في الذكري الخامسة لرحيل أ. د. محمد سعيد القدال
كان ذلك يوم الاحد: 6/يناير/2008م ، وحوالي الساعة الثانية ظهرا ،عندما فارق دنيانا البروفيسور محمد سعيد القدال بعد حياة حافلة بالعلم والتواضع الجم والنضال من اجل تجديد حياة الشعب السوداني والانحياز للمستضفين في الارض ، رحل بعد أن اثري المكتبة السودانية بمؤلفات اسهمت في تعميق نظرة جديدة موضوعية في التاريخ والتراث السوداني ، وبعد أن تخرج على يديه المئات من طلاب العلم والدراسات العليا ، وظل منافحا ومدافعا عن فكره ومنهجه الماركسي وقابضا على جمر مبادئه حتى الرمق الأخير، بحثا وتأليفا وكتابة في الصحف السيارة ودفاعا عن اصلاح مسار التعليم العالى في البلاد وانقاذ جامعة الخرطوم من الدرك والنفق المظلم الذي وصلت اليه.
ولد محمد سعيد القدال بمدينة سنكات عام 1935م ، وتخرج في جامعة الخرطوم – كلية الآداب عام 1958م ، وفي عام 1964 حصل على درجة الماجستير من جامعة ولاية كلفورنيا ، وحصل على درجة الدكتوراة من جامعة الخرطوم ، وكان موضوع رسالة الدكتوراة عن "النظام الاقتصادي للدولة المهدية" ، والتى صدرت في كتاب بعنوان( السياسة الاقتصادية للدولة المهدية ). لم يكتف د. القدال بذلك، بل واصل البحث في ميادين مختلفة نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر :
1 – الدراسات الاسلامية : وكان منهجه في الدراسة أن الاسلام مكون أساسي من ثقافتنا وتراثنا ومن هذا المنطلق ، لابد من الغوص في دراسته دراسة عميقة تنشر الوعي والاستنارة لاالتضليل باسم الدين ، وكانت حصيلة دراسته مؤلفات منها: "الاسلام والسياسة في السودان:651 – 1958م" ، الانفاق في القرآن الكريم الذي كان ينوى الدفع به للطباعة قبل أن يرحل، كما اهتم بظاهرة الهوس الديني وقدم عنها دراسات ومقالات نشرت في حلقات نشرت في الصحف السيارة، كما اهتم بدراسة ظاهرة الجذور التاريخية والاجتماعية للارهاب وسط الجماعات الدينية، هذا اضافة لاهتمامه بالمهدية والتى شكلت محور تخصصه والجذور الاجتماعية لفكرة المهدي المنتظر الذي سوف يملأ الارض عدلا بعد أن ملئت جورا.
2- اهتم بالتعليم واصدر مؤلفه : "التعليم في مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية 1971م "، كما كتب سلسلة مقالات ودراسات لاصلاح جامعة الخرطوم بعد الخراب الذي حل بها بعد انقلاب يونيو 1989 م.
3 –اهتم بالتراجم وسير العظماء من الناس وهو ضرب ما زال الاهتمام به قليلا في الكتابات السودانية فكتب عن : الامام المهدي ، والشيخ القدال والد المرحوم ، والشيخ مصطفي الامين بالاشتراك مع د. عاطف عبدالرحمن صغيرون، د. محمد ابراهيم ابوسليم، ود. عبد الله الطيب.... الخ.
4 –اهتم بتاريخ المدينة السودانية وكتب عنها في المجلات التاريخية المتخصصة وكذلك اهتم بتاريخ البلدان وله كتاب عن حضرموت وجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية( دراسة نقدية).
5 –اهتم بتاريخ الحزب الشيوعي السوداني وصدر له كتاب عن ( معالم في تاريخ الحزب الشيوعي السوداني) ، (الحزب الشيوعي وانقلاب 25 مايو 1969 م)، هذا اضافة لنشاطه العملي في الحزب الشيوعي ومساهماته الكثيرة في جانب الثقافة والتعليم الحزبي فقد ظل مسئولا عن مكتب التعليم الحزبي فترة طويلة واسهم مع رفاقه في المكتب في ارساء مناهج عمل سليمة في التعليم الحزبي والتدريب والتأهيل ، ودراسة الماركسية في ارتباط بالواقع السوداني، كما أسهم بنشاط في السمنارات التى عقدت في المناقشة العامة لتجديد الحزب الشيوعي، وكتب سلسلة مقالات في ذلك منها "الجذور التاريخية لانهيار الاتحاد السوفيتي" ، و" الجذور التاريخية لازمة الديمقراطية في السودان ".. الخ.
6 – كما اهتم د. القدال بالترجمة فعلى سبيل المثال ترجم كتاب جون فول عن "الطريقة الختمية في السودان " ، وصدرت الترجمة عن مركز الدراسات السودانية،كما ترجم دراسة المفكر الماركسي البريطاني جون لويس بعنوان( ماركس والتاريخ)... الخ.
هذا وقد بلغت مؤلفات د. القدال اكثر من عشرين مؤلفا ،عدا الدراسات التى نشرها في المجلات التاريخية والثقافية المتخصصة والصحف السيارة ، فهو من جيل العطاء المستجيش ضراوة ومصادمة.
منهج القدال في دراسة التاريخ:
اسهم د. القدال في ارساء منهج جديد في الدراسات التاريخية السودانية وتناول بشكل ناقد ( المدرسة التاريخية السودانية) ، أشار في ذلك التناول أن تلك المدرسة :-
*قدمت دراسات فيها الخصوصية السودانية ، وعملت على دحض كتابات المؤرخين الاستعماريين والكشف عن تشويهم وزيفهم .
*ركزت على الجوانب السياسية ، ولكنها بدأت مجال الدراسات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية .
*اسست منهجا صارما للبحث يعتمد على الوثائق ودراستها واكتشافها وترتيبها والخروج بابحاث تعتمد على رصد الأحداث رصدا يتوخى الدقة .
كما تناول د.قدال السلبيات في الآتي:
*عدم استنطاق الوثائق.
*افتقاد النظرة الشمولية.
*التناول الاحادي الجانب للظاهرة التاريخية ( دراسة بمعزل عن الظروف).
*الانحصار في دراسة البناء الفوقي للمجتمع.
*التركيز على دور الفرد واهمال دور الجماهير.
*كما تم تقسيم تاريخ السودان لحقب ( على أساس البناء الفوقي) ، دون المعالجة الشاقة للاساس المادي الذي قام عليه ذلك البناء الفوقي ، وعلى سبيل المثال تم تقسيم فترة الحكم التركي حسب حكم الولاة : محمد على باشا، عباس ، محمد سعيد ... الخ. كما تم تقسيم تاريخ المهدية الى مناطق : دارفور، كردفان ، القضارف ، القلابات .. الخ. وكل دراسة رصد لنشاط العمال والامراء : فترة حمدان ابوعنجه ، عثمان آدم ، يونس الدكيم ، ... الخ. وكذلك فترة الحكم الثنائي : فترة ونجت ، استاك، سايمز، وغيرهم.
ويرى د. قدال: أن المخرج من نفق الاغتراب التاريخي هو البداية لدراسة تاريخ القوى المنتجة في المجتمع التى تشكل البدايةلدراسة التاريخ الحقيقي.
وخلاصة القول كما أشار د.قدال في التقديم لكتابه تاريخ السودان الحديث ، (أن دراسة تاريخ السودان ظلت تخضع خضوعا مغلقا للتسلسل الزمني للاحداث وظلت حبيسة الفترات التاريخية للحكام ، كأنما التاريخ مجرد سرد للاحداث ولانجازات الحكام ، دون الاهتمام الكافي لتطور المجتمع).
كان الكاتب ينظر للحاضر والمستقبل من دراسة التاريخ وكما أشار في كتابه تاريخ السودان الحديث ( الحاضر يخرج من الماضي خروجا قد تطول فترة مخاضه)(ص 20 ).
وفي نشاطه السياسي في الحزب الشيوعي تعرض للفصل التعسفي ثلاث مرات : 1971 ، 1981 ، 1992 م ، كما تعرض للاعتقال التعسفي ست مرات ، كان آخرها عام 1989 م، وكان مدافعا صلبا عن بقاء ووجود الحزب الشيوعي المستقل في كل الصراعات التي دارت في الحزب، كان الفقيد واسع الافق ومتعدد العلائق الاجتماعية ، وكان ودودا حلو المعشر ومن الذين يألفون ويؤلفون ،كما كان من صفاته اذا وعد انجز ،فهو من الذين يفعلون ما يقولون، كما كان مصادما في ما يعتقد أنه الحق، فالحق ابلج والباطل لجلج.
رحم الله د. القدال بقدر ما قدم للعلم والثقافة والمعرفة والوعى ما أستطاع االى ذلك سبيلا ، وبقدر ما قدم لوطنه واسرته وستظل ذكراه خالدة عطرة.
والعزاء لأبنائه وبناته وزوجته واسرته ولاصدقائه وعارفي فضله.
alsir osman [alsirbabo@yahoo.co.uk]