غرايشون وغازي والآخرون … بقلم: د. أسامة عثمان

 


 

 

 

Ussama.osman@yahoo.com

 

روى لي أحدهم أنه بعد اللقاء الأول بين الدكتور غازي العتباني والجنرال غرايشون، وقع توافق بين شخصيتيهما وشعرا بأنها يمكنهما العمل معا في هدوء، ولكن سرعان ما بدأت الأصوات المعارضة لأسلوب كل منهما في التعالي هنا وهناك. وبحسب الراوي فإن د. غازي قد حثَّ غرايشون في واشنطن في زيارته الأولى لأن يقدم له شيئا ملموسا، كرفع اسم السودان من قائمة الدول التي تدعم الإرهاب مثلا، ليتقوى به أمام صقور الحكومة والحزب في السودان، لأن موقفه ضعيف والمتربصين به كثر، فكان رد الجنرال:  same here !

أي أن حالي ليس بأحسن من حالك. ولقد كان وقتها يعاني هو نفسه من الضعف ويتربص به الكثير من الصقور في الإدارة والكونغرس ناهيك عن مجموعات المجتمع المدني الشرسة التي بدأت تنهش سيرته ومسيرته قبل أن تطالب برأسه. ولقد وقعت منذ ذلك الوقت متغيرات كثيرة في حالة غازي وموقعه وفي حالة الجنرال وموقفه.

استمر السجال بين الجنرال وغرمائه في الإدارة وفي الكونغرس، وسجل نقطة هنا وخسر أخرى هناك، وكان وقتها يتم الإعداد بهدوء لسياسة الإدارة الجديدة تجاه السودان، سياسة تنازعتها مراكز قوى عديدة حتى خرجت في نهاية المطاف في شكلها المعروف الذي هو انعكاس لنهج أوباما غير الصدامي الذي يسعى لجعل الأبواب مفتوحة مع الجميع، ولقد كانت بصمات الجنرال ونهجه واضحة في السياسة الجديدة، ولكن جوهرها رسمه أقوياء الإدارة من لدن سوزان رايس حتى هيلاري كلينتون، وصاغتها سامنتا باور المستشارة الموهوبة الأستاذة بجامعة هارفارد، وقُدّمت تنازلت هنا وهناك ورسم الفريق المتشدد خطوطه الحمراء التي شملت الإبقاء على مسألة الإبادة الجماعية حية وعدم محاولة الجنرال، مجرد التفكير، في مقابلة الجنرال الآخر القابع في القصر الجمهوري في شارع  النيل مهما كانت سلامة موقفه في الحديث عن أنهم لا يمكنهم العمل مع السودان لحل مشاكله مع التجاهل التام لرئيسه والالتفاف حول الأمر بدعوى الحديث إلى مستشاريه المقربين من أمثال الدكتور غازي صلاح الدين، وما موقف مقاطعة الرئيس إلا استجابة لرأي الغلاة المذكورين أعلاه لا لشيء غير مسألة تهم المحكمة الجنائية الدولية التي صدرت في حقه وتهمة الإبادة الجماعية  التي برزت من جديد لقضاة الدائرة التمهيدية بعد أن استأنف المدعي العام القرار بتقديمه للتهمة من جديد بأدلة أقوى بحسب زعمه. وهذا النوع من التعامل يدخل في إطار سياسة العصا والجزرة المعروفة أو سياسة الترهيب والترغيب وكانت الحكومات الأمريكية السابقة قد اتخذت المؤقف نفسه من الرئيس صدام حسين حيث ظلت تتحدث إلى مسؤولين في حكومته وتحنب الحديث إليه أو الالتقاء به لأن مشروع أبلسته كان قد بدأ ولا يليق لمسؤول أمريكي رفيع أن يلتقي الشيطان أمام الملأ. قابلت، مع آخرين، ناشطا بارزا من المقربين من مجلس الأمن القومي الأمريكي ذات يوم في ندوة عن دارفور وعندما علم بأني سوداني سألني إن كنت قد قابلت الرئيس البشير يوما فأجبته بالنفي فمد يده لمصافحتي، وقال لي أنه قد أقسم ألا يضع يده في يد صافحت يد البشير! ولا أستبعد أن يكون هذا الرجل هو من سعى لأن يكون هذا الشرط من ضمن شروط السياسة الجديدة، ونجح في ذلك، فالناشطون في المجتمع المدني هنا يظلون يدفعون القضايا التي يناضلون من أجلها بلا كلل، ويستخدمون كل الوسائل المتداولة في العمل السياسي والمدني في هذه البلاد.

 كلف المستشار غازي صلاح الدين بملف العلاقات مع أمريكا منذ بضعة أشهر، إلى جانب ملف دارفور بعد أن ظل الملف ومسألة الحل متعثرة تحت إشراف دكتور نافع على نافع، واستبشر بعض الناس خيرا بذلك، لأن لغازي الكثير من المزايا الشخصية التي يفضل بها سلفه النافع في ملف دارفور، وقطعا في ملف العلاقات الأمريكية السودانية. وربما كانت نقطة ضعفه الوحيدة هي أن الكثير من الأفكار النيرة التي يأتي بها تظل في دائرة أفكاره الخاصة، لأنه يجد صعوبة في أن يتبناها الحزب أو الدولة، كما أنه لا يملك جماعة ضغط في الحزب أو الدولة لتمرير رؤاه، فيكتفي بالتعبير عنها بعيدا عن الإعلام اتقاءً للأشداء في الحزب والحكومة. وعلى الرغم من ذلك فقد نجح في تحقيق بعض الإنجازات تمثلت في التصريحات الإيجابية لغرايشون عن العقوبات وتحسن الوضع في دارفور وضرورة إنهاء الحديث عن الإبادة الجماعية التي ربما كانت ولكنها لم تعد!. كما أن دعوة الشريكين للحوار تحت إشراف واشنطن اعتبر اختراقا للشريك الأكبر في الحكومة، لأن الحوار مع أمريكا كان ممثل الحكومة الدائم فيه هو الحركة الشعبية، ولكن بعد تلك الزيارة استطاع غازي ووفده الحديث مباشرة إلى بعض الجهات الأمريكية وطرح وجهة نظرهم كفاحا دون واسطة. كل ذلك جعل الدكتور عبد الوهاب الأفندي يتكلم عن «تأثير غازي» كعنصر فاعل في التغيرات التي وقعت في الخطاب الأمريكي على الرغم من أنها عدلت وسحبت تحت ضغوط بعض الجهات المتنفذة الأخرى.  وربما انعكس ذلك التقدم في ملف العلاقة مع أمريكا في اختيار غازي لعضوية المكتب القيادي لحزب المؤتمر بنسبة عالية من الأصوات، مما جعلنا نظن أنه قد تجاوز محطة ضعف الحيلة والحاجة للمساعدة من نظيره الأمريكي في الحوار التي ذكرناه في أول المقال، لكل ذلك كان الدكتور غازي، ولا عجب، هو أول مسؤول حكومي يعلق على الاستراتيجية الأمريكية الجديدة تجاه السودان  فيؤيدها بحذر لما فيها من «عناصر إيجابية» ويصفها بأنها سياسة تفاعل وليست سياسة عزلة، وربما سعد بها لابتعاد شبح  الحلول التي كانت تنادي بها جماعات الضغط القوية من أمثال حركة «إنقاذ دارفور» وحركة «كفاية» الأمريكية من إعلان منطقة لحظر الطيران في دارفور والنظر في ضربة عسكرية محدودة. ولم يفته أن يعبر عن أسفه لاستخدام السياسة الجديدة  لمصطلح «الإبادة الجماعية في دارفور» المفضل لتلك الجماعات ووعد بإخضاع السياسة الجديدة للدراسة بتأنٍ. وربما اختلفنا مع رئيس تحرير جريدة الصحافة الذي استعرض آراء السيد المستشار المكلّف ووصفها بأنها إيجابية، وافترض أن السيد المستشار «بالطبع لم يكن يعبر عن موقف شخصي ولا رأي فردي وإنما كان يعبر عن موقف الدولة التي كلفته رئاستها بملف الحوار مع أمريكا». ونخشى أن يكون افتراض ما قاله غازي هو موقف الحكومة افتراضا يحتاج لجهد كبير لإثباته وفقا لما سنرى.

لم يمض وقت طويل حتى «نطَّ»، إذا استخدمنا عبارة رئيس تحرير الرأي العام، مستشار آخر غير مكلف وأصدر حكما قطعيا يرفض فيه باسم الحكومة للاستراتيجية الأمريكية الجديدة إزاء السودان. وقال إن الخرطوم تعتزم صياغة استراتيجية للتعامل مع الولايات المتحدة تعتمد على مبدأ المعاملة بالمثل. وربما كان في ذهنه عند إطلاق هذه التصريحات تنفيذ مبدأ ما سماه في كتابه عن الدبلوماسية السودانية «دبلوماسية العين الحمرا» التي لم نرَ لها تطبيقا خلال سنواته الطوال في وزارة الخارجية اللهم إن كان يعني بها الدبلوماسيين تحت إمرته!. وأضاف فيما ذكرت سونا «إن الاستراتيجية التي عرضت بصورتها الحالية نحن نرفضها رفضا باتا، وأن بعض القضايا التي وردت فيها مثل الإشارة إلى الإبادة الجماعية هي أكذوبة كبيرة» وأيده في ذلك من جوبا مساعد رئيس الجمهورية وأحد أشداء الحزب د. نافع على نافع الذي أكد فيما نقلت الصحف «على موقف السودان الثابت في اتباع نهج الحوار الموضوعي الذي يقوم على أساس الندية لا ازدواجية المعايير». ومن جوبا نفسها أعلن النائب الأول لرئيس الجمهورية عن «انبساطه» للاستراتيجية الجديدة  لأنها نادت بتنفيذ كامل لاتفاقية السلام خاصة القضايا العالقة، وأكد على أنها ستساعد على تقوية الشراكة لإيجاد سلام حقيقي بالبلاد. ولا ندري إن كان المستشار الرئاسي ينتبه لما يقول النائب الأول وعضو هيئة الرئاسة ويستشيره أو يقدم له المشورة. ولم يكتف الدكتور مصطفى إسماعيل بذلك، بل خرج علينا بتصريح أكثر إدهاشا عندما قال إن «البشير لن يقابل غرايشون حتى وإن طلب ذلك، وموقفنا واضح في هذا الشأن!» علامة التعجب من عندنا، وجه الدهشة أن هذه التصريحات القطعية والتي تدخل في إطار نوع التصريحات التي يتميز بها بعض الناس الذين يطلقون التصريح أولا ثم تأتي عملية التفكير في معناه لاحقا، وآخر من يحتاج لمثل هذه التصريحات هم الدبلوماسيون ورجال ووزراء الخارجية! ما الذي سيحدث إذا اقتضت ضرورات الحوار والتواصل في إطار سياسة عدم عزل السودان أن يلتقي السيد غرايشون بالسيد رئيس الجمهورية في وقت ما؟ عندها لا شك سيحرص السيد المستشار  الهمام على أن يكون تحيل بارزا في الصورة التاريخية ولكن بشكل يضعه في موقع يتقدم موقع السيد غازي في الصورة، هذا إن سمح لغازي بالظهور فيها أصلا، وسيبتسم ابتسامة صفراء تدل على أن التصريح المذكور لم يكن، ولن تكون المرة الأولى التي يطلق فيها تصريحا من هذا النوع ثم يحاول تبريره أو التنصل عنه، وما قصة شعب الشحاتين ببعيدة عن الأذهان!

ولم تقف المنكدات للسيد غازي عند هذا الحد، وإنما جاء تقرير لجنة حكماء أفريقيا عن حل مشكلة دارفور وقضية العدالة لأهلها، ليزيد الأمر تعقيدا بالنسبة له، حيث أنه كان من المتوقع أن يكون أول من يصرح عند صدور التقرير الذي تسرب قبل موعده المقرر، ولكن طالعتنا الأخبار بتكوين لجنة لدراسة التقرير ليست برئاسة المستشار المختص هذه المرة أيضا، وإنما برئاسة نائب الرئيس السيد على عثمان محمد طه الذي قاد وفد السودان، الذي لم يضم غازي، لحضور اجتماعات مجلس السلم والأمن الأفريقي الذي قدم له التقرير. ولم يتوانَ مستشار آخر هو  المستشار رقم 15 في قائمة المستشارين حتى الآن في حوش وزارة الحكومات المحلية المجاور للقصر، وهو السيد صلاح قوش، مدير الأمن والمخابرات السابق  الذي «نطّ» في الأمر من خلال مستشاريته الوليدة وأعلن عن عقد ورشة لدراسة التقرير وتشريحه وتقديم مقترحات للدولة بشأن السياسات التي ينبغي اتخاذها، فأين غازي صلاح الدين من كل هذا وهو المستشار المكلّف بملف دارفور؟.  

كنت قد كتبت سلسلة مقالات في الشأن العام استشهدت فيها مطوّلا بآراء وأقوال لغازي صلاح من حوارات وأوراق منشورة. ونصحني ناصح من الراسخين في الحركة الإسلامية بأنني إذا أردت لتحليلاتي أن تحظى بقدر من المصداقة فعلي ألا استشهد كثيرا بما يقوله غازي دليلا على رأي الدولة أو الحركة الإسلامية، لأن ما يقوله غازي، لا يمثل في معظم الأحيان، مهما كان صوابه إلا رأي غازي صلاح الدين! والتقيت عرضا في مطلع هذا العام في الخرطوم بدكتور غازي صلاح الدين وهو خارج من لقاء تحدث فيه إلى مؤتمر السودانيين العاملين بالمنظمات الدولية عن النصيحة التي أهدانيها ناصح، فلم يعترض عليها بدءا ولكنه استدرك قائلا: هذا صحيح، ولكن عليك أن تعلم أن أفكار غازي هذه يشاركه فيها أكثر من 70 في المائة من قواعد الحركة الإسلامية. وربما كان ذلك ما جعل الأخ عبد الوهاب الأفندي يتحدث عن شعبية غازي في أوساط الشباب والطلاب فيما ما تبقى من الحركة الإسلامية، ولكن ما هي أهمية هذه القطاع في «الحزب الوسطي المستنير» الذي أراد المؤتمر الأخير للمؤتمر الوطني تكريسه «التكريس من الكرسي بالمعنى الديني وهي مصطلح مسيحي في الأصل» والذي زحفت إليه القبائل والعشائر والطوائف والجهويات بولاءاتها القديمة مما جعل المؤتمر يتجنب حتى الإشارة إلى الحركة الإسلامية وتلك قصة أخرى. وتعود الدكتور غازي أن تكون له دورات صعود وهبوط في العمل العام، ونأمل ألا تكون دورة الصعود الأخيرة في طريقها للهبوط بسبب التقاطعات والتدخلات التي ذكرناها، لاسيما أن نظيره على الطرف الآخر قد حسم أمره وانعقد له لواء قيادة السياسة الأمريكية تجاه السودان، ونجح في أن يكون هو الصوت الأعلى وربما الوحيد في التصريح والحديث عما يجب فعله تجاه السودان في إطار السياسة المرسومة، وقد يخبر الجنرال في زيارته القادمة للخرطوم نظيره السوداني بأنه قد تقوى وانعقد له زمام الأمر ويأمل أن يرد عليه السيد غازي صلاح الدين (same here!).

* نيويورك

نقلا عن جريدة الصحافة ليوم الثلاثاء 3 نوفمبر 2009

 

 

آراء