في تذكار الموسيقار محمد وردي (4 من 6)
shurkiano@yahoo.co.uk
في الأغنية الوطنيَّة
في تعريفه للأغنية الوطنيَّة يقول الكاتب الصحافي معاوية يس: "هي تسمية تضم تحت إهابها كلاً من النَّشيد والأغنية السياسيَّة، غير أنَّها تقتصر في الغالب على وصف الأغنيات التي نظَّمت وقُدِّمت إبَّان الفترة الاستعماريَّة". نظراً لإرث السُّودان التأريخي الضخم، نجده مليئاً بشخوص وطنيَّة تركت مآثرها في حياة السُّودانيين. إذ لجأ البحِّاث في سبيل دراسة هذا الأمر إلى التمييز بين المنهج التأصيلي والمنهج التأريخي. وفي الأول ينطلق أصحابه من المبدأ، ويحاكمون الناس إليه، ويدافعون عن مبادئ معتقدهم دفاعاً مستميتاً حتى لا تلتبس بأعمال البشر، أو تغشاها غواشي التأريخ. أما المنهج التأريخي فينطلق من وصف التجربة البشريَّة العمليَّة، ويقيس بعضها على بعض؛ وهمُّ أصحابه هو الدِّفاع عن هؤلاء الرِّجال الذين صنعوا التأريخ حتى لا تنطمس مآثرهم، أو تنهار هيبتهم في النُّفوس.
إزاء هذا كله كان وردي – على هذا الصعيد – رائداً فنيَّاً في التغنِّي بأمجاد الشَّعب السُّوداني، وشخوصه التأريخيَّة، ورجالها الأماجد منذ عهد الممالك القديمة مروراً بسلطنة الفونج والاستعمارين التركي-المصري والبريطاني-المصري، وكانت قوة ديناميَّته الفنيَّة تتبدَّى في جلال السمو الصوتي والموسيقي معاً. وفي الحق، كان هؤلاء الرِّجال الأشاوس والنِّساء الباسلات قد ضحوا بأنفسهم وأهليهم في سبيل الوطن، مما لا يمتري فيهم عاقل منصف، أو يتكلَّم فيهم متكلِّم مهرِّج، أو يقدح فيهم قادح يهرف بما لا يعرف، أو مغموص بالنِّفاق.
هكذا كان الموسيقار وردي – كما ذكرنا سلفاً – رمزاً للأغنية الوطنيَّة، وكانت – وما تزال – الأناشيد الوطنيَّة والقصائد الثوريَّة، التي لحَّنها وقام بتوزيعها ثمَّ غنَّاها تُسمع في المذياع باندهاش ودهشة وتُشاهد على شاشة التلفاز واليوتيوب بكثرة كاثرة، ويردِّدها الطلاب في شرخ الشباب في الحرم الجامعي، وفي الانتفاضات الشعبيَّة لإلهاب المشاعر المكبوتة وصحوة الهمم الوطنيَّة. مثله في ذلك كمثل المغنية المصريَّة أم كلثوم، التي عُرفت بكوكبة الشَّرق، وتوفيت في شباط (فبراير) 1975م. إذ كانت أم كلثوم ريَّانة وأرقَّ فنَّانة شعبيَّة في جيلها عشقتها قلوب المصريين خاصة، وسائر العرب عامة. وكان من معجبيها الرئيس المصري الرَّاحل جمال عبد النَّاصر (1918-1970م)، ثمَّ كان عبد النَّاصر إذا أراد الإقدام على مخاطبة الشَّعب المصري أو الأمة العربيَّة دعا ملكة الأغنية العربيَّة أم كلثوم لتترنَّم بنشيد وطني حتى تسحر مستمعيها، وحين تخفت الموسيقى وتتلاشى، يشرع الرئيس عبد النَّاصر في إذاعة خطبته في الناس عن القوميَّة العربيَّة وغيرها من القضايا السياسيَّة الكبرى التي شغلت مصر والعالم العربي يومذاك. وقد دأب خالف خالفه الرئيس المخلوع محمد حسنى مبارك على اتِّباع هذا التقليد. ومن هنا نستطيع أن نقول إنَّه قد قيل في تعريف الفن بأنَّه "هو فن القدرة على الاستحواز على مشاعر الآخرين وتحريكها عن طريق الجمال بلغة فريدة بعيداً عن صيغة الأمر والتوجيه."
مهما يكن من شيء، ففي العام 1961م قدَّم وردي لجماهير الشَّعب السُّوداني نشيد "الاستقلال" للشاعر الدكتور عبد الواحد عبد الله يوسف، والتي تقول فواتح أبياتها "اليوم نرفع راية استقلالنا/ ويسطِّر التأريخ مولد شعبنا." وفي بعض الأشعار الوطنيَّة تتجسَّد العلاقة المعياريَّة بين الواقع والمتخيِّل في الكتابة الإبداعيَّة. ففي جزء من أبيات القصيدة نجد "تمجيد الذات المطلق دونما إبصار لعيوبها". إذ تجدوننا نتفق مع الطاهر حسن التوم أنَّ هذه الأغنية تعتبر "من أكثر الشواهد على رغبتنا في تزوير الحقائق حيال الشخصيَّة السُّودانيَّة؛ فالأغنية التي ردَّدناها بشيء من الإعجاب شديد هي تدعو لتزوير التأريخ. ففي كرري هُزِم السُّودانيُّون شر هزيمة، وقد مثَّلت المعركة التي بموجبها تمَّ إنهاء حكم الخليفة عبد الله التعايشي في 2 أيلول (سبتمبر) 1898م تحوَّلت إلى نصر كبير بل:
كرري تُحدِّث عن رجال كالأسود الضارية
خاضوا اللَّهيب وشتَّتوا كتل الغزاة الباغية
والنَّهر يطفح بالضحايا بالدِّماء القانية
ما لان فرسانٌ لنا بل "فرَّ" جمع الطاغية"
وفي العام التالي أنشد وردي قصيدة "يقظة شعب" للشاعر مرسي صالح سراج، وإذ إنَّما يطيب بنا أن نردِّد جزءً من القصيدة والتي تقول أبياتها:
نحن في الشِّدة بأس يتجلَّى
وعلى الودِّ تضمُّ الشَّمل أهلاً
ليس في شرعتنا عبدٌ ومولى
نحن أبناء ملوك في الزَّمان
توَّجوا الفونج وزانوا كردفان
على أيَّة حال، كان أكبر حدث سياسي في تأريخ السُّودان بعد الاستقلال هو انتفاضة الشَّعب السُّوداني ضد الحكم العسكري الذي جثم على كاهل البلاد في الفترة ما بين (1958-1964م). لقد ارتأت الجماهير الأكتوبريَّة المنتفضة في تشرين الأول (أكتوبر) 1964م بأنَّه يستوجب على الذين تولوا دولاب الحكم أن يشرعوا في إحالة الحياة العامة في السُّودان إلى سابق عهدها الدِّيمقراطي قبل دعوة العسكر إلى سدة الحكم مهما يكن من شيء، وأن يخرجوهم من السَّرداب المظلم. فقد طالبوا باستقرار الأحوال السياسيَّة حتى تظهر آثارها على أوجه الحياة الاجتماعيَّة، والضرب على أيدي العابثين واقتلاع الفاسدين وتجفيف منابع الفساد، وذلك حين "هتف الشَّعب من أعماقه التطهير واجب وطني"، وقد ذهب بعضهم قائلاً – بينما كان صوت الاحتجاج مرفوعاً صارخاً عنيفاً ضد تحكُّم العسكر القساة جفاة القلوب – "القصاص بالرصاص"، وذلك في تناغم لازم للسير قُدماً بخطى عالية ونيات صافية نحو مستقبل أوفى وغدٍ مشرق. ثمَّ شدَّد السُّودانيُّون المنتفضون في ذلك الرَّدح من الزمان على الحل السِّلمي لمشكل الحرب الأهليَّة في جنوب البلاد، تعضيداً للوحدة الوطنيَّة، واستتباباً للأمن في ربوع الوطن الجنوبيَّة، وإشاعة للطمأنينة وسط أهلها، وإنعاشاً للاقتصاد القومي. وفي سبيل الحفاظ على علائق حسن الجوار، طالبت الجماعير الأكتوبريَّة المنتفضة أيامئذٍ باتِّباع سياسة خارجيَّة عاقلة وراشدة، وفي ذلك عدم الانغماس في مشكلات الجيران في حروبهم وصراعاتهم الداخليَّة. إذاً، كان أكتوبر ثورة تفاؤليَّة مثَّلت مجسَّماً أعلى من النشاط الذاتي لكافة قطاعات الشَّعب السُّوداني، الذي تراءى في الإقدام والبسالة والتصدِّي لرصاص العسكر دون وجل أو مهابة، وكان الناس مستعدين في أعظم ما يكون الاستعداد للتضحية بأنفسهم في سبيل ما يؤمنون به، وكان شعارهم "إلى القصر حتَّى النصر"، ولسان حالهم يقول "الرصاص لن يثنينا"، حتى لو خردق هذا الرصاص أجسادهم، كما أنشد ذلك الأستاذ الموسيقار محمد الأمين في ملحمته الأكتوبريَّة الرَّائعة الخالدة، والتي كتب كلماتها الشاعر الأريب هاشم صديق.
ففي اللحظة الأكتوبريَّة العام 1964م، ولم يزل دخان الثورة الشعبيَّة يعلو كالبركان في خضم الهجوم السَّاحق الماحق من زبانية النِّظام العسكري، كان وردي قنديلها، وكان هو أبرز من تغنَّى بتلك الانتفاضة الجماهيريَّة، ثمَّ كان هو الأعلى صوتاً، وهو "الذي قاد الكثير من مخابئ الوجدان لأماكن البصر.. فنظرنا حولنا فإذا به يمسك ربابة إسماعيل الدقلاشي، ويطوف بها الكلمات والألحان، ويصحبنا إلى عالم (الشاعر) محمد المكي إبراهيم (...)." إذ غنَّى وردي لذلك الشاعر الديبلوماسي قصيدة "أكتوبر الأخضر". والقصيدة تمثِّل أحلام الفارس القديم، الذي تناثرت منه الألفاظ ذات الدلالات المجنَّحة، والإيقاع الناعم. ذلكم هو النَّشيد الذي أبدع فيه ود إبراهيم سبكاً ولغة وإلهاماً، فهيَّا نستنطق بعض كلماتها.
باسمك الأخضر يا أكتوبر الأرض تغنِّي
والحقول اشتعلت قمحاً ووعداً وتمنِّي
والكنوز انفتحت من باطن الأرض تنادي
باسمك الشَّعب انتصر وحائط السِّجن انكسر
والقيود انسدلت جدلة عرس في الأيادي
إنَّ حياة كهذه لتجعلنا نكتشف أنَّ للأشجار أصواتاً، وأنَّ في الجداول المنسابة كتباً، وأنَّ في الحجارة عبراً، وأنَّ الخير كل الخير في كل شيء بحيث لا يتضوَّر (أي يتلوَّى) يتيم، أو تتضاغي أرملة أو أحد من شدة الجوع، وكأنَّما السُّودان قد بات مليئاً بأهل السخاء ومكتظاً بأصحاب الجود، ولعلَّ الفرق بين السخاء والجود كبير؛ فالسخي من أعطى عند المساءلة، أما الجود فهو العطاء من غير سؤال.
كان ذاك هو ما كان من أمر الثوَّار الأكتوبريين الذين هبُّوا من غفوتهم ينشدون العلياء في ثورتهم، كاندفاع السَّيل في قوَّتهم. بيد أنَّ العلة في عصيان أهل السُّودان على حكامهم أنَّهم أهل نظر وذو فطن ثاقبة. ومع الفطنة والنَّظر يكون التنقيب والبحث، ومع التنقيب والبحث يكون الطعن والقدح والترجيح بين أهل الحكم، والتمييز بينهم، وإظهار عيوبهم. أما في عقابيل الانتفاضة الشعبيَّة في نيسان (أبريل) 1985م فقد غنَّى وردي للشاعر محمد المكي إبراهيم قصيدة "من غيرنا":
من غيرنا يعطي لهذا الشَّعب
معنى أن يعيش وينتصر
من غيرنا لكتابة التأريخ والسِّير
ومن الأناشيد الوطنيَّة الأخرى التي تغنَّى بها وردي نجد أغنية "يا بلدي يا حبَّوب" للشاعر سيد أحمد الحردلو، ونشيد "يا بلادي شعبك أقوى وأكبر" للعميد (م) الطَّاهر إبراهيم، وكذلك "يا ثوَّار أكتوبر" للعميد (م) الطَّاهر إبراهيم أيضاً، وتقول كلمات الأخير:
يا ثوَّار أكتوبر (إفريقيا) يا صنَّاع المجد
للحريَّة الغالية حطَّمناهو القيد
.. هيَّا هيَّا
هيَّا حيُّوا الثَّورة
وشمِّروا ساعة الجِّد.. ساعة الجد
هتف الشَّعب من أعماقو
التطهير واجب وطني
والحريَّة في أرض بلادي
للأحرار بسمة وطني
وللشاعر الراحل علي عبد القيوم نشيد "نحن رفاق الشهداء"، ومحمد عبد القادر أبو شورة "حدق العيون ليك يا وطني"، ومبارك بشير "عرس الفداء". فلا عجب إن اعترتنا الدهشة وساورتنا الغبطة واعترانا الرِّضا عندما نسترق السَّمع إلى ذينك الإبداع الشعري والإنتاج الفني الوردي في صحوة النَّفس، وهدوء العقل، وسكون الخيال. أو إن جاز لنا أن نقول إنَّ في تلك الأغاني التي صدح بها وردي أو الأناشيد التي أنشدها بقدمتها وجدَّتها لا تزال تسير بصدقها وعبقها زاداً في مجاهل الزمن وبين منعرجاته؛ فهي التي تمخر عباب بحر الرَّتابة، وتستنطق الوجود، وتفرُّ بالإنسان من عاديات الدَّهر، وطوارق الحاضر إلى رحابة زمنه المخضر بوجوده الفاعل في تحرُّكه بماضيه، وتواصله مع ماضيه في حركة الفعل الثقافي. ومن هنا نستطيع أن نقول إنَّ الفن الوردي سيظل امتداداً بالذات الإنساني واستشراقاً للأفق الجمالي، وذلك لأنَّ وردي اقتدر على إيقاد الجذوة الكامنة في الإنسان، واستنهض طاقاته مع طاقات موروثه الإبداعي ليلتقي مع وهج عواطف الناس أيام زمان ويوم يأتي، وذلك في تلاقح واعٍ بين المبدع والمجتمع السُّوداني خاصة، والجيران عامة. فأين يكمن الإبداع أي إبداع؟
هناك عدة نظريَّات سعت في أن تفسِّر الإبداع منها النظريات العقليَّة التي ترجع الإبداع العقلي إلى الجهد والوعي؛ وهناك النظريَّة الاجتماعيَّة التي ترى أنَّ الثقافة وليدة المجتمع، والثقافة حلقات متَّصلة، والتراث جزء من الثقافة؛ ثمَّ هناك نظريات أخرى كثيرة كالتأثيريَّة والانطباعيَّة ونظريَّة الإلهام التي ترى أنَّ الإبداع مصدره الإلهام فقط. هذا، فإن كان علينا هنا تطبيق إحدى النَّظريات التفسيريَّة لمسألة الإبداع أو كلها على وردي لاستطعنا أن نقول إنَّ النَّظريات العقليَّة والاجتماعيَّة والإلهاميَّة هي التي سوَّدت وردي، وصيَّرته فناناً هماماً.
ثمَّ إذا بوردي يغنَّي للشاعر محمد مفتاح الفيتوري. كان محمد مفتاح الفيتوري – رحمه الله رحمة واسعة – شاعراً مجيداً، طوى الأقطار بما حواه شعره من ألفاظ مبتدعة، ومعان مولَّدة ومخترعة لاقتداره على حوك الكلام، وإجادته في ميزان النِّظام الشعري مع طول النَّفس وتنوُّع الجرس. إذ غنَّى له وردي نشيد "الحصاد الإفريقي". وفي هذه القصيدة نجد أنَّ الفنان أو الشاعر أو الاثنين معاً قد حاولا تغيير مفردات القصيدة من سيرتها الأولى لتواكب العصر والحال السُّودانيَّة. فلنقطف هذه الأبيات من القصيدة إيَّاها:
أصبح الصبح فلا السجن، ولا السجَّان باقِ
وإذا الفجر جناحان يرفَّان عليك
وإذا الماضي الذي كحَّل هاتيك المآقي
والذي شدَّ على الدرب وثاقاً لوثاق
هذا ما كان من أمر "شاعرنا محمد مفتاح الفيتوري، الذي تقلَّب بين مثلث التراث في جذوره الدارفوريَّة، والحداثة في نشأته المصريَّة، والثروة في حياته الدنيويَّة الليبيَّة."
فلا مُراء في أنَّ الغربة تدفع المرء دوماً إلى التماس الإلفة والإنس والانتماء في ثنايا الجذور العائليَّة أو الثقافيَّة أو العرقيَّة. فالغربة شعور بالانسلاخ يهدِّد الرُّوح بالوحشة والانفراد والتبدُّد. ومن ثمَّ نرى أنَّ كل الشعراء الحقيقيين الذين شاءت أقدارهم أن يبارحوا أوطانهم مختارين أو مقهورين يحاولون دوماً التنقيب في قاع التأريخ أو جذور التراث الثقافيَّة. إذ برع في هذا المجال الشاعر الأندلسي أحمد بن عبد الله ابن زيدون في نونيَّته الشهيرة في سبيل فراق محبوبته ولادة بنت المستكفي، والشاعر المصري أحمد شوقي في الفترة ما بين (1914-1919م) في قصيدتيه "الرَّحلة إلى الأندلس" و"أندلسيَّة". وفي الثانية يعارض فيها شوقي نونيَّة ابن زيدون مخاطباً نائح الطلح مستدعياً في الذاكرة حمامة أبي فراس الحمداني، وكذلك عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان المعروف في التأريخ السياسي والعسكري بعبد الرحمن الداخل لأنَّه أول أموي يدخل الأندلس. فقد استقدم عبد الرحمن الداخل – المعروف أيضاً بصقر قريش – نخلة من بلاد العرب ونخلها بالمشرق وزرعها في عاصمة ملكه قرطبة، ورأى في هذه النخلة رمز الجزيرة العربيَّة، فهزَّته من الأعماق، وحرَّكت في نفسه قبساً لاعج فؤاده، واصطخب عواطفه، فقال عنها مخاطباً نخلته تلك:
تبدَّت لنا وسط الرصافة نخلةٌ
تناءت بأرض الغرب عن وطن النخل
فقلتُ شبيهي في التغرُّب والنَّوى
وطول التنائي عن بنيَّ وعن أهلي
نشأتِ بأرضٍ أنتِ فيها غريبةٌ
فمثلك في الإقصاء والمنتأى مثلي
سقتك غوادي المزن في المنزل الذي
يَسِحُّ ويستمري السِّماكين بالوبل
والفيتوري أحد هؤلاء الشعراء الذين تبدَّت به هموم الترحال والتنقُّل، حتى أمسى بحثه عن التراث السُّوداني على وجه الخصوص والإفريقي بشكل عام عنصراً أساساً في إنتاجه الفني وإبداعه الثقافي. إذ أنَّ الأمة أيَّة أمة بلا ماض ولا تراث هي أمة بلا تأريخ ولا حاضر ولا مستقبل، ولكن هذا الماضي ينبغي ألا يصير مرابياً تسدِّد له أجيال الحاضر والمستقبل، وليس من الحكمة والتبصُّر في شيء أن نفترش فراش الماضي، ونتوسَّد أخطاء وخطايا الماضي، ونغط في نوم عميق ونكثر من الغطيط. فإنَّنا لا نستطيع أن نقلب التأريخ، لكننا قطعاً نستطيع أن نتعلَّم منه ونعتبر. وكذلك أنشد وردي للشاعر محمد الفيتوري نشيد "عرس السُّودان"، الذي كان حقاً عرس السُّودان وشرفة التاريخ، وكان "راية منسوجة من شموخ النِّساء وكبرياء الرِّجال". هكذا تدفَّقت كلمات القصيدة مدراراً وهي تقول:
فدى لعينيك الدِّماء التي حطَّت على الأرض
سطور النِّضال
داست على جلَّادها
وهي في سجنوه
واستشهدت في جلال
وفي سنوات الغربة حين كان وردي خارج البلاد العام 1991م قدَّم أغنية "بلد رايح" للشاعر عمر الطيِّب الدوش. وفي العام نفسه كذلك أنجز وردي ملحمة وأغاني وطنيَّة للشاعر المكاشفي محمد بخيت تقول كلمات إحداها:
فتِّش ترابك
وقلِّبوا ذرة ذرة
تلقانا بنحبَّك أكثر كل مرَّة
نحن ولاد كفاحك
كان وردي قد استعدَّ "لتقديم ملحة غنائيَّة عن الزعيم الرَّاحل الدكتور جون قرنق دي مابيور تتناول نضاله الطويل من أجل الحريَّة والعدالة والمساواة الاجتماعيَّة، والتي كتب كلماتها الفنان محمد وردي (ذاته) باللغتين العربيَّة والإنكليزيَّة، إضافة إلى (اللغة) النُّوبيَّة. وتستحضر الأغنية مواقف بطوليَّة في تأريخ السُّودان من لدن علي عبد اللطيف وعبد الفضيل الماظ وحتى نضال جون قرنق." ولكن لا ندري ماذا حاق بهذا الجهد الفني الوطني المستعظم!