غلام الله بن عايد وآثاره في السودان بقلم: د. أحمد إبراهيم أبوشوك

 


 

 

ahmedabushouk62@hotmail.com
أهدى ليِّ الأخ الصديق الدكتور سمير محمد عبيد نقد، الذي يعمل حالياً بجامعة البحرين، نسخة من كتابه الموسوم بـ "غلام بن عايد وآثاره في السودان"، ووصلتني هذه الهدية القيَّمة عبر الدكتور الأمين حسن العبد الذي كان أميناً على حملها من الخرطوم إلى كوالالمبور عشية حلول شهر رمضان المبارك، فله مني الشكر أجزله، وللأخ سمير التحية والتجلة عبر هذه المراجعة المتواضعة لسفره القيم، الذي يتكون من اثنتين وأربعين ومائة صفحة من الحجم المتوسط، مُقسمة إلى ثلاثة فصول رئيسة، تتصدرها كلمة شكر، ومقدمة، وتمهيد، وتتزيلها خاتمة، وثبت مصادر ومراجع، وفهرس محتويات. وزُينت خلفية غلافها الخارجي بشعار دار عزة للنشر والتوزيع بالخرطوم، وتاريخ نشرها عام 2007م. أما من حيث الموضوع فقد أسس الدكتور سمير مفردات دراسته علي فرضيَّة مفادها أن للشيخ غلام بن عايد وأحفاده الركابية في السودان دور عظيم في تثقيف العقول، والتواصل مع أهل السودان رحماً ومودةً، إلا أن هذا الدور لم يكن واضحاً في الإذهان، ويكتنفه شيء من الغموض، وتقدح في صدقيته بعض الروايات السماعية المتعارضة مع بعضها بعضاً. وانطلاقاً من هذه الفرضيَّة فقد حاول الدكتور سمير أن يعيد قراءة الروايات المتداولة حول سيرة هذا العلم اليماني في السودان، وذلك ابتداءً بمسقط رأسه في مدينة اللُحيَّة بجنوب اليمن، حيث أجرى الدكتور سمير عدداً من المقابلات الشخصية مع رهط من رواة التراث الشعبي، ووقف على بعض المصادر الأولية والمراجع الثانوية التي أعانته في توثيق الفصل الأول، الذي ارتكزت محصلته على "بلاد غلام بن عايد وأهلها" الذين كانوا يقطنون زيلع والحُليلة واللُحيَّة، وأصول أسرة المترجم له التي ترفع نسبها إلى أحمد بن عمر الزيلعي. وفي الفصل الثاني عرض المؤلف نسب غلام الله بن عايد، وأسباب خروجه من اللُحيَّة واختياره السودان، وإقامته بدنقلا، وآثاره العلمية التي تبلورت في عطاء عدد من تلاميذه النجباء، وفي مقدمتهم الشيخ محمد سوار الدهب بن عيسى. وفي الفصل الأخير تحدث الكاتب عن نسل الشيخ غلام الله بن عايد الذين اشتهروا لاحقاً بالسادة الركابية، وطبيعة علائقهم بمن جاورهم من البديرية والشايقية. وفي هذه المراجعة لا أود الالتزام بتقاليد المراجعات الأكاديمية المألوفة مراعاة لاختلاف أذواق القُرَّاء، ومن ثم أحول جاهداً أن أحلل بعض النتائج التي توصل إليها الدكتور سمير، وذلك في إطار الموروثات الأدبية الموجودة في السودان، والآثار المتعدده التي خلَّفها السادة الركابية باعتبارهم نموذجاً من نماذج التمازج الثقافي والاجتماعى والفكري في السودان.  
غلام الله بن عايد في مخطوط البدوي محمد نافع
يوجد أصل هذا المخطوط بدار الوثائق القومية بالخرطوم تحت الرقم: منوعات، 1/18/208، ويبدو أن الدكتور سمير محمد عبيد لم يطلع عليه، لذا فقد أكتفي بذكر الآثار العامة لغلام الله بن عايد وأحفاده في المصادر التي استشارها، دون أن يتتبع تفصيلاً طبيعة توزيعهم الديمغرافي، وآثارهم الثقافية والاجتماعية التي تركوها في السودان. وأمل أن تتاح الفرصة للأخ سمير ليقف عند هذا المخطوط القيم، ويوسِّع دائرة بحثه المنداحة في كل بقاع السودان، لأن قطرها الجامع بين عدد من المدن والضواحي يعطى صورة حيَّة لتواصل الركابية الثقافي والاجتماعي مع مَنْ تناسلوا معهم نسباً، أو نهلوا من فيض علمهم الدافق. أما عن أهلية المخطوط فيقول البدوي محمد نافع ، إنه قد نسخه عام 1953م، وذلك بعد أن جمع مادته من صدور حفاظ التراث الشعبي، ومن مخطوط ورثه عن والده نافع بن الأمين، وآخر وجده في جوزة السيد عيسى سوار الدهب وبخط محمد زين الجابرابي الذي كان يقيم بنواحي البواليد نسري بريفي ود حامد. فلا غرو أن هذه الخلفية تكسب المخطوط قدراً من الموثوقية، وزد على ذلك أن معظم المعلومات الواردة بين دفتيه قد تطابقت مع بعض النتائج التي توصل إليها الدكتور سمير، ونذكر على سبيل الاستشهاد هجرة غلام الله بن عايد إلى دنقلا في القرن التاسع للميلاد، وذلك بخلاف ما تواضعت عليه الروايات الآخرى التي أرجعتها إلى القرن العاشر للميلاد، علاوة على أن هذه الهجرة لم تكن من الحُليلة، أو زيلع، أو الحجاز، كما زعمت بعض الروايات الشفوية والمكتوبة، بل إنها انطلقت من مدينة اللُحيَّة التي يصفها الدكتور سمير بأنها "ميناء صغير على البحر الأحمر، عند مصب وادي مور شمال الحُديدة، وكان أهلها يعتمدون على صيد السمك، واللؤلؤ، والتجارة البحرية مع موانئ البحر الأحمر والبصرة والهند، والحياة الشعبية فيها وفيما حولها من تهامة تُشبه الحياة الشعبية في السودان إلى حد كبير." (سمير، ص 127). وذهب الدكتور سمير أبعد من ذلك، حيث قدم مقاربة نصيَّة جيدة الصِنْعَة بشأن الروايات المتداولة في الأدبيات السودانية عن نسب الشيخ غلام الله بن عايد وصلته بعمر الزيلعي. وبعد غربلت هذه الروايات ومضاهاتها بكتب التراث اليمنية ومنطق الأحداث التاريخية، توصل الباحث إلى نتيجة تقضي بأن الروايات النسبية كافة كانت مضطربة من حيث التسلسل، ولم تفلح في إثبات صحة نسب غلام الله بن عايد إلى عمر الزيلعي بصورة مقنعة، ومن ثم نجده يرجح الرأي بأن الركابية ينتسبون إلى جهينة، إلا أنه لم يقدم سلسلة مفصلة تربط أصولهم بأي فرع من فروع جهنية. وهذه الملاحظة لا تقدح في قيمة التحليل النصي الرائع الذي اتبعه في إثبات اضطراب الروايات المحلية الخاصة بنسب السادة الركابية، لكنها تعكس ضمور تحليل النص تحليلاً أثنوغرافياً، يقوم على تفكيك دقائق البيئات المحلية التي كانت تحكم حركة التواصل الاجتماعي في السودان، وانعكاسات ذلك على ماهية النص الوظيفية وفاعلية تداوله بين الناس. لكننا نجد العذر للمؤلف، لأنه انطلق من فرضيَّةلم تضع التحليل الاثنوغرافي في سلم أولياتها البحثية، بل عمدت إلى صحة أثبات النص ودرجة تطابقه مع الواقع، وهنا يبرز عطاء المؤلف وإسهامه العلمي.
الركابية وريادة العلم الديني في السودان
استقى الدكتور سمير جل معلوماته المرتبطة باسهامات الركابية العلمية في السودان من طبقات ود ضيف الله التي تؤكد أن الشيخ إبراهيم البولاد بن جابر "هو أول من درَّس خليل ببلاد الفونج، وشدت إليه الرحالة، ومدرسته في خليل سبع ختمات، وعلَّم فيها أربعين إنساناً." وخلفه على سجادة أولاد جابر أخوه عبد الرحمن الذي جلس "للتدريس والفقه وساير الفنون، ... وانتفعت به الناس، وبلغت ختماته في خليل أربعين ختمة. وكان له ثلاثة مساجد، موزعة بين الدفار، ودار الشايقية، وأمري الزورات (تذكر بعض المراجع كورتي بدلاً عن الزورات). ويبدو أن الشيخ إبراهيم البولاد قد حط رحال أولاً بمملكة الدفار، وتحت رعاية ملكها مسوا الكبير، وفي هذا يقول البدوي محمد نافع: إن إبراهيم البولاد بن جابر قد وضع "مسجداً بقرية ملك الدفار قصاد قنتي شرقاً، وعند بناية المسجد وضع فيه خمسة أعمده حذواً بقواعد الإسلام، ولا تزال آثار المسجد موجودة بالدفار على مآثر مملكة البديرية، وصار ملوك الشايقية يحضرون لاستماع الدروس والإرشادات التي كانت توجَّه إليهم من داخل المسجد." وتقودنا هذه الرواية إلى القول بأن بشارة الغرباوي جد الإسماعيلية في كردفان ودبة الفقراء قد درس بمنطقة الدفار، وذلك بخلاف ما ذهب إليه ود ضيف الله وأحمد الأزهري مؤلف مخطوط الاقتباس بأن الغرباوي قد درس في جزيرة ترنج في منطقة الزورات، لأن البون شاسع بين ترنج وموطن الشيخ بشارة الغرباوي بمنصوركتي، ويبدو أن الرواة قد خلطوا بين فترتين في حياة أولاد الجابر، الأول ترتبط بإقامتهم بمنطقة الدفار، والثانية تتمثل في رحلتهم الأخيرة إلى جزيرة ترنج حيث توجد مقابرهم، ومقبرة حوارهم  المطيع حمد العجمي بن الملك مسوا الدفاري الذي أرتبط بهم روحياً، وآثر البقاء معهم في جزيرة ترنج إلى أن توفاه الله.
أما آثارهم العلمية، كما يعرضها البدوي محمد نافع ويوافقه الرأي الدكتور سمير، فلم تكن حكراً لمنطقة الدفار ونواحي الشايقية، بل انداحت اتساعاً مع ريح طلابهم الذين بلغ أربعون منهم مقام القطبانية، حسب ود ضيف الله، ونذكر منهم الشيخ عبد الرحمن بن الشيخ النويري المدفون بأربجي، والشيخ عبد الله بن دفع الله العركي، ويعقوب بانقا الضرير جد العقوباب، والشيخ الحاج اللقاني، والشيخ عيسى سوار الدهب بتنقسى، والشيخ إبراهيم ود أم رابعة بحجر العسل، والشيخ ود الكرسنى بالبركل، والشيخ حمدتو بنوري، والشيخ عبد الله الأغبش ببربر، والشيخ صغيرون بالفجيجة. وبذلك استطاع أحفاد غلام الله بن عايد أن يضعوا اساس التعليم الديني في السودان، ويسهموا في تأسيس عدد من مراكز العلم المختلفة (خلاوى ومساجد) التي أضحت تقوم بأدوار متعددة الأغراض في مجتمع الدولة السنارية، ثم تدريجياً كوَّنوا اللبنة الأولى لطائفة العلماء التي احتلت مراكز اجتماعية مرموقة في حياة المجتمع السناري، حيث أضحى أقطابها مراجعاً للشورى، والفتوى، والشفاعات في بلاط أهل السلطة ومواطن نفوذهم الديني والاجتماعي. 
الركابية من ريادة العلم إلى التمازج القومي
لا عجب أن ريادة العلم والنفوذ الديني قد مهدتا الطريق لأحفاد غلام الله بن عايد أن يتزاوجوا مع الأهلين، دون أن يرتكنوا لحاجز نسبيٍ يمنعهم من التصاهر مع مريديهم ومضيفيهم في كل بقاع السودان. ويبدو أن مثل هذا التواصل قد بدأ منذ فترة مبكرة، يرجع تاريخها إلى زواج الشيخة العالمة فاطمة بنت جابر من سرحان بن عمران المرفوع نسبه إلى السلطان حسن كردم، وتبلورت حصيلة هذا الزواج المبارك في ميلاد الشيخ محمد صغيرون العودي الذي كان بحراً في علوم القرآن والفقه. ويقال أنه هاجر من جزيرة ترنج بمنطقة أمري الزورات إلى قوز المطرق (أو الفجيجة) جنوب شندي، نتيجة لخلاف نشب بينه وبين أولاد خاله الشيخ إسماعيل بن جابر في جزيرة ترنج. وبعد أن حط رحاله بدار الجعليين أقطعة السلطان بادي أبوشلوخ أرضاً في الفجيجة لتأسيس داره، وخلوته، ومسجد تقام فيها الصلوات الجامعة. وبفضل هذه الهجرة تواصل أحفاد غلام الله فكرياً واجتماعياً مع الجعليين في منطقة شندي وما حولها، وأضحى قوز المطرق يُعرف بقوز العلم، الذي تحول إلى منارة من منارات تحفيظ القرآن وتدريس الفقه المالكي في منطقة الجعليين والمناطق المجاورة لها. وأمتد أيضاً تواصل أحفاد غلام الله الفكري والاجتماعي إلى كردفان ودارفور، وذلك بعد هجرة الشيخ عبد الهادي بن دوليب من موطنه بدبة الفقراء إلى جبل الحرازة بشمال كردفان جهة حمرة الوز، حيث استقر فترة من الزمن، تزاوج فيها اجتماعياً مع أهل جبل الحرازة، واستمر في تعاليم القرآن إلى أن توفاه الله. وبعد وفاته انتقل ابنه ياسين إلى خورسي التي صارت عاصمة للدواليب، واشتهر اسمها بين طلاب العلم في كردفان ودارفور. ودواليب خورسي هم أحفاد محمد الضرير الملقب بدوليب نسي في منطقة الدبة، والذي كان الناس يتبركون بفضله، ويقولون في التمني: "اللهم ارزقنا عبادة دوليب نسي، وكرامات حبيب نسي، وعلم ود عيسى". وفي رفاعة يوجد نفر من ذرية الشيخ حسن ود بليل الذين ساروا على نهج أجدادهم الركابية في حمل لواء العلم والتواصل الاجتماعي مع مضيفيهم، ونذكر منهم أسرة السيد لطفي، والسيد الطيب الجزولي (الشهير بأفندي)، والسيد عبد الرحيم محمد قيلي، والسيد محمد طه والد الأستاذ محمود محمد طه.
فلا شك أن الحديث يطول حول تحديد معالم شبكة العلاقات الاجتماعية والثقافية التي أسسها السادة الركابية في السودان، لكن أكتفي بهذا القدر الذي ربما يعين القارئ الكريم في التثبت من صحة الفرضيَّة التي ذهب إليها الدكتور سمير محمد عبيد عندما اختار لدراسته عنوان: "غلام بن عايد وآثاره في السودان"، فالكتاب حقاً جدير بالاطلاع والمدارسة، لأنه يحمل بين ثناياه معلومات قيِّمة عن نسب غلام الله بن عايد، وحركة التعليم الديني التي وضع لبناتها أحفاده في السودان، واتمنى أن يجد الدكتور سمير الفرصة ليقف على بعض المخطوطات المودعة بدار الوثائق القومية بالخرطوم، والتي حتماً ستعينه في توسيع مدارك دراسته القيِّمة، وتمكِّنه من إضافة بُعد آخر لسيرة الركابية في السودان، يقوم على مقاربة تحلل تواصلهم الاجتماعي مع قبائل السودان المختلفة، وانعاكسات ذلك على صون التمازج القومي، وكيفية توظيفه تجاه وحدة جاذبة في السودان.

  

 

 

آراء