فيليب بنايوتي مماكس

 


 

 

 

 

abdallashiglini@hotmail.com

 

 (1)

 

     صديق من عمر الطفولة البهي ، يشقُ طريقه من بين شجيرات العُمر وأشواكها . من كهف الذاكرة تنفتح الدُنيا . تأتي الريح فيها ممطرة حين تكون جوف السماء رفيقةٌ بالأرض ، وأن رياحين أصدقاء الطفولة أكبر من رحمات السماء رغم غيثها المِدرار .

 

   " فيليب بنيوتي " من أم درمان . حي الملازمين دون غيره من الأحياء كان بيت أسرته . قرب منطقة مصنع القرش . هو من أسرة متوسطة الحال . كثيراً ما زرته في البيت أيام طفولتنا الأولى عندما كنا جميعاً أتراباً في سن الحادية عشر. كنتُ أقف عند مدخل البيت قبل أن تتلقفني الأيدي والقلوب بالرفق الحنين  . أدخل البيت وأصبح فرداً من الأسرة بكرمها المضياف إذ  أني ابن من أبنائها ما دُمت صديقاً لـ " فيليب"  . والدته تُذكِّرني عمتي  "عائشة "، إلا أن لونها أكثر بياضاً و بشرتها مُشربة بحُمرة . لم أزل أذكر نظراتها والحنين يطفر منها يسقي الكائنات ،فكيف يفعل بنا .  أن ابنها له أصدقاء في مثل سنه وتلاميذ  في مدرسة "أم درمان الأهلية الشمالية الوسطى " و من أهل السودان المسلمين .

    هادئ هذا الصديق الصغير، كما كانت تصفني أيام الطفولة تلك أو كما تقول نظراتها عني . كنتُ أقف عند الباب خجلاً  أنتظر قليلاً قبل أن أطرقه . وتفتح الباب تلك السيدة . عليها جلال قرص وجه ملوكي التقاطيع . تهابها وتُحب أن تراها دوماً كالصور الفنية التي ترسم مريم العذراء وتوغل في تفاصيل ملامحها المُقدسة  . سيدة الطُهر كانت .تترك في نفسِك أن أمومة مُترفة بالحنين  تحرُسُك. تغرز محبتها كإبرة في جسد الذاكرة اللدن فينتفض الجسد كله من وقع هذا النـيزك على صحارى النفس براحة قلما يجود بها الزمان .

   أمومة حانية تغزوكَ بالنظرات. البسمات  قلادة من لؤلؤ أبيض . هو العصير المؤتلِف بنكهة لا تجدها إلا في بيئة تبدو أجنبية  الملمح والهوى ، فأنت تدلُف للبيت ، بل لوطنٍ جديد ودُنيا تُطْرِب . المدخل والأشجار والعصافير تضج ألحانها وأنت مُقبلٌ على صحن الدار . تخفت زغاريد الطيور مع وقع خطواتكَ وأنت تسير إلى صالة الضيافة  . فعصير الذين ركبوا البحر في الزمان القديم ، جاءت بهم خيارات الرزق و الترحال لبلادنا ، وأصبحوا لحمة من جسد هذا الوطن .كانت في حينها جاذبة للعيش وللتجارة وللتراضي بين الأجناس والأعراق  والديانات  .

   أجلس أقرب المجالس ويأتيني شراب العصير بنكهة لها طعم في الزمان والمكان . شراب له وقع غريب في نفس الطفولة وشهواتها التي لا تنتهي .

     لم أعرف لمِ تسللت بلورات توشك أن تُغسل العيون دمعاً مِدراراً  وأنا أتذكر تلك الصفحات المورقة الجميلة في الزمان . للطفولة مجساتٌ تتلمس بها أنت كيف تكون الحياة  حين تبدأ وتنتشر و تضرم نيرانها الدافئة في الشتاء فتحس الدفء ،  أو تُثلـج الصدور بنسمات باردة في الحرّ فتعرف أنت الأمان في الصُحبة  . تتكور الجزيئات بأجمل ما حبستني فيه الذاكرة من قديم الطفولة  وبهيّ الطّلع من حطبها  زكي الرائحة ، حين تُلهبه المجامر .

    تذكرتُك الآن سيدي " فيليب " أيها الرفيق سَمح السيرة من بطن ذاكرة الطفولة حين حفرت فيها و وجدتُك كنزي  حين أنرت مصباحي الذي أرى به أن الكون مليء بعوالم أخرى كانت أجمل بكل المقاييس .  نقتسم معها الحياة الإنسانية في أنضر  صورها وأتمّ جلالها . بلون ثقافي وعرقي وديني مُختلف . إن دققت الملاحظة تسمع  ترانيم اللغة الأخرى تلون العامية التي بها يتحدث     " فيليب " فهو يتقن العامية دون شك . تراه وتتعرف عليه لتُحبه فليس لك خيار آخر ، إذ إن النهر مصيره إلى المصب  . لم نكن نعرف التوجس من الآخر . لقد تأسست أم درمان التي عشناها بكل أطيافها الذين نعيش بينهم . يُفرحنا  أعياد الآخرين وتُطربنا أفراحهم ، ونحزن لأحزانهم . نشترك معهم كل ضروب الحياة . صورتهم كصورنا ، بلور صافٍ من إنسانية نقية. لون بشرتهم أكثر بياضاً ، شربته الشمس عندنا بحُمرة  ، ولم نكُن نلحظ رفعة أو تعالٍ. لغة أخرى سمعتها وهو يخاطب والدته ، ولولا الضرورة و حُكم الاعتياد لما سمعتها.

      تآنستُ معك وأنت مسيحي في زمن التصالُح بين الأجناس والديانات والأعراف . كنت تتلفح مثلنا بجُلبابك الأبيض الناصع ، وعُمامتك كالرحّالة في بلاد المستعربين والأفارقة، ولكنك أجمل في رونق بهائك  وأكثر ألفة بيننا ، ولا تُصانع ودنا بل تُحب وتستأنس وتضحك من القلب . رداءك أكثر وسامة ونقش الأبيض من لباس المدرسة أكثر وهجاً. ترتدي زي أهلنا وتحب العُشرة .

كنتُ أتهيبُك أول أمري . وعندما قالوا مسيحي وأصوله القديمة من بلاد ما بعد البحر المتوسط ، تداعت بيوت الخوف في نفسي إذ لا غرابة فقد اعتدت الملامح . فمثله كان العم " خورينة" شقيق والدي من الرَضاعة . بلا عجب كان المسيحي " خورينة "  شقيق والدي  من الرَضاعة . يقضي هو في بيت الأسرة الكبير كل جمعة مقيلاً مع عماتنا ، ويُحب الوجبات السودانية . وتجده منشغلاً بأقاصيص عمتنا " سعدية " وهي تحكي تفاصيل فلكلور الأفراح :

 ( القيدومة ـ السبوع ـ دق الريحة ـ الجِرتِق ـ قطع الرحط ـ  الأربعين ـ التعليمة ـ الحِد ـ الرحمتات ...الخ )

  وتجده  العم " خورينة " يفتفِتْ " من الضَحِك !. يرتج جسده من فرح غامر  . تلك الحيوات التي شهدتها  ، تجعلني قريباً من الذين يختلفون عنا بتلون ثقافاتهم وأعراقهم ودياناتهم ولكنهم معنا بإنسانيتهم التي تعلو . عندما نقترب منهم نجدهم من أحباء عُمرنا الجميل ، وما انتقص ميزانهم في أنفسنا قيد أنملة .

    تعرفت على " فيليب ". وديعاً كان هو. وسيماً برسم هياب . كنا نعرف بعضنا رفاق الفصل الدراسي والنهر " ج " من أصل ثلاثة أنهُر  ولكل نهر أربعة فصول . تبدأ من السنة الأولى وتنتهي في الرابعة ومن بعدها اختبارات الشهادة المتوسطة تمهيداً للثانوية ." أم درمان  الأهلية الشمالية الوسطى "  كانت مدرستنا . بينها وبين منزل الزعيم إسماعيل  الأزهري طريق  يفصل "حي الملازمين" عن حي"بيت المال" . شرق المدرسة ميدان مُتسع  لكرة القدم ولمنافع أخرى ، وعلى طرفه الشرقي " مُدفع رمضان ".

     حملت المدرسة  اسم التعليم الذي أسسه أبناء الوطن ، وصار من بعد تعليماً حكومياً . المرحلة الوسطى أربع سنوات من بعد أربع مثلهُن في المرحلة الأولية وتليها أربع أخرى للمرحلة الثانوية  . هكذا كان النظام حينها .

قلت له ذات صباح :

ـ أ لديكم قرآن مثلنا ؟

قال :

ـ ليس كذلك بالضبط ولكن  لدينا الإنجيل ، وهو يشبه القرآن في قداسته.

قلت:

ـ أيمكنني أن أراه .

قال :

ـ ليس من المناسب إحضاره هنا ، ولكن إن زرتني في البيت سأعطيك  واحداً لتقرأه ، يوجد واحد مكتوب باللغة العربية . ليتك تزورنا يا عبد الله فبيتنا قريب من هنا  .

قلت :

ـ شكراً جزيلاً لكْ

قال :

ـ ألا تخشى التأثُر إن قرأت إنجيلنا ؟ .

قلت :

ـ سأقرأ ما تيسر  فلدي في البيت مكان مُخصص للمكتبة وللاستذكار.

ثم عقبت :

ـ لمَ لا نتدارسه هنا مثلما أنت تدرس مثلنا " مواد الدين الإسلامي " ؟ ، فأنت تدرس الإنجليزية والرياضيات والجغرافيا والتاريخ واللغة العربية ، مثلنا   تماماً .

قال :

ـ نعم .. هذا هو نظام التعليم الحكومي السوداني .

 

      رغم أننا جميعاً في مدينة واحدة هي أم درمان ، هو يسكن وسطها  وأنا أسكُن جنوبها ، ولكنا كنا نتراسل بالبريد في العطلات . نحكي في رسائلنا عن كيف نمضي العطلات ، وكيف كنا نتشوق أن نلتقي فقد كانت المدرسة باجتماعياتها حياة متنوعة جاذبة ، وكان الضبط سيداً مُقدساً ، وكان التأديب وفق النظم العالمية القديمة : جفوة عند الأخطاء ومحبة مُضمرة ، تعرف ثمرتها الحلوة في المآل  . كان " فيليب " وسطاً تأتلف عليه القلوب والأنفس . يغلبك بالود ويتخير أكثر الألفاظ طلاوة وينشر الغمام من فوق صيفنا اللاهِب. وديع لطيف  وقوي عند الحاجة . متوسط الطول :

" ماهو الفافنوس ماهو الغليد البوص "

     كانت المدرسة الوسطى في زماننا بيتنا الثاني . الفصل الدراسي نيف و أربعون تلميذاً . نحضر عصر كل يوم للاستذكار في المدرسة مساءً ، وتلك من الفروض الرئيسة التي يتعين تأديتها كل يوم . أسماؤنا ندونها على كُراسة الحضور ، والغياب إثم وبيل  . تبدأ ساعات الاستذكار حصصاً مُقسمة تفصل بعضها الأجراس.  تبدأ منذ العصر  وإلى السابعة والنصف مساء . لكل فصل دراسي مدرسٌ يجلس أمام الطاولة التي تواجهنا ، ويقدم العون لكل تلميذ صعُبت عليه مسألة أو درس . تجد أساتذتنا وقد غشتهم رأفة بنا في المساء . ينشرون الود ، ويجلسون معك حتى ترتوي . كانت أجور المُعلمين تكفيهم فقد كانوا علية القوم وأزهار الطبقة التي تتوسط بين الغنى والفقر.

 نأتي بلباس المدرسة الرسمي " الجلباب والعمامة " مع الحذاء الذي يناسب . المواصلات العامة متوفرة تلك الأيام  . الشركة العامة للمواصلات ، مواعيدها مضبوطة ، تأتي لمحطاتها بالركاب أو بدونهم  .على رأس كل  نصف ساعة يتيسر الحضور والمغادرة وأنت آمن . للعاملين في المواصلات العامة أزياء خاصة  بهم  تكسوهم هيبة .

 مضى الزمان بأسرع من لمح البصر ، وخسفنا الزمان في مَجرات العُمر من بعد أن انحدرت الحياة المُتسامحة إلى القاع . لقد ظلمنا أنفسنا جميعاً حين احتجب التسامُح ، وأسهم فيه الكثيرون بالقدح المُعلى وجاء زمان الحصاد المُر . وغادر الأهل والأحباب من الطرف الآخر من معادلة المواطنة  . غادروا لوطن الجدود الأوائل ، أو مدت لهم " أستراليا " و " كندا" يد الترحيب فهاجروا فأرض الله واسعة ، وقلوبهم لم تزل تُحب أهل السودان وعشرتهم الطيبة ، فما صنع أهل السياسة  ومكر السوء خيراً  أبداً .

 

لستُ أدري لِمَ تراقصت  أمام ناظري أبيات المتنبي الشعرية وأنا خارج من كهف الذاكرة مغتسل بمياه أيامنا الراحلة ومتزرٌ بألوان الطفولة الزاهية ، وكتفي ينوء بأحمال ثقال :

 

وَ إني لنَجمٌ تَهْتَـــدي صُحبَتي بِهِ ... إذا حالَ مِنْ دونِ النّجومِ سَحَابُ
غَنيٌّ عَـنِ الأوطان لا يَــستَخِفَّني ... إلى بلـدٍ سَافَرْتُ عنهُ إيَــابُ
وَ للسرّ مــني مَــوضعٌ لا ينالُــــهُ  ...   نَديمٌ وَ لا يُفضــي إليهِ شَـــــــــرَابُ

 

 

عبد الله الشقليني

15/8/ 2009 م

 

 

 

 

 

 

آراء