فـي وداع ســـفير: حكـايـة فـي الغـتـاتـة الدّبلوماسـيـة (2)

 


 

 

أقرب إلى القلب
(1)
حكاياتي في وعن تهران، تعود لوقائع عشتها إبان عملى نائبا لرئيس البعثة السودانية ، هناك قبل ما يزيد عن عشرين عاما. غير أن ما يحكى عن تهران في تلك السنوات ، أثار فضول بعض أصدقائي وممن يتابعون بعض كتاباتي، فأشفقوا على قلمي أن لا يصيبه ما قد أصاب من تناولوا أوضاع الثورة الإسلامية في إيران. ثمّة أقلام تتناول تلك الأوضاع بالنقد والهجوم ، وأنا هنا لا أدفع قلمي في ذلك الاتجاه. إنّي أحكي عن تجربة شخصية ، وعن تفاصيل تتصل بإقامتي دبلوماسياً في تهران بين 1991م و1994م، فلستُ معنياً بالسياسة الإيرانية الداخلية أو الخارجية ، إلا بالقدر غير المباشر الذي قد يمسّ علاقات النظام الإيراني بالنظام السوداني، في تلك الفترة التي أشـرت إليها. ولن تكون إشاراتي إلا في حدود العموميات ، مما لن يقع معها إضرارٌ يُذكر على أيٍّ من البلدين.

(2)
كنتُ قد أشرتُ في مقالٍ سابقٍ إلى "الغتاتة" الدبلوماسية ، وإن كان المصطلح عند السّودانيين هو من ضمن لغتهم العامية، لكني اجتهدت لأجد له أصلاً فصيحاً . جاء في ذلك المقال الفقرة التالية :
(في لسان العرب : غـتّ الضحكة يعني إخفاءها بالكف أو الثوب. ذلك يعني إفسادها ، فيكون الإسم من ذاك الفعل هو الغَتيْتُ، وتحوّر في لهجتنا السودانية إلى "الغـتاتة"، وتعني اختصاراً : إفسـاد الشيء خفـية ، وإسم الفعل الأفصح هو"الغتيْتُ" ، ولكنّا بسودانيتنا جعلناه إسماً لفاعل . . ).

(3)
خلال عملي في سفارة السودان في تهران، لم يفت علي أن ألاحظ برود العلاقة بين السفير السوداني ، وهو من العناصر الإسلاموية التي جاءت بهم سياسة التمكين التي نفذها نظام الإنقاذ، إثر انقلاب الجبهة الإسلامية على النظام الديمقراطي القائم في السودان ، وذلك في 30 يونيو 1989م . ليس لذلك السفير خبرة سابقة في العمل الدبلوماسي. هو أكاديمي يدرس علم الرياضيات في إحدى الجامعات السودانية.
لاحظت شيئا من الحساسية في تعامل رئيس السفارة السودانية مع مدير دائرة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في وزارة الخارجية الإيرانية. من الطبيعي أن يتولى مثل تلك الإدارة والتي تضم عددا معتبراً من الدول الإسلامية ، شيخا معمماً من المقربين لقيادة الدولة.. لا نستبعد وجود رصد لمجمل نشاطات سفراء البلدان الإسلامية المعتمدين في الجمهورية الإيرانية، في ضوء الحساسية المعروفة بين الشيعة والسنة. في تهران لا يُرخّص لمسجد لاتباع المذهب السنّي، إيرانيين أو أجانب، ربما بحجة أن هنالك مساجد متاحة في تهران، وإن كانت سـفارات الدول التي تتبع للمذهب السنّي، تعتمد لصلاة الجمعة مسجداً مؤقتا في مدرسة باكستانية في المدينة. أتذكر أن ذلك السفير استقدم جماعة من المادحين السودانيين ، وقدموا أذكارهم في دار السفير السوداني ، وعددهم فوق الستين من المادحين وأتباعهم. من الطبيعي أن لا تفوت مثل تلك الممارسات على الأمن الإيراني.
باختصار ، هنالك ما تم رصده عن السفير السوداني في تهران، وأثار بعض التوجس لدى الأمن الإيراني . والأمن الايراني وثيق الصلة بوزارة الخارجية ، إن لم يكونا مؤسّسة واحدة. من المتوجّسين تجاه سفير السودان، الشيخ حجة الإسلام "خ. . . ." . إضافة إلى ما ما قد يكون رصدته إدارته من أفكار وآراء لم يخفها السفير السوداني عن آذانهم، وملاحظات على مجمل العلاقات بين بلدينا، قد يكون سرّبها لبعضُ خاصته أو في بعض جولاته الخاصة، ولقاءاته مع رصفائه السفراء، وبلغ صداها مسمع الشيخ حجة الإسلام مدير دائرة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في تلك الفنرة.

(4)
يمازحني أصدقائي في السلكِ الدبلوماسيّ في تهران في تلكم السنوات ، خاصة من السفارات العربية والأفربقية، إذ يروننا بعيونهم ، أعلم الناس بأحوال النظام القائم في تهران، قياساً على ما توهّموه عن السودان، وعمّا روّج إعلام "يونس محمود" عن نظامه، ثم أشاعه الغرب وشاع في الدوائر الأمريكية والأوروبية، بأن "حلف الإسلام الأخضر" الذي جمع بين إيران والسودان، باتَ من المُهدّدات التي تثير ريباً كثيرة ، واحترازات مطلوبة في كامل المنطقة. إنّ المراقب الحصيفومن يرى الأمور على حقيقتها ، يرى أن جلّ علاقات البلدين الضالعين في تلوين الدّين أخضرا، تدور كلاماً يُستعاد في جلسات اللجان المشتركة، ولا يترجم فعلاً ملموسا. ما كنّا برغم ذلك في حاجة لتبديد مثل تلك الشائعات ونفيها، في أوساط السلك الدبلوماسي الغارق في شكوكه، بل آثرنا أن نترك الحبال على غواربها، تجاهلاً وإهمالا . .

(5)
وقفتُ على أمرٍ أثار عُجبي قبل أن يثير عجب الدبلوماسيين الغرباء معي في تهران. ذلك أني عكفتُ، وسفير السودان قد انتهى أجل مهمته، على ترتيب مقابلات مراسمية ليودّع السفير- وفق الأعراف- المسئولين في منطقة اعتماده ، ثمّ في آخر الأيام وبعدها يقوم بوداع رئيس الجمهورية، أخطرتُ وزارة الخارجية كتابة ومشافهة، أن تُهيّىء لذلك السفير قاعة كبار الزوار في مطار "مهراباد"، ليلتقي فيها بمودعيه من سفراء البلدان العربية والأفريقية والإسلامية ، كما جرى العرف. لسـوء حظ ذلك السفير، أنّ موعد مغادرة طائرته مطار "مهراباد" كان قبل الفجر بساعتين، وقد استجاب عددٌ من السفراء والقائمين بالأعمال، وبينهم القائم بالأعمال المصري، إذ لا تحتفظ مصر بسفيْر لها في تهران، بعد أن صار شارع رئيسي في تهران يحمل إسم الاسىلامبولي قاتل السادات، بل اكتفت بقائم بالأعمال فحسب.

(6)
تداعَى جمعٌ من السفراء العرب والأفارقة إلى المطار، ولكن ليفاجأوا- ونحن معهم- بأنّ قاعة كبار الزوّار ظلت مغلقة في وجوهنا ووجوههم. سعيتُ - درءاً للحرج- أن استعين بمدير مراسم الدولة في تلك الساعة المبكرة من الفجر، ليساعد بإصدار توجيهاته لفتح أبواب تلك القاعة. في الحقيقة كنت أتوقع حضورمدير عام المراسم ممثلا لوزارة الخارجية الإيرانية ، ومشاركاً بشخصه في وداع سفيرنا وهو يختتم مهمته في تهران، ويغادرها بصورة نهائية. ذلك تقليد بروتوكولي راسخ تتبعه كل الدول عند وداع أي سفير مغادر نهائياً. لم تفلح جهودي وعدتُ بحسرتي ألقي اللوم على المسئولين الايرانيين، وكان لابدّ من أن نعتذر للسفراء والدبلوماسيين الأجانب الذين جاءوا ليودّعوا سفير السودان، عن ذلك الموقف المحرج الذي تسببتْ فيه إدارة مراسم وزارة الخارجية . ما خطر ببالي أن الغتاتة" في الدبلوماسية يمكن أن تبلغ ذلك الحد من اللؤم . . !

(7)
تناهت إلى مسمعي همهمة القائم بالأعمال المصري لدبلوماسيٍّ كان بجواره:
- ما بالَ هؤلاء القوم يودّعون سفير بلادٍ صديقة لهم على هذا النحو المُحرج. . هل نفضوا أيديهم عن التحالف معها. . ؟
تمنيتُ لحظتها أن لو أسمعني أو استفسرني مباشرة ، ذلك القول الذي أشمتهُ فينا، فأذكّره ومن معه ، أن يصحّحوا معلوماتهم ويتحققوا من تفاصيل العلاقات التي تربط بين بلادي وإيران، وأن ينقلوها سِراراً إلى كبارهم وراء المحيطات، الذين يشيعون - من خطلِ التحليل - الكثير عن طبيعة العلاقات السودانية الإيرانية، وهو ما ليسَ فيها. الذي كنت قد التمسته بطرقٍ مستخفية، أنّ رجالاً بعينهم ، وربّما فيهم رئيس دايرة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الشيخ "حجّة الإسلام الفلاني ، لا يكنون تقديراً شخصياً للسفير المغادر. لا أنفي أنّي قد سمعتُ لغواً من هنا وهناك- ولم أصدّقه أول أمري- أنّ الرّجل أفصح لبعض خلصائه رأياً جرى نقله ولم يرق للشيخ المذكور، وصنَّفهُ تبعاً لذلك، ومن موقعه الشخصي، "شخصاً غير مرغوب فيه"، ولكن ما تجرّأ ذلك الشيخ وعكس انطباعاته للكبار في قيادة البلاد فبصدر إعلان سفير السودان رسميا شخصاً غير مرغوب فيه. .!. . الذي عضّد ريَبي أنّ السفير المغادر بدا أكثر تسامحاً لما وقع من حرج ، بل شدّد عليّ وأنا نائبه وسأتولى إدارة السفارة بالانابة ، أن لا أسعى لتصعيد الأمر، وأن لا داعي لرفع الأمر لعلم وزارة خارجية السودان في الخرطوم عن أسلوب معاملة وزارة الخارجية الايرانية لسفير السودان المغادر نهائيا. .
ذلك ما لم ألتزم به – وسوء معاملة ذلك السفير غلى ذلك النحو، ليست إساءة شخصية له، بل لها مساس بالدولة . أما قد أصبحت مسئولاً عن سفارة بلاديفي تهران، فأبلغت وزارتي من موقع غيرتي على الهيبة والصورة والسيادة ، فاستدعى وزير الخارجية سفير تهران في الخرطوم وأبلغه احتجاجاً صريحا لكنه كان مهذبا. .

(8)
لربّما من نافلة القول وأنا أختتم مقالي هنا، أن أشدّد على أنّ ما كتبت ليس لأمر شخصي، ولا لضغينة تحملها جوانحي لمن تبوّأ منصب السفير تعيينا ، من باب السياسة لا من مداخل المهنة الراتبة. ولقد قصدتُ من كلّ ذلك للتذكير، إنّ تعيين سـفراء من أبواب السياسة، هو تقليدٌ راسخ لا تثريب علٌيه، وتمارسه أكثر الدول ومنها الولايات المتحدة وغيرها من الدول الكبرى، وباشتراطات محددة. على أن من يعيّن على هذا النحو، يتوجّب أن ينال قدراً من الإلمام بفنون المهنة الدبلوماسية وخباياها، وقد صارت علماً يدرّس في المعاهد والجامعات، وذلك قبل ابتعاث سـفير مثل بطل قصتنا هنا، وتكليفه بمهمة قد تكلفه عُسـراً قد لا يكون بباله، فيقع في فخٍ من فخاخ الغتاتة الدبلوماسية. .!ّ

الخرطوم - 15/10/2022

jamalim@yahoo.com

 

آراء