"مصر وطن شقي وتعس إلى آخر درجات التعاسة، مصر التي يبلغ عدد سكانها ثمانية ملايين نسمة تريد أن تأتيها الحرية وهي نائمة فتوقظها من نومها... دعني بالله من هذه الأمة التي بلاني الله أن أكون واحداً منها ." هذا قول للزعيم المصري مصطفى كامل المتوفى في العام 1908 جاد به إلى ــ فيما يجود ــ البروفيسور فيصل عبد الرحمن علي طه. الأستاذ العارف بأسرار القانون الشغوف ببواطن التاريخ أتبع قول الزعيم المصري بتساؤل: ألا ينطبق علينا هذا؟ ربما ليست دراسة الحقوق وحدها قاسم مشترك بين مصطفى كامل وأستاذنا فيصل. كلاهما تضرب جذورهما في تربة ريفية وطنية ثرية. من مأثور مؤسس الحزب الوطني بمصر قوله "لو لم أكن مصرياً لوددت أن أكون مصرياً" . هو صاحب المقولة المحورة على لسان أهل الإنقاذ "الأمة التي لا تأكل مما تزرع وتلبس مما تصنع أمة محكوم عليها بالفناء". كما كلنا يراودنا شيء من الإحساس ببلاء مصطفى كامل يتمكن منا شعور بالإنتماء. مع ذلك كأنما ننتظر من يوقظنا على حال جديد تتبدى فيه جلية الحرية، العدالة والكرامة. في سباتنا العميق راود بعض ــ ربما عديد ــ منا حلم بخلاص على يدي الفريق صلاح عبدالله إثر أستئنافه رئاسة جهاز الأمن.عودة غوش الإستثنائية لم تربك الإنقاذيين وحدهم بل كذلك طيف المعارضة. مما زاد إيقاع الإرتباك تبني الفريق العائد مواقف عدة ليست مألوفة. هي خطوات تثير الجدل. بعض يُثقل بها رهان خيار تحول مرتجى.عدد يرى فيها محاولات تجمل وطني ذاتي من قبل رجل أمن قابض. آخرون يحذرون مغبة مناورة ماكرة غاياتها أهداف سياسة محدودة ليست خفية. الخيارات مفتوحة أمام الرجل لكنما عليه إستيعاب دروس الماضي من أجل مستقبل أفضل. ربما من غير المنطقي التشكيك في ذكاء غوش أوالطعن في وطنيته. في الوقت نفسه يبدو إنجاز تحول على يدي رئيس جهاز الأمن ضربأ أقرب إلى الخيال منه إلى الواقع مالم يحدث إنقلابا في المنظومة الحاكمة. المفارقة المفصلية بين الخيال والوقع تتمثل في مطالبة غوش المعارضة بالتغيير بدلاً عن إحداث تبديل في النظام. من أجل ذلك فتح غوش سجن كوبر أمام أهل المعتقلين أمسية إطلاق سراح البعض. تلك كانت مسرحية فجة لم تفرح نهايتها أياً من النظام أو المعارضة. على النقيض ممارسة الفرز المستهدف وسط المعتقلين أججت غضب المعارضين؛ الخارجين من السجن كما الباقين خلف أسواره. أدنى من ذلك رجاءً إملاء شروط بتغيير سلوك أحزاب المعارضة الراغبة في إطلاق منسوبيها. أهل الإنقاذ لم يعجبهم الإحتشاد المعارض بأناشيد الفرح وهتافات الوعيد ضد النظام داخل أكبر معتقل تقليدي في البلاد ذلك مشهد يحدث ــ حدث ــ عند إنهيار الأنظمة الإستبدادية. إذاً خاسرة هي محاولة التجمل الأكثر جرأة وزخماً. من هناك كان على غوش تبني خيارات مغايرة. من الصعب الجزم بمدى ذهاب لقائه القادة الشيوعيين قبل إطلاقهم في الإتجاه الصحيح. اللقاء يواصل عملية الفرز داخل معسكر المعارضة. كما إعترف الفريق المحبس لا يشكل الإطار المناسب للحوار .السؤال المحوري ذو جناحين؛ أحدهما هل إقتنع غوش بحتمية فتح أقنية الحوارمع المعارضة؟ الآخر هل في وسع غوش مواصلة الحوار مع المعارضة في الهواء الطلق؟ على الفريق صلاح إدراك ما من رجل فرد يستطيع بناء طريق للتغيير داخل دغل الإنقاذ الراهن. الحوار رقصة جماعية. هناك دوما فرصة للمساهمة في إحداث تحول حينما توجد قناعات حقيقية بحتمية التحول. وفق رؤية أحد الفلاسفة الهنود "دونما تغيير نفسك لن تستطيع تغيير العالم". أبرز ملمح يمكن إعتبره تحولاً في نهج الفريق صلاح يتجسد في قناعة ذاتية بكارثية تبني المعالجة الأمنية في شأن السياسة.،الإقتصاد والقضايا الإجتماعية على الصعيد الوطني.
الوعد بمحاورة المعارضة يكتسب إحتراماً
لعل غوش يستلهم قول الشاعر الألماني غوته "العالم يتحرك إلى الأمام بفضل الذين يعارضون". المعارضون بصيرة وطنية ثانية. حتماً تكشف لرئيس جهاز الأمن إثر عودته موت الدولة. ذلك مصير لم تفرزه فقط عمليات التمكين، ترويج الحزب والزعيم الكاذبة محل مؤسسات الدولة. بل أكثر تأثيراً في ذلك المصيرتغييب النقد. تضييق مساحة النقد يفضي إلى موت الحرية، فغياب النقد ثم إضمحلال الدولة.ِ في متون التاريخ الكثير من العبر . الحالة السودانية ليست إستثناءً. من أفضل الدروس المستفادة من تجربة الإنقاذ البينة أمام الجميع؛ الإستبداد يبدد مساحات التساكن المجتمعي كما يبدد طاقات التسامح. المعارضة لا تملك ما تقدم إلى غوش مقابل دخول حلبة الرقص سوى التنازل عن سيقانها! كل الجوقة بين يدي النظام.
إذا لم يستهدف الفريق صلاح إحداث تغيير في بنى النظام أو نهجه فهو يريد حتما ترويض المعارضة أو – على الأقل – تغيير أجندتها. عوضاً عن وقت طويل مهدر في مناطحة متخيلة من أجل إقتلاع النظام يسعى رئيس جهاز الأمن لإقناع المعارضة بالعمل من داخل أسوار النظام. لذلك يحاول الحزب الحاكم تصعيد مسألة الدستور الدائم مرفقة بقضية الإنتخابات الرئاسية إلى صدر الأجندة الوطنية. كلاهما يفتحان أفقاً للمساومة غير المتوازنة. من يمن طالع غوش إفتقار المعارضة إلى أجندة موحدة أومواقف متحدة. الإحباط السمة الجاسمة على المشهد المعارض. بالإضافة إلى التشظي المتمكن من هياكلها التقليدية تفتقر القيادات إلى الخطاب الجاذب كما الرؤى الملهمة. ما كان لقيادة معارضة صلبة قبول مبدأ الحوار مع السجان داخل المعتقل.