فهم طبيعة حرب السودان مدخل لإيقافها

 


 

 

أشرنا في مقالنا السابق إلى أن أي منبر، دولي أو إقليمي أو سوداني، يسعى لوقف حرب السودان، يجب أن يستند إلى إعلان مبادئ يشكل المدخل الأساس والأرضية الضرورية لعملية التفاوض حول وقف الحرب وإنهائها، شريطة أن توافق عليه كل الأطراف المتحاربة، وأن تجمع عليه القوى المدنية والسياسية السودانية، وهي أصلا المناط بها ابتدار مسودته. ولكنا استدركنا في ذات المقال قائلين إن إعلان المبادئ وحده ليس كافيا لوقف الاقتتال، لكنه يشكل معيارا أو إطارا يحكم سقف المواقف ودرجة التنازلات الممكنة في العملية التفاوضية، بمعنى يجب ألا تصل الأمور إلى درجة التصادم بين محتوى إعلان المبادئ ومحتوى المواقف المطروحة على طاولة العملية التفاوضية وما سيتم الاتفاق حوله، وتحقيق الهدف الرئيسي في وقف الحرب والانتقال المدني الديمقراطي. وبما أن إعلان المبادئ وحده ليس كافيا لوقف الحرب، فلابد أن تتبعه الرؤية التي تشكل محتوى وتفاصيل العملية التفاوضية التي ستُطروح أجندتها في المنبر، للسير بها في اتجاه وقف الحرب ووضع أسس عدم تجددها أو إعادة إنتاج الأزمة في البلاد.
أما الجهة المناط بها صياغة هذه الرؤية والتوافق على محتواها، فهي أيضا القوى المدنية والسياسية السودانية. وجوهر هذه الرؤية، حسب وجهة نظرنا، هو مجموع الإجابات على ما أسميناه بالأسئلة الصعبة المتعلقة بحرب السودان، والتي طرحناها في مقالنا السابق، وابتداء من قال اليوم سنناقش الخيارات والإجابات الممكنة على هذه الأسئلة.
الإدراك والفهم الصحيحان لجوهر وطبيعة هذه الحرب يمثلان معا المدخل الرئيسي لكيفية وقفها وإنهائها. وهو جوهر نتاج تفاعل مجموعة من العوامل المجتمعة والمتداخلة، فيها الآني المستحدث وفيها القديم المتجدد الذي تمتد جذوره عميقا، وفيها البعد الداخلي المحلي والبعد الإقليمي والدولي. لذلك، أي عامل من العوامل التالية سيكون صحيحا في تفسير جوهر وطبيعة هذه الحرب وأسبابها، ولكنه لن يكون العامل الوحيد وسيظل تفسيرا جزئيا:
عامل الصراع الداخلي حول السلطة بين مراكز القوى في الجيش والدعم السريع مقرونا أو مستقويا بمحاولات النظام القديم لاستعادة السيطرة على السلطة التي اقتلعتها ثورة الشعب، بعد أن تجهز على الثورة وتودعها متحف التاريخ.

الخلاف بين قيادتي القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع حول الترتيبات العسكرية ومواقيت دمج القوات الثانية في الأولى، زاد من توتر العلاقة بين الطرفين

الخلاف بين قيادتي القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع حول الترتيبات العسكرية ومواقيت دمج القوات الثانية في الأولى، زاد من توتر العلاقة بين الطرفين، لكن لا يمكن اختزال سبب اندلاع القتال فيه. فالمشتركات بين القيادتين كثيرة منها الرحم الواحد، والتاريخ المشترك في دارفور وفي حرب اليمن وفي 11 و13 أبريل/نيسان 2019 وفي مذبحة فض الاعتصام وفي الإنقلاب على الفترة الانتقالية، كما كانا يتشاركان ذات العلاقة الخاصة مع حلفاء خارجيين في الجزيرة العربية وفي شرق البحر الأبيض المتوسط.
هذه المشتركات، وغيرها كثر، كان من الممكن أن تعالج الخلاف حول الترتيبات العسكرية بكل بسهولة، خاصة أن مسألة دمج القوات أصلا ليست بذلك التعقيد العصي على الحل.
نكرر قولنا بأن الحرب هي شكل تجل للأزمة الوطنية العامة التي ظلت ممسكة بتلابيب الوطن منذ فجر استقلاله، والتي طبعت بميسمها كل أوجه الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والروحية في البلاد. وهي أزمة تعود جذورها إلى فشل النخب السودانية في إنجاز المهام التأسيسية لبناء دولة ما بعد الاستقلال الوطنية، فظلت هذه المهام مؤجلة ومتراكمة، ثم تفاقمت بالمعالجات القاصرة والخاطئة على أيدي الأنظمة المدنية والعسكرية التي تعاقبت على الحكم منذ الاستقلال، والتي لم تركز إلا على كيفية بقائها واستمرارها في السلطة. وظلت هذه الأزمة تتجلى وتعبر عن نفسها في حالة الاضطراب وعدم الاستقرار في البلد، وفي تعاقب الانقلابات العسكرية والانتفاضات الشعبية، وفي النزاعات العرقية والحروب الأهلية وانفصال جنوب السودان، ثم جاءت هذه الحرب الأخيرة كشكل تجل آخر لها ولكن وفق خصائص جديدة عنوانها تهجير السكان وتدمير البنى التحتية وتفتيت وحدة البلاد وتقسيمها.
عومل إقليمية ودولية ترتبط بالصراع الدولي حول الأمن الغذائي والأراضي الزراعية والسيطرة على الموانئ والممرات المائية، كما ترتبط بموقع السودان الجيوسياسي والذي جعله في مرمى نزاعات البلدان المجاورة، وصراعات القرن الأفريقي ومنطقة الساحل، وكذلك في مرمى تداعيات الصراع العربي الإسرائيلي وسعي إسرائيل للتمدد إفريقيا. كما أن الموقع الجيوسياسي، يقحم السودان في التنافس الحاد بين أمريكا والغرب من جانب وروسيا والصين من الجانب الآخر حول منابع البترول في الجزيرة العربية، وحول منطقة البحيرات في أفريقيا، وحول المعادن والمنابع الجديدة للطاقة وطرق نقلها، وحول السيطرة على السوق العالمي وممرات التجارة الدولية. ومعروف أن الولايات المتحدة الأمريكية تتعامل مع الصين كمهدد استراتيجي لمصالحها، وتسعى لعرقلة المشروع الصيني الضخم المعروف بمشروع الحزام وطريق الحرير، والذي يمر بالسودان وأجزاء من القارة الأفريقية.
ومن زاوية أخرى فإن حرب السودان ليست ببعيدة عن المواجهة الحادة ضد تيارات الإسلام السياسي في المنطقة. وإذا ربطنا كل ذلك بتطاول أمد الحرب وانتشارها، خاصة في مناطق الزراعة والموارد والإنتاج، وبتقاصر الجهود الإقليمية والدولية عن تنفيذ الآليات الممكنة لمنع هذا التطاول والانتشار، ولو فقط بمنع تدفق الأسلحة المتواصل وبكثافة إلى داخل البلاد، يجوز لنا القول، وكررنا ذلك كثيرا، بأنها أيضا حرب بالوكالة، وضد السيادة السودانية، كما تسعى داوئر بعينها لاستغلال هشاشة الدولة لضربها وتقسيمها. آخذين هذه العوامل في الاعتبار، فإن الرؤية المشار إليها لوقف الحرب، يجب أن تتناول المصالح الإقليمية والدولية في السودان، وارتباطات هذه المصالح بالصراع في البلاد، ووضع حلول عملية لمعالجتها، وكيف يمكن للقوى المدنية والسياسية السودانية التعامل مع الشركاء الدوليين الداعمين لوقف الحرب دون تفريط في السيادة الوطنية، وذلك وفق رؤية موحدة ومتوافق عليها تشكل سدا أمام سعي التدخلات الخارجية المحموم للاستفادة من الحرب في تنفيذ مخططاتها الإستراتيجية، وفي نهب موارد البلاد.

نقلا عن القدس العربي

 

آراء