غنّي وشكّريه .. يا خُدرة الورتاب !
د. خالد محمد فرح
19 November, 2023
19 November, 2023
غنّي وشكري/ شكّريه ، لازمة تعبيرية نمطية مقولبة ، أبدعتها وتبنتها عربية اهل السودان منذ زمان قديم، وظلت تستخدمها في نظمها الشعري التقليدي الدارج، مثلها مثل غيرها من تلك اللوازم التعبيرية المصاحبة للابداع الشعري العامي في السودان، وذلك مثل قولهم على سبيل المثال: يا طير إن مشيت، ومن قومة الجهل، والليلة الصعيد وهلم جرا، وكذلك قول شعراء المديح النبوي التقليدي مثلا: الليلة البريق، ويا حاج الحجاز. وعيب شبابي، وطاب زماني الخ وقد افتنّ في استخدام هاتين الاخيرتين بصفة خاصة، المادح البارع الشيخ حياتي الحاج حمد 1871 - 1942م.
فغني وشكريه وما جراها بمجراها من صيغ تعبيرية فنية، هي عبارة عن " عِصي حديث "، يُستهَل بها الكلام والنظم ، تأليفاً للسامع ، ولفتاً لسمعه وانتباهه. ولهذه القوالب التعبيرية الفنية الدارجة، مشابه في الادب العربي الفصيح المنثور منه والمنظوم. فمن ذلك قول الشعراء قديماً على سبيل المثال: ألا ليت شعري، ويا ليلُ ، ولعمرُكَ، وغيرها من تلك العبارات الشعرية النمطية.
ورحم الله فناننا الكبير الراحل الأستاذ الموسيقار القدير محمد الأمين الذي افتقده الوطن كله بأسره مؤخراً، رحمةً واسعةً وأكرم نزله عنده في جنات النعيم، فقد صدح بهذه اللازمة التراثية الشعرية من ضمن كلمات الاغنية الشعبية الحماسية " عيال اب جويلي " ، التي شهرها فقيدنا العزيز، واذاعها بين العالمين، منذ ستينيات القرن الماضي. وذلك إذ يقول في احد مقاطع تلك الاغنية الخالدة:
غنّي وشكّري يا خدرة الورتاب
فوق ود الفحل الليلة جبت جواب
حقيت الاسم يا سالم الأرباب
قيدومة العيال رُكّازة للمرهاب
وكان هذا المقطع بالذات يطربني ويشعرني بالزهو الشديد منذ الطفولة الباكرة لسبب ذاتي محض، هو ان جدي المباشر اسمه " فرح ود الفحل " توفي في عام 1946م، فهو ايضا " ود الفحل ". ولذلك كنت اتوهم في مخيلتي الطفولية ، انه هو المعني بذلك المقطع، وانما كان ذلك في الواقع مجرد اسم على اسم كما يقال.
هذا، وقد لاحظت ان الاستاذ محمد الامين رحمه الله، قد ابتدع خصوصاً خلال السنوات الاخيرة ، اسلوباً جديدا ومعجباً للغاية في طريقة اداء الشطر الذي يقول فيه " حقيت الاسم يا سالم الأرباب "، بحيث صار ايقاعه أسرع من ايقاع سائر مقاطع هذه الاغنية القائم على ايقاع الدلوكة او " السيرة التقيلة "، فجعل يؤديه في نهاية الاغنية، أداءً سريعاً على ايقاع خفيف، يصلح ل " النقزي " المتحفز النشط، بله السكسكة والتويست، عوضاً عن العرضة الرزينة التي يلائمها ايقاع معظم هذه الاغنية ذات الكلمات الحماسية المهيبة في الأساس.
جاء في حديث قرأته مؤخراً في بعض منصات التواصل الاجتماعي، منسوب الى الاستاذ خالد الشيخ حاج محمود، وزير الثقافة الاسبق بولاية شمال كردفان، وهو رجل واسع الاطلاع والمعرفة بخارطة الفن والابداع في تلك الولاية على وجه الخصوص، وبملامح تاريخها الاجتماعي والثقافي عموماً، وهو حديث نشر عقب رحيل الاستاذ محمد الامين، ان أغنية " عيال اب جويلي " هي من تاليف سيدة تسمى " بلالة " كانت تقيم بمدينة " ام روابة ". وكنت قد سمعت كذلك من اخي الاكبر الاستاذ " فرح محمد فرح " قبل عدة أعوام، ان مؤلفة تلك الاغنية هي بالتحديد والدة عمنا " ود الغوث " رحمه الله، صاحب وسائق أول سيارة أجرة " تاكسي " بتلك المدينة، والله أعلم أي ذلك كان !.
وفي رواية الاستاذ خالد حاج محمود أن عيال اب جويلي كانوا فتية تجارا متنقلين، يتجولون بتجارتهم بين الجزيرة والشواطئ الغربية للنيل الابيض والاطراف الشرقية لكردفان. وذات مرة في عام 1916م على حد قول خالد الشيخ، هجم عليهم لصوص قطاع طرق، فثبتوا لهم، وقاتلوا عن اموالهم وارواحهم قتالا مريرا، وصدوا عنهم تلك العصابة المغيرة، فطار خبر ثباتهم وبسالتهم الى مرابع أهلهم، وخصوصا بنات بلدهم اللائي اتوا اليهن ب " سمح الخبر ". ومن ثم اوحت تلك الواقعة للسيدة بلالة أو لشاعرة اخرى غيرها ، بتدبيج هذه القصيدة الملحمية الرائعة.
ومما يُفهم من رواية خالد حاج محمود ، أن عيال اب جويلي ربما كانوا ينتمون الى قبيلة " الجعافرة ". وكنت أيضاً قد وقفت في كتاب طبقات ود ضيف الله من قبل، على ترجمة لبعض اولياء الجزيرة، جرى فيها ذكر شخص اسمه " ابو جويلي "، ولكن المؤلف ود ضيف الله قد أشار حينها أن ذلك الشخص من " الحضور ". والله أعلم بحقيقة الأمر.
أما كون ان الفلاة الممتدة بين الاطراف الغربية لولاية النيل الابيض والحواف الشرقية لمديرية كردفان قد كانت في العهود السابقة، بيداء مخوفة، تعج بالسباع الضواري، وخصوصاً بصنوف الفتاك والعيارين وقطاع الطرق، فهذا مما لا شك فيه، وقد ظلت اخبارها تشكل مادة دائمة الحضور في القصص والادب الشعبي لتلك المنطقة، سرداً ونظما.
ولقد وعيتُ طرفاً مما كانت تقصه علينا الخالة الحاجة فاطمة بنت بلال عليها رحمة الله، نقلاً عن شاعرة شعبية شهيرة في منطقتنا يقال لها " الليمون بنت المهدي "، ممثلاً في بعض ما نظمته تلك الحكّامة ذائعة الصيت في زمانها وبيئتها المحلية، من اشعار في تمجيد قصص البطولة وذم الجبن والانهزام في المقابل. وللمصادفة المدهشة ان تلك الاشعار كانت تصور أجواء الملاحم في ذات المنطقة بالضبط.
من ذلك قولها مثلاً:
درب الدويم انحجَرْ
وبقى مخافة ووكر
حبسوهو نوبة اب تبَرْ
الطاري قولي انتقل
والناسي قولي رحرحْ هبَرْ
وبقى تلفون جاب الخبرْ
ومن ذلك قولها أيضاً:
غنّي وشكّريهو يا الصفرا يا الجبّينه
جاكي ود جوقو منطّطْ عينينا
أول تبادي اسعليهو من نعلينا
😂😂😂😂😂😂😂😂
والشاهد هو قولها " غنّي وشكريهو " وهي بيت القصيد. ثم تأمل وصف صفار بشرة الفتاة الحسناء ، بلون ثمرة الجبين الاصفر الفاقع الجميل، كصفار صاحبة ود الرضي " أما صفارو فاقع !! ".
وكذلك توقف مع الصورة الكاريكاتورية الساخرة والمضحكة التي رسمتها تلك الشاعرة سليطة اللسان لتصوير جبن " ود جوقو "، الذي جحظت عيناه فرقاً من القتال، وامعاناً في الهرب من ارض المعركة ، نسي نعليه، فهي تطلب من تلك الحسناء جبينية اللون ان تسأله بادئ ذي بدء عن نعليه وأين تركهما !.
وبالطبع فقد روت لنا الخالة حاجة فاطمة رحمها الله، بعض المقاطع التي نظمتها تلك الشاعرة الليمون، في مدح جدي العمدة فرح ود الفحل، وفي غيره من أعيان المنطقة وفرسانها ووجهائها، ربما خلال العقد الثاني من القرن العشرين. وانما الجأني محض الاستطراد وكون أن الشئ بالشئ يذكر ، الى التطرق الى هذه الاشياء، ولكنني قصدت في المقام الاول، الدندنة حول عبارة " غنّي وشكريه " السودانية التراثية، محاولةً مني في الاسهام في التنويه بتراث فقيدنا الراحل الاستاذ محمد الامين، عليه من الله الرحمة والغفران.
فغني وشكريه وما جراها بمجراها من صيغ تعبيرية فنية، هي عبارة عن " عِصي حديث "، يُستهَل بها الكلام والنظم ، تأليفاً للسامع ، ولفتاً لسمعه وانتباهه. ولهذه القوالب التعبيرية الفنية الدارجة، مشابه في الادب العربي الفصيح المنثور منه والمنظوم. فمن ذلك قول الشعراء قديماً على سبيل المثال: ألا ليت شعري، ويا ليلُ ، ولعمرُكَ، وغيرها من تلك العبارات الشعرية النمطية.
ورحم الله فناننا الكبير الراحل الأستاذ الموسيقار القدير محمد الأمين الذي افتقده الوطن كله بأسره مؤخراً، رحمةً واسعةً وأكرم نزله عنده في جنات النعيم، فقد صدح بهذه اللازمة التراثية الشعرية من ضمن كلمات الاغنية الشعبية الحماسية " عيال اب جويلي " ، التي شهرها فقيدنا العزيز، واذاعها بين العالمين، منذ ستينيات القرن الماضي. وذلك إذ يقول في احد مقاطع تلك الاغنية الخالدة:
غنّي وشكّري يا خدرة الورتاب
فوق ود الفحل الليلة جبت جواب
حقيت الاسم يا سالم الأرباب
قيدومة العيال رُكّازة للمرهاب
وكان هذا المقطع بالذات يطربني ويشعرني بالزهو الشديد منذ الطفولة الباكرة لسبب ذاتي محض، هو ان جدي المباشر اسمه " فرح ود الفحل " توفي في عام 1946م، فهو ايضا " ود الفحل ". ولذلك كنت اتوهم في مخيلتي الطفولية ، انه هو المعني بذلك المقطع، وانما كان ذلك في الواقع مجرد اسم على اسم كما يقال.
هذا، وقد لاحظت ان الاستاذ محمد الامين رحمه الله، قد ابتدع خصوصاً خلال السنوات الاخيرة ، اسلوباً جديدا ومعجباً للغاية في طريقة اداء الشطر الذي يقول فيه " حقيت الاسم يا سالم الأرباب "، بحيث صار ايقاعه أسرع من ايقاع سائر مقاطع هذه الاغنية القائم على ايقاع الدلوكة او " السيرة التقيلة "، فجعل يؤديه في نهاية الاغنية، أداءً سريعاً على ايقاع خفيف، يصلح ل " النقزي " المتحفز النشط، بله السكسكة والتويست، عوضاً عن العرضة الرزينة التي يلائمها ايقاع معظم هذه الاغنية ذات الكلمات الحماسية المهيبة في الأساس.
جاء في حديث قرأته مؤخراً في بعض منصات التواصل الاجتماعي، منسوب الى الاستاذ خالد الشيخ حاج محمود، وزير الثقافة الاسبق بولاية شمال كردفان، وهو رجل واسع الاطلاع والمعرفة بخارطة الفن والابداع في تلك الولاية على وجه الخصوص، وبملامح تاريخها الاجتماعي والثقافي عموماً، وهو حديث نشر عقب رحيل الاستاذ محمد الامين، ان أغنية " عيال اب جويلي " هي من تاليف سيدة تسمى " بلالة " كانت تقيم بمدينة " ام روابة ". وكنت قد سمعت كذلك من اخي الاكبر الاستاذ " فرح محمد فرح " قبل عدة أعوام، ان مؤلفة تلك الاغنية هي بالتحديد والدة عمنا " ود الغوث " رحمه الله، صاحب وسائق أول سيارة أجرة " تاكسي " بتلك المدينة، والله أعلم أي ذلك كان !.
وفي رواية الاستاذ خالد حاج محمود أن عيال اب جويلي كانوا فتية تجارا متنقلين، يتجولون بتجارتهم بين الجزيرة والشواطئ الغربية للنيل الابيض والاطراف الشرقية لكردفان. وذات مرة في عام 1916م على حد قول خالد الشيخ، هجم عليهم لصوص قطاع طرق، فثبتوا لهم، وقاتلوا عن اموالهم وارواحهم قتالا مريرا، وصدوا عنهم تلك العصابة المغيرة، فطار خبر ثباتهم وبسالتهم الى مرابع أهلهم، وخصوصا بنات بلدهم اللائي اتوا اليهن ب " سمح الخبر ". ومن ثم اوحت تلك الواقعة للسيدة بلالة أو لشاعرة اخرى غيرها ، بتدبيج هذه القصيدة الملحمية الرائعة.
ومما يُفهم من رواية خالد حاج محمود ، أن عيال اب جويلي ربما كانوا ينتمون الى قبيلة " الجعافرة ". وكنت أيضاً قد وقفت في كتاب طبقات ود ضيف الله من قبل، على ترجمة لبعض اولياء الجزيرة، جرى فيها ذكر شخص اسمه " ابو جويلي "، ولكن المؤلف ود ضيف الله قد أشار حينها أن ذلك الشخص من " الحضور ". والله أعلم بحقيقة الأمر.
أما كون ان الفلاة الممتدة بين الاطراف الغربية لولاية النيل الابيض والحواف الشرقية لمديرية كردفان قد كانت في العهود السابقة، بيداء مخوفة، تعج بالسباع الضواري، وخصوصاً بصنوف الفتاك والعيارين وقطاع الطرق، فهذا مما لا شك فيه، وقد ظلت اخبارها تشكل مادة دائمة الحضور في القصص والادب الشعبي لتلك المنطقة، سرداً ونظما.
ولقد وعيتُ طرفاً مما كانت تقصه علينا الخالة الحاجة فاطمة بنت بلال عليها رحمة الله، نقلاً عن شاعرة شعبية شهيرة في منطقتنا يقال لها " الليمون بنت المهدي "، ممثلاً في بعض ما نظمته تلك الحكّامة ذائعة الصيت في زمانها وبيئتها المحلية، من اشعار في تمجيد قصص البطولة وذم الجبن والانهزام في المقابل. وللمصادفة المدهشة ان تلك الاشعار كانت تصور أجواء الملاحم في ذات المنطقة بالضبط.
من ذلك قولها مثلاً:
درب الدويم انحجَرْ
وبقى مخافة ووكر
حبسوهو نوبة اب تبَرْ
الطاري قولي انتقل
والناسي قولي رحرحْ هبَرْ
وبقى تلفون جاب الخبرْ
ومن ذلك قولها أيضاً:
غنّي وشكّريهو يا الصفرا يا الجبّينه
جاكي ود جوقو منطّطْ عينينا
أول تبادي اسعليهو من نعلينا
😂😂😂😂😂😂😂😂
والشاهد هو قولها " غنّي وشكريهو " وهي بيت القصيد. ثم تأمل وصف صفار بشرة الفتاة الحسناء ، بلون ثمرة الجبين الاصفر الفاقع الجميل، كصفار صاحبة ود الرضي " أما صفارو فاقع !! ".
وكذلك توقف مع الصورة الكاريكاتورية الساخرة والمضحكة التي رسمتها تلك الشاعرة سليطة اللسان لتصوير جبن " ود جوقو "، الذي جحظت عيناه فرقاً من القتال، وامعاناً في الهرب من ارض المعركة ، نسي نعليه، فهي تطلب من تلك الحسناء جبينية اللون ان تسأله بادئ ذي بدء عن نعليه وأين تركهما !.
وبالطبع فقد روت لنا الخالة حاجة فاطمة رحمها الله، بعض المقاطع التي نظمتها تلك الشاعرة الليمون، في مدح جدي العمدة فرح ود الفحل، وفي غيره من أعيان المنطقة وفرسانها ووجهائها، ربما خلال العقد الثاني من القرن العشرين. وانما الجأني محض الاستطراد وكون أن الشئ بالشئ يذكر ، الى التطرق الى هذه الاشياء، ولكنني قصدت في المقام الاول، الدندنة حول عبارة " غنّي وشكريه " السودانية التراثية، محاولةً مني في الاسهام في التنويه بتراث فقيدنا الراحل الاستاذ محمد الامين، عليه من الله الرحمة والغفران.