في أكرم جوار،  معلم العربية، الأستاذ يوسف محمد فتح الرحمن 

 


 

 

نعى الناعي أخانا الأستاذ يوسف محمد فتح الرحمن، الذي ارتبط اسمه بتعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها وتدريب معلميها ووضع مناهجها وتأليف مقرراتها وإدارة مراكزها ومقارّها في القارة الأفريقية. نعاه الناعي ونحن نستشرف( اليوم العالمي للغة العربية).

كان أول لقاء لي به في جامعة سوكوتو، شمالي نيجيريا، في مطلع التسعينات من القرن الماضي. كنت حينئذ مكلفا من الايسيسكو، أدير ورشة في كتابة اللغات الافريقية بالحرف العربي، بالتعاون مع جامعة سوكوتو العريقة. قضيت معه أياما على هامش هذه الورشة، اطلعت خلالها على تفاصيل برنامج كان يضطلع به في مدينة كانو، في (معهد الشيخ إبراهيم الطيب لإعداد معلمي اللغة العربية أثناء الخدمة). حدثني عن الآفاق الاستراتيجية لهذا البرنامج، في ظل مخاوف حقيقية كانت تنذر بمحو اللغة العربية من برامج التعليم العام، محواً تامّاً على نطاق الجمهورية، بحجة ضآلة عدد المعلمين المدربين، حملة الشهادات. استفاد الأستاذ يوسف من خبرته التربوية في السودان، واقترح منهجا للتدريب أثناء الخدمة، يتطابق من حيث المحتوى وعدد الساعات الدراسية، مع البرنامج الوطني النيجيري التقليدي، دون أن يصرف المعلمين المستهدفين عن  أداء أعبائهم التدريسية. نجحت الخطة نجاحا منقطع النظير وافتتحت المراكز الدراسية في غالب حواضر الشمال النيجيري، فبلغت المئات، وتضاعفت أعداد المعلمين المتخرجين من هذه المراكز فبلغت عشرات الآلاف، وصار للعربية أساس راسخ ومتين في التعليم العام والتعليم العالي في نيجيريا وإقليم غرب أفريقيا.

 كانت التجربة قد استقرّت واشتدّ عودها عندما حدثني عنها ونحن في سوكوتو في مطلع تسعينات القرن الماضي. اهتممت بالتجربة وانصرفت إلى تسجيل تفاصيلها وحملتها إلى الدكتور عبد العزيز التويجري، المدير العام للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة(ايسيسكو)، مقترحا عليه أن تتبناها المنظمة بالنظر إلى قلّة كلفتها المادية وكثافة برامجها وارتفاع قيمتها وكثافة مادّتها العلمية، عوضا عن الدورات التدريبية، باهظة التكلفة، قليلة الجدوى، محدودة الأجل، محدودة الأثر، التي درجت منظمات العمل العربي والإسلامي المشترك على تنظيمها. وكان أن وافق الدكتور التويجري، حيّاه الله، على المقترح ووجّه بإدراج (مشروع مراكز الايسيسكو التربوية) في جدول اعمال المؤتمر العام  الذي انعقد بدمشق في نوفمبر ١٩٩٤م. تطورت الأمور وتبلورت في اتجاه إنشاء مركز الايسيسكو في تشاد، وكُلّفت بأعباء إنشائه ووضع لبناته الأولى وإدارته والقيام بمهامّ تمثيل الإيسيسكو في جمهورية تشاد.

كان إنشاء مركز الايسيسكو  التربوي بتشاد، ملحمة حقيقية في جميع جوانبها الدبلوماسية والتربوية والقانونية، ربما أعود للكتابة عنها بشيء من الإسهاب والتفصيل في قابل أيامي، إن امتد بي العمر، على أن ما أود الإشارة إليه في هذا المقام الدور الذي اضطلع به الأستاذ يوسف فتح الرحمن في تكوين فريق المشرفين على المركز وتدريبهم على نظم التدريب المباشر وغير المباشر، وتأليف المقررات التربوية بما يتسق والمنهج الوطني، وفتح مراكز التدريب التي نما عددها فبلغ في السنة الثانية من عمر المركز نحو سبعة مراكز، ثم ما لبث هذا العدد أن تضاعف، وتجاوزت التجربة نطاق العاصمة انجمينا الى مدن الجمهورية الأخرى في أبشة وبنقور وغيرهما.

لم يطل بي المقام في انجمينا، فقد كلفت بمهام اخرى، كما أن العقد المبرم مع الأستاذ يوسف لم يستمر لأكثر من عامين.. عجزت مؤسسات التمويل العربية عن تمديده، ومع ذلك، فقد أثبتت الأيام  أن تجربة المركز، الذي اضحى في يومنا هذا معلماً تربوياً وثقافياً ومنارة للغة العربية في انجمينا وجمهورية تشاد، ظلت منتجة الى يومنا هذا، "كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء".

ظللت على اتصال بالأستاذ يوسف طوال السنوات الماضية التي لم ينقطع خلالها عن تجربته في إعداد برامج تدريب معلمي اللغة العربية، التي بدأها في رواندا ونيجيريا وتشاد، وانتقل بها إلى دول القرن الأفريقي وشرق افريقيا، لم يثنه عن ذلك بؤس منظمات العمل المشترك العربية والاسلامي وعجزها الذي ظل يقعد بها عن المضي في هذه المشروعات التربوية والثقافية الاستراتيجية في قارّتنا الافريقية، إلى غاياتها.

مضى أخونا يوسف إلى أكرم جوار، مضى في صمت والقوم يحتفلون، على طريقتهم باليوم العالمي للغة العربية، مضى يحفه سمت الزاهد الفقير وريث شيوخ وادي النيل وفقرائهم وفقهائهم من لدن موائد الشمس من عهد كوش إلى خلاوي الغبش والمجاذيب، مضى والعالم العربي يحتفي بطريقته وأسلوبه بما أطلق عليه اسم (اليوم  العالمي للغة العربية)، مضى أخونا يوسف محمد فتح الرحمن، معلم العربية، وترك وراءه سيرة عطرة وأثرا باقيا، وسابقة وفضلا. مضى وترك وراءه عشرات المقررات الدراسية مضى وترك وراءه عشرات الألوف من تلاميذه وتلاميذ تلاميذه الأفارقة الذين تعلموا العربية وعلموها في رواندا ونيجيريا وتشاد والحبشة واريتريا وجيبوتي والصومال وكينيا وتنزانيا وزنجبار،  يتوارثون ما تعلموه منه، كابرا عن كابر، ويتصل دعاؤهم له ليل نهار، صدقة جارية لا تنقطع بموت.

ألا رحم الله أخانا يوسف محمد فتح الرحمن وغفر له ووسع له في مرقده وأكرم وفادته وحشره مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا، وأفرغ على ذويه الصبر وحسن العزاء.

 إنا لله وانا اليه راجعون

عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم قال: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له".

د. مصطفى أحمد علي،

الخرطوم، ديسمبر ٢٠٢١


alkhandagawi@yahoo.fr

 

آراء