فك الإشتباك مع الفنان علي ابراهيم اللحو
1
أنا يا سادتي لم أنتج صوت مومار حنون شارب من غيم هطول صب ذات يوم خريفي منعش على بوادي البطانة في اغنية "تواه أنا":
تواه أنا وكل الدروب جربتها
والسنين العشتها
لا وصلت ليك
لا الرجعة تاني عرفتها
لست أنا في تلك الأغنية من أثبتُّ أن صوته هو المزمار وان خفقان قلبه هو إرزام الطبل ومع ذلك لم يصل الى مرافي الحبيبة ولم يتبين الدرب ليعود أدراجه فكان في الحالتين من الخاسرين. صدقوني يا سادتي لم أكن الذي في ريعان شبابي من شغلت غرف قلبه الداخلية "السمحة نوارة فريقنا" فكتب نوتة ألحانه من مداد ثغرها الوضاح وعسلها المصفى "يا العسل يا النشفت ريقنا" أؤكد لكم أنني لست من تسلق أسوار تلك الحبيبة المنيعة لأضبط متلبسا بجرم حيها فنافحت عن نفسي مدافعا:
السمحة يا دهب الخزاين
بتشبهي الموز في الجناين
تهموني بيك وأنا قالوا خاين
قصوا دربي ولقوه باين
وأنا ما سرقت أنا جيت أعاين
2
إنني لم أركب صهوة "فلق الصباح" ...رائعة خليل فرح أمتطيها كنشيد عسكري منغوم مع بادي محمد الطيب وأوركسترا في كامل أناقتها ، ولم أكن أنا الذي " تجادعت" معه عناقيد تلك الأغنية التي كان يتخير من لحمها أطيبه ويردده معي بصرخاته الانجذابية تلك . علي كل حال كانت تلك التدخلات من بادي لحظات واجبة الأداء فهي لحظات انفعال واكتواء واستعار وتفاعل وتوهج . لم أكن في ذلك النشيد المنغوم من سعى بطبل صوفي مموسف بين حرائر العالم متخيرا عازة من أجملهن فأصلها من الجنان " من جنان رضوان أصلك". كان تدخل بادي المؤثر محدودا وشعره الأجعد يتحرك مع ارزام الطبل يمنة ويسرة ومع وأنين الكمنجات فهو مثلا يتدخل في :
إنتَ روضَهْ وليَك زَهَرهْ **وَلّهْ كوكبْ وليكْ بُهْرهْ
ضَمخَوكْ للجبير *** زعفَرانْ وعبيرْ
إنْتَ نَار في بُهارْ
صَبَغْ الخدَين حُمْرَه ** بعد ساعة بَشُوفْ صُفْرَهْ
الإصْفِرارْ دَهْ كتير ** أخجلوَك يا أميْر
وَلَّه نُمتَ نِهارْ
لست يا صحابي من تغنى ب"غصن الرياض المايد" رائعة مبدعنا الراحل علي المساح ، وما شدوت يوما بالناعسات عيونن نور جبينن هلا ، أو ضمخت بها عروق الناس كماء نمير رششت به مراقد أصحابها وأحبابها الرائعين كالعبادي وابو صلاح وسرور وكرومة من أم در إلى كرن ، ولم أكن أنا الذي تمايلت وجدا في حضرة الشيخ البرعي حين شدوت ب"إبلي المشرفات ووسمهن فاخر ...ينفعني درهن في اليوم الآخر" ونلت بركات الشيخ وهمهماته الطرية ولمسة يده المباركة.
3
لست أنا بالذي زامل الفريق البشير في الخدمة العسكرية ولم تقدني خطاى ذات يوم إلى كل شبر في الوطن ناثرا تباريح المزامير وحنين الكمنجات في أوديته وسهوله. لست أنا بمن تغني بمناحة عمدة كلي مرسيا بذلك قيم فضل واحسان هي من شيم الكرام في بلادي:
أ ب رسّوة اب هرش الضارب الوكرة
تمساح دار كلي البمرق مع الهجعة
أبو شما اللزوم كم درج العاطلّة
هو الأسد المربعّن دونو الرِجال قاصرة
يا حليل اب جديري الفارس المندور
يحرن في المحاصة وكت الحرابة تدور
في اليوم المشوم تبقى الحِجازة صقور
وبهو يجبر الصف إن بقّت مكسور
إن الذي فعل كل ذلك يا صحابي هو الفنان الكبير علي ابراهيم "اللحو" لا أنا ، مع ذلك يصر الكثير من الناس بأنني الفنان علي ابراهيم نفسه وأنني الذي ما تداوى من عذابات الحب أو شبع من حنين القماري . إنهم يصرون على أنني صاحب الرميات البديعة والصوت الرخيم المشجي الذي يستنطق الصمت العضيا!! ولهذا الموضوع حكايات كثيرة.
4
ظللت عبر السنوات في رحلاتي الخاطفة إلى الوطن أواجه بتحايا حارة من المارة ، يحيوني من بعيد في سيارتي ويخفَّون سريعا للسلام علي في مواقف السيارات وبيوت الأفراح والأتراح وبالمقالدة الحارة في الحوانيت والطرقات. كثيرا ما أسرع الكثيرون إلى إحضار قارورة مياه أو عصير بارد وأنا في مقامي الرفيع داخل سيارتي يحيوني ب"يا أستاذ علي ". كثيرون كانوا يذكروني بحفلات لا تنسى أقمتها لهم أو يعيدون إلى ذاكرتي "رميات " تاريخية لم أعد أؤديها طالبين ضخ الحياة في عروقها. في سوق الأسماك بالموردة جاء رجل في يوم من الايام يذكرني بصديق مشترك بيني وبينه رحل عن دنيانا ويترحم عليه ويذكرني بأداء رائع في حضرته. معجب آخر استوقفني في السوق ليجتر معي ذكريات عذبة في العسكرية ويشكو لي صعوباته المادية مع اقتراب زواج ابنه طالبا مني المشاركة المجانية ولو بفاصل. قبل شهرين فقط وأمام إحدى المستشفيات أستوقفني رجل في ستينياته ليسلم على كسابقيه ويحدثني عن تطور منتوجه الشعري طالبا مني بركة الأداء وطلبت منه اسماعي شيئا مما عنده ويعلم الله مدى طربي بجمال ما أنشد. صدقوني لقد أصبحت ملاحقتي في الشوارع ب"يا أستاذ علي" ظاهرة كنت أطرب لها كثيرا لمعرفتي بل وصداقتي رغم طول المدة للرائع اللحو لدرجة أنني كدت أن أصدق او "أقول يمكن أنا الماجيت" على حد تعبير الراحل خليل اسماعيل.
لقد كدت أن أصدق بأنني ربما أكون علي اللحو بفنه وتباريحه وثرائه الفني واللحو هو أنا بلفسي وغربتي وعذاباتي وهمي وغمي الذي فجر القلب والعقل والذاكرة.
ربما كان هناك بعض الشبه بيني وبين فناننا القدير في عشق المزامير والعيون النجل وظباء بلادي"عيني باردة"، ومحبة عازة وعينيها النيليتين وتوقي الدائم للعيش تحت ظلال أسورتها الجميلة وضفائرها الصديقة للنسم العابر .
مع التحية للفنان الكبير الصديق الراقي على ابراهيم "اللحو" وللاحبة ممن أحسنوا الظن فظنوا أنني فناننا الرائع!!!
abdelrmohd@hotmail.com