فـؤاد مطـر و”حلو.. مُـر” السياسة السُّودانية

 


 

 

(1)
كثيرة هي الأقلام العربية المعاصرة التي تناولت شئون السودان، منها أقلام لصحافيين اشتغلوا بالشأن الثقافي والفني ، وآخرين اشتغلوا بالشأن السياسي والاقتصادي. لعلّ ساحات الصحافة العربية، لم تخلُ كذلك من أقلام سودانية معروفة ، اشتغلت بقضايا العالم العربي والعالم الأفريقي، علاوة على انشغالها بقضايا بلادهم. ولأنّ للسّودان موقع فريد، فهو يتوسط منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ، وبمثلما التحق عضواً فاعلاً في جامعة الدول العربية، بعيد استقلاله عام 1956م، فإنّ السّودان هو أيضاً، أحد بلدان القارة الأفرو-عربية القليلة، التي شاركت في تأسيس منظمة الوحدة الأفريقية في عام 1963م، والتي صارت الآن "الاتحاد الأفريقي" . ثمّة ثنائية تتنافر وتتكامل في ذات الوقت، في الانتمائين اللّذين علقا بالسودان..
ولوسطية السودان وتفرّده بين العالمين العربي والأفريقي، تجد قلة من الصحافيين العرب من تخصّصوا في شئونه. من بين أميز هؤلاء ، الصحافي المخضرم الذي تعمّق في الشأن السوداني، الأستاذ فؤاد مطر.

(2)
تعود علاقة الأستاذ اللبناني فؤاد مطر بالسّودان والسودانيين، إلى مشاركته بالحضور شاهداً على قمَّة الخرطوم التاريخية، تلك التي أقرّت اللاءات الثلاث، بعد هزيمة العرب المرّة في يونيو عام 1967م. تعلق الرّجل بالسّودان، وأحبّ أهله وجذبته السياسة السودانية ، فصار هو من أوائل الصحافيين الذين تخصّصوا في تغطية ورصد وتوثيق الشأن السوداني ، من غير السودانيين.
تنبّه الأستاذ فؤاد مطر باكراً، إلى تلك الثنائية التي علقتْ ببلاد السودان ، إذ الجغرافيا جعلت نصفه الأعلى أقرب للشرق الأوسط، ونصفه الأدنى في قلب أفريقيا. فانطوى ذلك على تنافر وتكامل في ذات الوقت. لم تقف الجغرافيا عند ذلك، بل أعطتْ السّودان بسخاءٍ محمود نهرين عظيمين، هما نهر النيل الأبيض ونهرالنيل الأزرق. ولك أن تطالع كتابين ألفهما البريطاني "ألان مورهيد"، كتابا عن كل واحد من النهرين. مع تنافر لونيهما على الطبيعة، لكنهما يتكاملان ليشكلا نهر النيل الواحد، في مسيره شمالا إلى مصر، موهوباً إليها، فقال المؤرّخون: إنّ مصر هبة النيل. .

(3)
ثم لا يخفى عليك سخاء التاريخ، لتنظر فترى البلدان المستضعفة في القارة الأفريقية وسواها، يتقاسمها المستعمرون كلً واحد يستفرد ببلد واحد ، إلا السودان فإنه حُكم سياسيا من طرف دولتين هما بريطانيا ومصر، وبموجب اتفاقية هي اتفاقية الحكم الثنائي في عام 1899م، وقد وقّع عليها ممثل عن بريطانيا وممثل عن مصر. تلك كانت ثنائية تكامل فيها كيانان متنافران. . !
لم تغب تلك الثنائية الملتبسة، عن نظر الصحافي اللبناني الذي استهوته الشئون السودانية، فتوالت كتاباته عن السّودان، منذ سبعينات القرن الماضي، وإلى سنوات العقد الثاني في الألفية الميلادية الثانية. ومن ولعه بشئون السودان وعادات أهله ، قد اختار لتلك السلسلة من كتاباته، عنواناً سودانياً خالصاً، يعكس التنافر والتكامل معاً، فكانت سلسلة "الحُلوُّ..مُـر"، عنوانا أصدر الأستاذ فؤاد مطر تحته، عدداً من الإصدارات بلغت ستة كتب من الكتابات التوثيقية والتحليلية الرصينة، عن أحوال السودان وتقلباته السياسية، بين أنظمة مدنية وإخرى عسكرية، تناوبت حكم البلاد بين فترة وأخرى. .

(4)
ولربّما يسأل القاريء عن كنه هذا الشيء الذي جمع المذاقين الحلو والمُرّ في وقت واحد. . !
"الحلو..مر" هو مشروب من صنع البيت السوداني، واختصّت به موائد السودانيين في إفطار شهر الصّوم، منذ زمانٍ قديم. هو مشروب عصير تقليدي،لا تخلو منه مائدة رمضانية، يعتصر من تخمير مخفّف لحبوب الذرة مع مكوّنات فيها بهارات، بعضها حلوٌّ وبعضها مُرٌّ المذاق ، فجاءت التسمية : "حلو..مُر". إنه مشروبٌ معتصر من ثنائية متنافرة. .
إنّ آخر ما أصدر الأستاذ فؤاد مطر، هو كتابه الذي وثق لثورة السودانيين في ديسمبر من عام 2018 ، والتي أنهتْ ثلاثين عاماً من حكم نظام "الإنقاد "، الذي قاده الطاغية البشير، فحمل الكتاب عنواناً في شكل عبارة شرطية ذات دلالات : "الزعيم إذا استبد والشعب إذا انتفض" ، (بيروت، 2020)..
أصدر الأستاذ فؤاد مطر كتابه عن انتفاضة السودانيين في ديسمبر من عام 2018، وتطور أحوالها إلى عام 2020، مُتسلحا بكامل ملكاته ومقدراته الصحفية التقليدية الغنية، ومستصحباً هذه المرّة ، كونها انتفاضة هبّتْ في أجواء ثورة الإتصالات والتحوّل الرقمي الكاسح، الذي انتظم ظاهرة العولمة – بأقمارها الإصطناعية، وشبكاتها العنكبوتية- فاختزل زمان التاريخ وأمكنة الجغرافيا ومواسم ربيعها وشتاءاتها. .

(5)
قدم الأستاذ فؤاد - وعلى كاهله أكثر من ستين عاما من الخبرة الصحفية- كتابا توثيقيا وتحليلياً جامعاً، قارب عددْ صفحاته الخمسمائة من القطع الكبير. اللافت أن تضمنت صورة الغلاف ، وجهاً سودانياً، نصفه الأيمن مدني والنصف الآخر عسكري ، بما يشير إلى المكونين اللذين أدارا ثورة ديسمب السودانية ر ، ولكن بتكامل بين هاذين المكوّنين المتنافرين. هانحن أمام ثنائية التنافر مرّة أخرى. تذكّرك صيغة ذلك الحُكم الذي قام بعد نجاح الثورة، في شكل إئتلاف بين العسكر والمدنيين ، و تكاملاً في ثنائية متنافرة، بالقنطور الأسطوري، ذلك الذي تحكي عنه الأساطير الإغريقية : نصفه العلوي برأس إنسان ونصفه الأسفل بجسم حصان. لكأنّ الأستاذ مطر آثر أن يوحي بغلاف كتابه، عن استحالة التوافق بين المكوّنين المدني والعسكري اللذين إئتلفا على تنافرهما بعد ثورة السودانيين في ديسمبر 2018 ، أو كأنّه يقول إنّ مَن ينتظر تحقيق الإيجابي في ذلك الائتلاف، سينتظر طويلاً مع المنتظرين ظهور العنقاء والخلِّ الوفي . .

الخرطوم 3 مايو 2021

 

آراء