساحة، فالاستفزازات الفكرية ترشد كثيرا من الأفكار غير الناضجة لأفراد الحركة الإسلامية كما سيؤثر أفراد الحركة الإسلامية في الآخرين وإنضاج كثير من الأفكار التي يطرحونها (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض)"

ونحن نضيف إلى شهادة الأستاذ عبد الرازق أن أركان النقاش التي كان يحييها الجمهوريون في جامعة الخرطوم وغيرها لو قدر لها أن تستمر لكان الآلاف من الطلاب الذي تخرجوا في السنوات العشرين الأخيرة أكثر وعيا ومعرفة بأمور الدين والفكر والسياسة ولما وقعوا فريسة سهلة لغسيل المخ الذي تعرضوا له في معسكرات الدفاع الشعبي أو من برامج التجييش مثل برنامج "ساحات الفداء" وغيره. وإن استمرت مسيرة الوعي التي بدأها دالي وغيره في الجامعة لما شهدت الجامعة نماذج للشيخ عبد الحي يوسف والشيخ محمد عبد الكريم وفتاوى تكفير المثقفين وإهدار دمهم وتكفير الحزب الشيوعي وحزب البعث والحركة الشعبية والبقية تأتي. لاشك أن المدافعة الفكرية المذكورة أعلاه كانت ستدفعهم لإنضاج أفكارهم التي تشربوها من الفكر الوهابي في بعض البلدان العربية حيث أن المذهب واحد والرأي واحد ولا مكان للرأي الآخر أو التدافع. ولقد علمت مما ذكرت الصحف أن الشيخ محمد عبد الكريم شيخ مسجد الجريف قد سار على سنة الصحفية لبنى أحمد حسين واقتدى بها حيث أنه قد دعا الناس لحضور محاكمته كما دعت لبنى من قبل طائفة من الناس ليشهدوا عذابها. مما يدل على أنه قابل للاقتداء بالبدعة الحسنة أنّى وجدت، وأنه قابل للتعلم إن وجد من يعلمه أو من يستفزه ليتعلم أكثر ليقيم حجته. ولو قدر له أن يحضر ركن نقاش واحد لما تحدث باليقين الذي يتحدث به من يظن أنه يملك الحقيقة المطلقة كما جاء في إفاداته الصحفية. نأمل أن تتاح له الفرصة لزيارة أمريكا أو أية دولة خارج السودان حتى تنظم له مناظرة مع دالي وعندها ستكون الفائدة عظيمة للحاضرين. والأولى أن تكون تلك المناظرة في السودان ولكن يبدو أن الانتظار سيطول قبل أن يدخل الناس دور الندوات مسلحين بسلاح المعرفة والحجة لا غيره.

 

والعودة التي نعني هي عودة الدكتور دالي لمواصلة رسالته في التنوير ونشر الوعي التي انقطعت منذ عام 1984 عندما دخل سجن كوبر مع عدد آخر من الأخوان الجمهوريين بسبب معارضة نظام مايو وقوانينه الإسلامية التي أعلنها في سبتمبر 1983 والتي رفض الاستاذ محمود نسبتها للإسلام في منشوره المشهور «هذا أو الطوفان» واستعظم نسبتها للإسلام فسماها «قوانين سبتمبر» فسارت هذه التسمية ونسي الناس أول من استخدمها هو الأستاذ محمود. ومضت الأمور بالشكل المعروف لكثير من القراء وغير المعروف لعدد كبير من السودانيين الذين لم يكونوا قد وصلوا مرحلة عمرية تمكنهم من الوعي بما حدث في أواخر عهد مايو خصوصا بعد دخوله مرحلة ما سمي بالقوانين الإسلامية وتحكيم الشريعة التي أدت معارضة الأستاذ محمود لها لمحاكمته في محكمة مشهورة بتهمة لا توجد حتى في قوانين سبتمبر نفسها وهي تهمة الردة وكانت محاكمة للفكر في محكمة أشبه بمحاكم التفتيش كان قضاتها من أمثال المكاشفي والمهلاوي ممن صعدت بهم شريعة نميري إلى رئاسة المحاكم فأصدروا حكما بردة الأستاذ وتطليق زوجته وحرق كتبه وتحريم نشر فكره واستتابته وإعدامه إن لم يستجب لفرمان المحكمة وهيهات أن يستجيب! لقد مضى للقاء ربه شهيدا للفكر ولرسالته التي انقطع لها طوال عمره. ويجدر بنا أن نذكر هنا أن القضاء السوداني قد غسل سجلاته من عار ذلك الحكم السياسي الجائر الذي أساء للقضاء والقضاة والعدالة في أبسط صورها، وتبرأ منه عندما أصدرت المحكمة العليا في العهد الديمقراطي قرارا في دعوى رفعتها الأستاذة أسماء محمود محمود طه أبطلت قرار محكمة المكاشفي. ونحن إذ نذكّر بهذه الوقائع المعروفة للكثيرين إنما نسعى أولا لكسر حلقة التواطوء والصمت المريب الذي تمارسه كثير من الجهات والأفراد ووسائل الإعلام فتحجم عن ذكر واقعة محكمة الردة وإعدام الأستاذ محمود وحرق الكتب التي تمثل وصمة عار انفرد بها هذا البلد من دون بلدان المسلمين في العصر الحديث حتى ينساها الناس ويقف بعضها عن ذكر المحاكمة والردة والإعدام ويصمت عن قرار إبطال الحكم. وثانيا فإننا نذكر به لصلته بما نحن بصدده بعودة دالي.

خرج دالي من السودان فور وقوع انقلاب الإنقاذ حيث كان من أوائل من عرفوا هويته لخبرته الطويلة في معرفة الإسلاميين ووسائلهم، ولا غرو، فقد بدأ حياته عضوا بينهم فهل يا ترى يذكرون سابقته تلك!. ولعله قد استشعر قرب تحقق عبارة لا زلت أذكرها من أحد أركان النقاش في نهاية السبعينيات عندما قال له المرحوم محمد عثمان محجوب وهو أحد قادة الاتجاه الإسلامي في الجامعة ممن عرفوا بالشدة والاعتداء على الجمهوريين «شوف يا دالي نحن إذا وصلنا للحكم لن نمنعنكم من الكلام فقط وإنما سنعلقكم من رقابكم على الأشجار» فرد عليه دالي بواحد من تلك الردود التي اشتهر بها والتي يحول فيها حجة محاوره إلى حجة ضده بدلا أن تكون له « عندما تصلون إلى الحكم يا محمد عثمان، عندها، سيكون باطن الأرض خير من ظاهرها فلا مانع من المشانق». وكان له مع المرحوم محمد طه محمد أحمد أيضا مساجلات حامية تنتهي بإنتهاء الركن وكثيرا ما يخرجان حتى بوابة الجامعة وهما يتمازحان.

خرج دالي من البلاد متسللا وانتهى به المقام في الخليج إلى بعض حين ثم انتقل إلى الولايات المتحدة وحصل على الدكتوراة وعاد إلى الخليج مرة أخرى وهو يكد في كسب العيش لإعالة أسرته وقد أحجم لأكثر من ربع قرن عن الحديث في المنابر العامة في إطار حالة الإنزواء والصمت التي سيطرت على جماعة « الأخوان الجمهوريون». بعد إعدام الأستاذ حيث أن الجماعة قد عانت من فترة القمع الفكري والاستهداف للجماعة وأفرادها حتى بعد سقوط نظام نميري وعودة الحرية التي شملت كل المجالات إلا مجال الفكر الديني حيث ظل الهوس مسيطرا. وربما دخل البعض من الأخوان الجمهوريين في حالة إنزواء لأسباب شخصية تتعلق بتعامل كل فرد مع المأساة التي وقعت باختفاء الأستاذ فجأة. كما أن هنالك أسباب تتعلق ببنية الحركة وفكرها ذلك أنها ليست تنظيما له رئيس أو قائد منتخب أو مبايع وإنما هي جماعة دينية تلتف حول شخصية المرشد الذي لم يكن للجماعة يد في اختياره ولكنه اختيار رباني وتكليف يصقله الفرد بالدربة والرياضة ومجاهدة النفس والتسليك الذاتي في دروب العرفان.نشدانا للكمال. وكان المرشد أعلم بمقامات تلاميذه ولكنه مضى دون تكليف أحدهم بالخلافة أو القدامة لأن مثل هذه المقامات لا تورث ولكل نفس كسبها كما يقول أهل التصوف. وكان لتربية الجمهوريين التي جعلتهم يتدافعون لدى الفزع ويتراجعون لدي الطمع كما عبر الشاعر الكبير الدكتور عصام البوشي أثر في إحجامهم عن التصدي للقيادة وانتهاج سبيل العمل الفردي حيث آثر البعض العمل في مجال البحث والتدريس في الجامعات مثل الدكتور عبد الله أحمد النعيم الأستاذ بجامعة إيموري في أطلانطا والدكتور إسماعيل المهدي والدكتور عبد الله عثمان في جامعة اوهايو والدكتور حيدر بدوي في نيويورك والبروفيسور استيف هوارد والدكتور عبد الله إيرنست من تلاميذ الأستاذ من الأمريكان. واشتغل البعض بالكتابة والتأليف كالدكتور النور حمد والأستاد خالد الحاج والدكتور عمر القراي الذي جمع مع ذلك الكتابة في الصحف السيارة دون أن يحصر نفسه في قضايا الفكر الجمهوري. ومضى آخرون في دروب البحث عن عمل لكسب العيش لإعالة أسرهم كشأن غيرهم من السودانيين الذين امتلأت بهم المهاجر.

 

كان دالي في هذه الفئة الأخيرة وأحجم عن العمل العام منذ أن غادر السودان على الرغم من إلحاح الكثيرين عليه للخروج من عزلته حتى عاد في بداية هذا العام للولايات المتحدة وقرر العودة لمواصلة ما انقطع وهو السعي لنشر الوعي والفكر المستنير بكل ما أوتي من وسائل لأنه يعتبر أن استمرارية رسالة الأستاذ تكمن في نشر ما تلقوه منه من علم وكشف خطر السلفية والفهم التقليدي للدين على الإسلام والمسلمين لا سيما أنها قد توطدت مع وصول الإسلاميين للحكم فاستهل نشاطا في شكل ندوات عامة محضورة في منطقة واشنطن الكبرى وفيلادلفيا وغيرهما. ولقد قدر لي أن أحضر إحداها في مدينة نيوجرسي مؤخرا عن «المرأة بين الشريعة والدين» واستغرب البعض للعنوان الذي عنى به «المرأة بين الشريعة والإسلام» وبدأ المحاضرة بشرح الفهم الجمهوري للفرق بين الشريعة والإسلام لأن الشريعة تمثل الإسلام في حالة تحققه التاريخي في زمان ومكان معينين أما رسالة الإسلام الخالدة فهي رسالة الإسلام الثانية التي تقوم على أصول القرآن أو القرآن المكي ومن أراد الاستزادة في المقولات الأساسية يمكنه الرجوع للكتب الأساسية المنشورة في صفحة الفكرة على الانترنت ( alfikra.org www.) التي تضم جميع ما أنتج الأستاذ محمود وتلاميذه من كتب حرقتها محاكم التفتيش ذات صباح في سجن كوبر ظنا بان ذلك هو نهاية الفكر . كا يمكن اقتناء الكتب الأساسية مثل: "الرسالة الثانية من الإسلام"، "لا الله إلا الله" و"طريق محمد" ، ولقد أعاد الدكتور النور حمد والأستاذة أسماء محمود نشرها في طبعة فاخرة بمقدمة ضافية.

بين الأستاذ دالي في مستهل محاضرته آراء الأستاذ محمود في مسألة المرأة القائمة على مبدأ المساواة التامة بين الرجل والمرأة وشرح فكرة التدرج في تطوير قوانين الأحوال الشخصية حتى يحين الوقت لتطبيق المساواة الكاملة. ولقد كان بعض الحضور ممن شهدوا أركان النقاش لدالي في جامعة الخرطوم ولكن معظم الحضور كان ممن لم يعرفوا دالي من قبل وممن لهم معرفة مشوهة عن الفكر الجمهوري أو الذين لم يسمعوا به من قبل. من الملفت للنظر حرص أعداد من السودانيين الجنوبيين على حضور هذه الندوات والمشاركة في النقاش والتعبير عن دهشتهم لسماعهم لأول مرة بهذا الطرح الأصيل للإسلام وقال بعضهم لو كان مثل هذا الإسلام موجودا في السودان لما كانت هنالك مشكلة. ولقد واجه بعض الحضور دالي بسؤال يعتبرونه يمثل نقطة الضعف في مواقف الجمهوريين هو مساندة الأستاذ محمود لسلطة مايو في أول عهدها وكان دفاع دالي عن الأستاذ قويا شرح فيه الظرف الذي كانت تعيشه البلاد عشية انقلاب مايو عندما تصاعد الهوس الديني بعد حل الحزب الشيوعي ورفض الأحزاب الاستجابة لقرار المحكمة العليا ببطلان قرار الجمعية بطرد نواب الحزب الشيوعي وعقدت محكمة شرعية لمحاكمة الأستاذ محمود بالردة وجاؤوا للجمعية بمسودة الدستور الإسلامي التي اجيزت في مرحلة القراءة الأولي وكادت أن تجاز حتى قيض الله للبلاد المخرج بقيام انقلاب مايو الذي عده الأستاذ أفضل من الطائفية ومما كان ينتظر البلاد من مصير أسود لو استطاع أنصار الهوس الديني من تقنينه دستوريا. وظل هذا موقفه مع مايو ما ظلت مايو حربا على الطائفية والهوس ولكنه لم يتردد في معارضتها عندما صارت داعية للهوس الديني وجاءت بدستورها الإسلامي الذي جاءت من قبل لتنقذ البلاد منه. وعليه يرى دالي أن الحكم على تأييد الأستاذ لمايو ينبغي أن ينظر إليه في هذا الإطار دون أن ينسى أن يذكر الناس بأن الأستاذ لم يعتقل منذ عهد الإنكليز إلا في عهد مايو وأنه قدم روحه في معارضة مايو ولو أراد فوت الموت لاستجاب لاستتابتهم ولكنه يرى أن على الجمهوريين أن يكونوا فداء للشعب السوداني ولقد جسد ذلك الفداء.أو من تضحية أكبر من ذلك!

 

وبعد مضي ربع قرن على أركان النقاش في جامعة الخرطوم تطورت المعارف في مجال الاتصال كثيرا وربما احتاج دالي ليطور طريقة أركان النقاش لتطوير مستفيدا من الأساليب الحديثة والخروج من دائرة الخطاب للسودانيين إلى التوجه لعامة المسلمين لجهلهم التام بالتجديد الذي جاء به الفكر الجمهوري في مجال الفكر الإسلامي ولوجود منابر للحوار معهم بعيدة عن دوائر الهوس الديني التي لا تزال تسيطر على المنابر في البلدان الإسلامية كما أن عددا كبير من المسلمين يرون في الإسلام الحل للخروج من المأزق الذي يعيشون ولكنهم لا يرون في إسلام الأنظمة التي تحكم باسم الإسلام أو الجماعات الإسلامية التي وصلت للحكم أو التي تريد أن تصل للحكم حلا مما جعلها في حيرة.

 

آراء