في الذكري العشرين لرحيل الشاعر والمفكر صلاح احمد ابراهيم (4-4) .. كتب/ صلاح الباشا – السعودية

 


 

 



أهم المحطات  الشعرية عبر مسيرته الطويلة
إضاءات: كتبها صلاح الباشا – السعودية 
تحدثنا في الحلقة الماضية عن قشفات ومواقف طريفة بين شاعرنا العملاق الراحل المقيم صلاح احمد ابراهيم ، خاصة التي كانت تجري وتتجدد بين افراد اسرته العريضة ، ولقد ذكرنا من ضمن سياق قفشاته خفيفة الظل في جزئية التوصيل بسيارته لشقيقته الأستاذ فاطمة احمد ابراهيم من بيت العائلة في العباسية بام درمان الي بيتها في بري بالخرطوم ، حين قال لها ان ( البقدم ما بوصل ) ، فقد وردت معلومة تصحيحية من المهندسة ماجدة محمود إبنة شقيقة صلاح أن الوقت حينذاك كان نهاراً ، وأن خالها صلاح برغم القفشة ( المكاواة ) لشقيقته فاطمة ، إلا أنه في نهاية الأمر قام بتوصيلها حتي ( خشم الباب ) ،  لذا لزم التنويه .
بعد وفاة صلاح فإن شقيقته التومة قامت بتأليف مناحة كرثاء للفقيد ، وقد امدتنا بها كريمتها ( ماجدة ) و نذكر منها المقاطع التالية :
يبكيك التبلدي ... والسنط والبان
ويبكيك الدليب ... والأبنوس والزان
تبكيك ام دبيكرات كرري ... وارض شيكان
يا ود القطينة وخلوة القرآن
مادايمة ام بناياً قش
****
يبكيك ديم عرب ... في الثغر والهبباي
تبكيك كسلا ... عثمان دقنة والهبباي
تبكيك الهجن ... وبطانة الدوباي
تبكيك الربابة... والنحاس والناي
وعيون الجياع والمرضي
من نيمولي للسقاي
خربانة ام بناياً قش
***
فالمناحة طويلة وفيها مفردات رثاء تنم عن فقد كبير للشعب السوداني كله ، وفيها كانت شقيقته التومة تعبر عن هذا الحدث تماما ، حيث كان صلاح يشغل كل الساحة الثقافية والصحافية والإعلامية فور وصوله السودان في إجازاته العديدة لأرض الوطن ... لذا كانت التومة تقول في جزئية من مرثيتها : ( تبكيك المحافل ومجالس الأخوان ... يا الطير المهاجر وشاعر السودان ) وهذا كلام لا يحتاج لكثير أضواء أو شرح .
أما إذا اردنا إلقاء بصيص أضواء علي المكون الإبداعي الذي يتميز به صلاح احمد ابراهيم  فإن هذا البصيص يحتاج إلي مجلدات لإضافات ضخمة جديدة في مسيرة الشعر السوداني ، حين تناول صلاح في شعره شتي الموضوعات ، منذ عهد الإستعمار الذي قام بفصله من حنتوب الثانوية ، ما جعله يكمل دراسته بالأحفاد الثانوية في ام مدرمان ، ثم يدخل ألي كلية الآداب بجامعة الخرطوم من أوسع أبوابها ، والتي فيها تفتقت عبقريته الشعرية وأنداحت وتمددت قصائده لتخرج من إطار الجامعة المحدود إلي براحات الوطن الكبير ، فجاءت أشهر أعماله الغنائية الأولي التي إلتقطها الفنان حمد الريح في ديوان شعره ( غابة الأبنوس ) :
ليت لي يا مريا ازْميل " فدياس "
وروحاً عبقرية
وأمامى تل ُ مرمر
لنحت الفتنة الهوجاء
في نفس مقاييسك
تمثالاً مُكبر
وجعلت الشعر كالشلال
بعضُ يلزم الكتفَ
وبعض يتبعثر
وعلى الأهداب
ليلُ لا يُفسر
وعلى الخدين
نورُ يتكسر
وعلى الأسنان
سُكر
وفمُ كالأسد الجوعان
زمجر
يرسل الهمس به
لحنا معطر
وينادى
شفة عطشى
وأخرى تتحسر
يا مريا
****
ومن المعروف سلفاً ان الشعب السوداني وبكافة ثقافاته ، وبمستويات تعليمه المتباينة ، العالية والمتواضعة ، يعشق الشعر ويطرب لفن الغناء عبر تاريخ فن الغناء الطويل في السودان الذي تعدي القرن من الزمان في مختلف محطات هذا الفن ، نجد شعبنا وقتذاك في السنوات الأولي من ستينات القرن الماضي كان يتعجب ولدرجة الإفتخار بمضامين ومفردات تلك القصيدة الحدث التي أحدثت نقلة كبيرة جدا في مسيرة الشعر الحديث الذي يخاطب الوجدان ويدغدغ المشاعر ، ويخلق في الإنسان رهافة حس مابعدها رهافة ، فضلا علي جرعات المعلومات التي فاضت بها القصيدة عن عظماء فن النحت وغيرهم في تاريخ الحضارة الأغريقية أو الرومانية ( ام الحضارات في العالم ) بعد الفراعنة بالطبع.
ثم تأتي تتهادي من موسيقي الموسيقار محمد وردي تلك الهادئة التي تخاطب كل شيء في أعماق النفس البشرية ، تأتي تلك الطيور في هجرتها الموسمية لأرض الوطن ، خريفاً كان أم شتاءً ، والشتاء عند أهل مصر والشام ولبنان وتخوم تركيا هو فصل الأمطار ، أما خريف بلادنا فهو الذي تهطل فيه الأمطار صيفاً ، فكيف يحكي صلاح قصة الطير المهاجر وهو يرسل له الوصايا ، نعم يخاطب صلاح الطير في هجرته للوطن ، فهل كان صلاحا يغيش الغربة وهو يكتب ، ووردي يلحن ؟ حتي أن بعض التفسيرات كانت تقول أن ( الطير المهاجر ) كتبها صلاح عند هجرة أو تهجير اهالي حلفا القديمة إلي حلفا الجديدة في قلب البطانة بعد أن غمرت مياه النيل وبحيرة ناصر تراث حلفا القديمة بعد قيام السد العالي في صعيد مصر بشمال اسوان ، لكن هذا التفسير ربما يكون محض إجتهاد ، بسبب تزامن القصيدة الأغنية مع فترة التهجير.... كما أن الموسيقار الموهوب الفطرة الراحل محمد وردي قد قام بتأليف لحن لهذا العمل يمتاز بالهدوء في الإيقاع ممزوجا بالهدوء في التطريب وهو ما ياعرف عند الموسقيين واهل الفن والمحبين له بأنها ( أغنية إستماع ) أي لا ضجيج صاخب فيها ينتج عن سرعة الإيقاعات مثل الأعمال الغنائية الأخري خفيفة الإيقاع عند وردي أو غيره من المطربين. لذلك كان طابع الغربة الذي إحتشدت به قصيدة الطير المهاجر ، والتي يعيش العديد من المهاجرين آلامها ، ويستمعون لها كثيرا من وردي في بيوتاتهم حيث يصيبهم ما يسميه علماء النفس ( النوستالجيا ) وهو حنين دافق إلي كل الذكريات الناصعة في الوطن الأم ، وكان كل مقطع من الطير المهاجر يرتكز علي هذه الجزئية من الحنين ، مثل :
طال بيهو الحنين ... فاض بيهو الشجن
واقف يردد من زمان
بالله يا طير .. قبل ماتشرب تمر
علي بيت صغير
من بابو .... من شباكو
يلمع ألف نور
تلقي الحبيبة بتشتغل
منديل حرير لحبيب بعيد
تقيف لديها ... وتبوس يديها
وانقل اليها ... وفايا ليها
وحبي الاكيد
وكان تعب منك جناح
في السرعة زيد
في بلادنا ترتاح
ضل الدليب اريح سكن
وتواصل الليل بالصبح
تحت المطر .. وسط الرياح
****
رحم الله الإثنين صلاح ووردي ، وستظل قصيدة الطير المهاجر تتحديث بعذوبة كلماتها وفرادة لحنها وموسيقاها الهادئة تتحدي كل أزمنة الغناء القادم إلي ان يرث الله الارض ومن عليها .
ثم يفجع صلاح في صديق عمره وابن مدينته الفاضلة ( ام درمان ).  فلاولاد أم درمان عشق عجيب لأم المدائن ، حتي انا علي المستوي الشخصي لاتزال أم در ( كاسرة فيني ضلعة ) برغم سكني الآن ولعشر سنوات في الخرطوم بحري قبل إغترابي الأخير هذا ، ولايزال ( عقابي ) من عائلتي ببحري يتلقون العلم بالجامعة ، غير أنني خبرت ام درمان حين دخلتها شابا يافعا فسكنت فيها لخمس سنوات خلال دراستي بجامعة القاهرة فرع الخرطوم منذ العام 1970 م قادما لها من ودمدني الثانوية وهي ( مدينة الأحلام ) بالطبع ، ولي فيها من الذكريات ما تنوء بحمله الجبال ومن العلاقات ما يحتاج الي مجلدات لتسطيرها - وبالتالي فان ام در يمكن أن نقول عنها ( كانت لنا أيام .. في قلبي ذكراها .. مازلت أطراها .. ياليتنا عدناها .. أو عادت الأيام ) وهكذا كان حال الشقيقين علي المك وصلاح احمد ابراهيم ، لذلك كانت مرثية صلاح في توأم روحه علي المك تستحق أن نرفد منها مقطع يعود بنا إلي زمان الوفاء والألق والإشراق  وقد كتب صلاح وقتذاك لعلي المك :
يبر بك الله في الكوثر المستطاب
قسم الأشعث الأغبر المستجاب
بكى رافعا كفه: يا كريم الجناب
بحق جلالك .. أكرم "على"
***
على!
يا أخي، يا شقيقي
على، شريك النضال، على رفيقي
ويا خندقي في الحصار، يا فرجي وقت ضيقي
ويا صرة الزاد تمسكني في اغتماض الطريق
ويا ركوتي كعكعت في لهاتي وقد جف ريقي
على .. زراعي اليمين، على خريفي

ونيلي، وجرفي، وبهجة ريفي
"على" تتمة كيفي، وسترى في أقربائي وضيفي
"على" إنطراحة وجهي في الاكتئاب
وشوواري إن عدم الراي، يا عوضي في الخراب
ألا اين أنت أجبني، اتسمعني يا "على"
اتسمع احبابك الأقربين تركتهم للمكان العلى؟
ألا اين ليلاتك المائسات، وأين زياراتك الآنسات
وأين ائتلاف الثريا، وأين انطلاق المحيا.
وأين اندفاق قوارير عطرك في المحفل؟
تشاغل "مخ" وعلاء، وعبدالعزيز،
وبعد صلاة العشاء "أبا سمبل"
وتحكى نوادر من "سينة"، وتحكي أقاصيص عن "صندل"
وأنت تغني، وأنت تقلد هذا وذاك، وتنعشنا بالحديث الأنيق
تدير على المجلس للندامى، بحلو لسانك كأس رحيق
وما كنت إلا السماء تمشت عل الأرض هونا،
يمازحها ويناديك في ألفة وبلا كلفة:
يا على!
يا على!
كادح في الفريق
****
وحتي تكتمل عائلة صلاح ، فإن له شقيق كبير يعرف كل الشعب السوداني من جيل السياسيين أو خريجو العندسة وخبراء الري في العالم أجمع ، ألا وهو الراحل المهندس ( مرتضي أحمد ابراهيم ) اشهر وزراء الري في السودان برغم أن سنوات خدمته بالوزارة كانت محدودة لم تزد عن عامين في السنوات الأولي لحكم الرئيس الراحل جعفر نميري حين أتوا به من الأمم المتحدة في إحدي مؤسساتها بأفريقيا في مجال المياه . ولقد كانت للمهندس مرتضي علاقة حميمة مع مشروع الجزيرة كمساحات خضراء تأخذ إهتمامات وزارة الري عبر تاريخ السودان الحديث ، وكان كثير الزيارات لرئاسة المشروع ببركات حين كانت شقيقته الراحل التومة أحمد ابراهيم تقيم هناك مع زوجها الراحل محمود محمد علي نائب محافظ المشروع حتي ان المهندس مرتضي أودع إبنه ( سامي ) من زوجته النمسوية لينهل العلم في مدرسة بركات المتوسطة وليسكن عند عمته السيدة التومة عليها الرحمة ، وقد إنتقل مرتضي إلي الرفيق الأعلي بالنمسا مؤخرا في العام 2011م ، غير أن إبنه سامي كان قد فارق الدنيا قبله بعدة سنوات وقد كان في عز شبابه حين سقطت سيارته اللاندكروزر في كوبري شمبات مابين بحري وام درمان قبل عدة سنوات قبل إنشاء متاريس الكبري الحالية ( عليهما الرحمة ) .
ولصلاح شقيق آخراصغر وهو الأستاذ الرشيد احمد ابراهيم ، وقد مات الرشيد في عنفوان قوته بالشارقة وقد كان أستاذا للغة الإنجليزية وخبيرا فيها وذلك في العام 1996م عن عمر لم يتعد الثلاثة وخمسين عاماً ، تاركا خلفه زوجته السيدة لينا وأطفاله الذين شبوا عن الطوق الآن ( حفظهم جميعا الله تعالي ) .
وأخيرا ونحن نحي ذكري هذا المبدع المتسع الآفاق والرؤي والرؤية ايضا ، صلاح احمد ابراهيم ، صاحب غضبة الهبباي وغابة الأبنوس ، ونحن والردي ، وهو بالطبع حبيب أهل السودان وعاشق تراب بلاده ، في ذكري رحيله العشرين ، لا نملك إلا أن ندعو له ولأهل بيته ، أشقائه وشقيقاته ،بالرحمة والمغفرة ، وقد كان هو الزاهد العابد ، الذي لايضع هماً لهذه الدنيا الفانية ، فقد تركها ورحل عنها بكل هدوء بعد أن اختصر نعيمها فكتب فيها :
ما الذي اقسى من الموت؟
فهذا قد كشفنا سره ُ
واستسغنا مره ُ
صدئت آلاته فينا ولا زلنا نعافر
ما جزعنا ان تشهانا ولم يرض الرحيل
فله فينا اغتباق واصطباح ومقيل
آخر العمر قصيراً ام طويل
كفن من طرف السوق وشبر في المقابر
***
نعم كفن ُُ من طرف السوق ، أو شبر ُُ في المقابر . ... ورحم الله صلاح احمد ابراهيم.





Salah Albasha [barakat.1950@hotmail.com]

 

آراء