في بلاط أبو بكر عثمان محمد صالح … بقلم: محمد الشيخ حسين

 


 

 

قراءة في ذكريات أحد الرجال المحترمين

abusamira85@hotmail.com
عندما يصيب الوفاء الإنسان في تجربة الحياة، فإن هذا الكائن الهش يحس بقوته ولا يجد سوى الصدق, يلوذ به تعبيرا عن هذا الوفاء. فكيف حين يكون المصاب دبلوماسيا عريقا وسياسيا متمرسا؟ عندها يستعرض تجربة حياته عبر مجموعة من المواقف والمشاهد يرويها في صدق شديد دون أن ينقص أو يزيد. وهذا ما فعله الأستاذ أبو بكر عثمان محمد صالح السفير والوزير الأسبق في كتاب ذكرياته الذي نشره المكتب المصري الحديث بعنوان (في بلاط الدبلوماسية والسلطة).
في بلاط أبو بكر عثمان محمد صالح يعتبر هو العنوان الأقرب للكتاب الذي يضم بين دفتيه نحو 400 صفحة من القطع المتوسط دونها الأستاذ من ذاكرته.
ويستند هذا الاعتبار إلى أن الذاكرة حسب الأستاذ محمد حسنين هيكل، هي مستودع الإرادة وبدونها تواجه الأمة الأحداث وتتصرف بغير تجربة، فالذاكرة عبارة عن تراكم تجارب وخبرات.
وعلى هذا النسق تأتي فصول الكتاب التسعة بملاحقه وإضاءاته مثل وقفة ومحطة فاصلة بين حياتين لصاحب الكتاب، حياة بدأت مع صرخة ميلاده في حلفا دغيم قبل أن تختفي بشريطها الضيق الممتد على النيل بنخيلها وبيوتها ومزارعها وجروفها تحت مياه السد العالي.
كانت حلفا دغيم من أجمل مدن السودان، هكذا يصفها المؤلف، ولعل هذا الوصف ينسجم مع العبارة التي انتشرت في تظاهرات النوبيين ضد قيام السد العالي، حين كانوا يهتفون (حلفا دغيم ولا بيروت).
المهم هنا أن أثر النشأة الأولى يبدو لك واضحا في صفحات الكتاب من جهة الحميمية والشفافية والصدق في السرد.
ولا غرو في ذلك، فالإنسان ابن بيئته الأولى، وبيئة المؤلف في حلفا دغيم، حيث النيل والنخيل تكسب النفس صفتي الحنية والنداوة الممزوجة بقيم الحق والصبر. وهذه الصفات النبيلة تبدو مسيطرة على جميع صفحات الكتاب، بل يخيل إليك أن صاحب البلاط مثل من ركب قطار الزمن وراح من خلف زجاج النافذة يستعيد شريط ذكرياته، ثم يعاوده الحنين إلى مراتع الصبا.
الحاصل أن البيئة الأولى جعلت القروي أبا بكر عثمان محمد صالح السفير أولا ثم الوزير القريب جدا من الرئيس الأسبق جعفر محمد نميري الذي كان حاكما مطلقا في أمور العباد والبلاد. هذه البيئة جعلت السفير والوزير أبو بكر قرويا من جهة التعامل والمعاملات الممزوجة بفضائل البساطة والتسامح والتفاني في خدمة الآخرين. وتدهشك في قروية الأستاذ أبي بكر احتفاظه بقيمها النبيلة في جميع المواقع والأماكن، والشواهد في الكتاب كثيرة. فالقروي الشاب بعد أن عين دبلوماسيا وتقرر نقله إلى السفارة المصرية في القاهرة، اختزن في ذاكرته حضور الأستاذ محمد عثمان يسن إلى محطة السكك الحديدية في الخرطوم لوداعه. كان منظرا مهيبا أكبر موظف في الوزارة يأتي إلى محطة القطار باكرا لكي يودع أحد موظفيه الصغار. مشهد إنساني رائع. ليت الوكلاء وشاغلي المناصب العليا بغير إحسان يهتمون بمثل هذه اللمسات الإنسانية الراقية في تعاملهم مع شاغلي الوظائف الصغيرة.
وموقف إنساني آخر أسعف سلوك القرية الأستاذ أبا بكر في تفاديه بكياسة، حين قرر الرئيس نميري إعفاء الراحل الأستاذ جمال محمد أحمد من وزارة الخارجية، وكان وقتها في مهمة رسمية في فرنسا، ومؤلف الكتاب سفيرا للسودان هناك، ويأتيه خبر الإقالة وحسب منصبه الرسمي يتعين عليه إبلاغ الأستاذ جمال بهذا الخبر، فتصرف بنبل القروي حين يأتيه خبر مفجع.
ومشهد ثالث قوي يدل على السلوك القروي من جهة الصلابة حين طلب من الفريق عبد الرحمن محمد حسن سوار الذهب رئيس المجلس العسكري الانتقالي، إعفاءه من منصب أمين عام التكامل حسب نصوص الاتفاق مع مصر. ودليل صلابة القروي هنا أن الأستاذ أبو بكر طلب الإعفاء قبل أن يهاجمه الأستاذ محمد إبراهيم نقد سكرتير الحزب الشيوعي في ندوة عامة، ويطالبه بالاستقالة، لأنه (ليس محتاجا لماهية هذه الوظيفة)، حسب تعبير الأستاذ نقد.
وموقف أخير يتمثل في حكاية الشخص الذي اتصل بالسفير السوداني في باريس ناقلا إليه نبأ شراء مجموعة معارضة للحكومة لأسلحة تعتزم أن تدبر بها غزوا مسلحا في إطار ما عرف بـ (غزو المرتزقة) في يوليو 1976م. ويهمنا هنا نقل السفير أبو بكر مؤلف الكتاب النبأ عبر اللغة النوبية إلى وزير الخارجية الذي كان يجيدها؟.
عبرة التاريخ في التجربة الإنسانية، وهي المعنى الحقيقي للتاريخ، وميزة هذا الكتاب حرصه الواضح على اقتران الذكريات بالتفكير، وهي القيمة الحقيقية للذاكرة التي يبدو أن الأستاذ أبو بكر كان حريصا على إبقائها حية!
الميزة الثانية أن الكتاب يفتح مجالا أوسع لقضايا كثيرة حول طريقة حكم الرئيس الأسبق نميري، كيف يعين وزراءه، وكيف كان يقيلهم؟ ولعل القارئ الجيد يتمنى لو أن الأستاذ أبو بكر استرسل في كثير من قضايا التعيينات والإعفاءات، خاصة تلك التي كانت تصدر بالجملة، والأسئلة كثيرة، فهل كان الرئيس نميري يتخذ القرارات بمفرده أم كان يشرك معه آخرين؟ هل يحرص على توفير مبررات موضوعية لقراراته أم أنه كان يصدرها حسب المزاج وقرب الشخص أو بعده من المجموعة القريبة من الرئيس نميري لحظة اتخاذ القرار؟ هل الرئيس نميري حاكم فرد أم أن سياساته كانت أقرب إلى سياسة الاستعمار البريطاني فرق تسد؟
الميزة الثالثة لبلاط أبو بكر عثمان محمد صالح المعنون في بلاط الدبلوماسية والسلطة أن الكتاب يمزج في سلاسة فائقة بين الإنساني والتاريخي وبين ما رأى وما سمع، بل الكتاب محاولة موفقة لعمل نسيج يعوض النقص في أي فهم لحركة الحياة خلال الفترة الزمنية والمساحة المكانية التي يغطيها الكتاب.
ميزة رابعة للكتاب أن الأستاذ أبو بكر طالب التعامل مع وقائعه كذكريات وليس مذكرات، وهذا تواضع جم من مؤلف الكتاب، فالوقائع التي يحتويها هي جزء من ذخيرة الحياة السياسية في بلادنا، وأهمية هذه الوقائع أن مؤلفها بتواضع شديد لم يطلب من الذاكرة أن تُملي عليه أو علينا المستقبل، بل يطلب- إن صح ظني- أن تكون الذاكرة حاضرة وموجودة في الحاضر، بغية أن لا ننساها، لأننا إذا نسينا سنصبح كل مرة أمام بداية جديدة.
من بين الفرق السياسية التي تحدث عنها الكتاب إشارات عابرة وسريعة عن الأحزاب، وهنا يسود اعتقاد خاص فحواه أن معظم قادة مايو مُقلون في الحديث عن التجربة الحزبية، فهل مرد هذا أن مايو وقادتها يرجحون اضمحلال التجربة الحزبية، لذا يتجاهلون الحديث عنها، على الرغم من أن الواقع السياسي بعد انتفاضة أبريل 1985 يفيد أن التجربة الحزبية تعيش مرحلة انتعاش جديدة، والسؤال المشروع: ماذا يعني ذلك؟
ميزة خامسة أنه خلال الفترة الزمنية التي يغطيها الكتاب مرت على البلاد ثمانية عصور وكل عصر فيها يختلف عن الآخر، لكن مؤلف الكتاب استطاع أن يحافظ على ذاكرة الأحداث من الضياع، خاصة أنه يصر على أن الكتاب مجرد ذكريات، وسرّ قوة هذا الإصرار في اعتقادي أن المؤلف بقيت لديه ذاكرة لم تتأثر لأنها موروثة بتقليد أصيلة ومحفوظة بقيم فاضلة.
ويبقى كتاب في (بلاط الدبلوماسية والسلطة) شهادة نبيلة لحقبة سياسية مهمة رواها أبو بكر عثمان محمد صالح وكتبها كسيرة ذاتية وذكريات يبوح فيها بمكنونات تجربته ويعلن فيها انحيازه المطلق إلى كل القيم الفاضلة التي تملأ حياتنا.
صفحة من التاريخ
بدأ الوعي السياسي لجيلنا في المدرسة الثانوية في مدينة أم درمان (العاصمة الوطنية) ومدرستنا بجوار مؤتمر الخريجين وأساتذتنا هم قواد الحركة الوطنية، رحم الله إسماعيل الأزهري وعوض ساتي ونصر الحاج علي وعبد الرحمن علي طه، وأبقى الله ذخرا أحمد البشير العبادي.
في هذا الجو المفعم بالوطنية نما وعينا بقضايا الوطن الأساسية والتعبير عنها في الجمعيات الأدبية.
وفي عام 1946 دخلنا كلية غردون التي كانت بوتقة الانصهار للوعي، آنذاك وشاركنا في العمل السياسي وقدنا المظاهرات.
ثم تطور الوعي السياسي إلى المشاركة بالكتابة وأخرجنا مجلة الجامعة الأولى.
تمخض عن هذا النضال في ظهور الأحزاب السياسية التي شاركنا في نشاطاتها بصور شتى.
بعد الاستقلال دخل الوعي القومي مرحلة متقدمة تمثلت بالكتابة في قضايا السودان. وكان أول كتاب أخرجته عن تطور التعليم في السودان وكان في الأصل أطروحة جامعية.
وبعد ذلك انهمكت في دراسة قضية الجنوب وكتبت عنها كتابين وتوليت سكرتارية المائدة المستديرة الذي توصل إلى نقاط كانت هي الأساس في اتفاقية أديس أبابا.
البروفيسور محمد عمر بشير
8/6/2009م

 

آراء