في تذكر ام ثورات الربيع العربي .. حصاد أكتوبر السير في طريق معوج

 


 

 

60 عاما تفصلنا عنها إذ لا خلاف في أن ثورة أكتوبر 1964 هي أم ثورات الربيع العربي. ولكن قدر أهل السودان انهم لا يستطيعون تسويق انجازاتهم على مختلف المستويات والاصعدة وتلك قضية لم تبحث بعد.
قمم الجبال
تبدو العودة إلى الوراء للولوج إلى عالم ثورة أكتوبر 1964 أشبه بتسلق قمم الجبال جهدا وعرقا ومشقة من أجل نتيجة مجزية.
الناظر من أعلى إلى خلفية الأحداث عند السفح يجد أن هذا الشعب العظيم الذي انتفض في أكتوبر كمن تجرع حصاد ثورته بالسير في طريق معوج.
ثلاث روايات
وجه المشقة والصعوبة أول ما يقابلك عند تحديد هوية الثورة وصناعها، فقد أورد الراحل الأستاذ خضر حمد في مذكراته أن السبب لاندلاع ثورة أكتوبر هو حديث أستاذ القانون الدستوري في جامعة الخرطوم آنذاك الدكتور حسن الترابي في ندوة الجنوب بقوله (المحنة ليست محنة الجنوب وحده ولكنها محنة الشمال والجنوب من حيث فقدان الحرية والحياة الديمقراطية).
وقبل أن نقف كثيرا مع إشارة خضر حمد العابرة ينقلنا الصحفي أحمد حمروش إلى زاوية مختلفة في محاولة للإقناع على طريقة نفي النفي إثبات حين أورد في كتابه (السودان ومصر كفاح مشترك) على لسان مراسل وكالة الاسوشيتدبرس من سرده ليوميات الثورة عبارة (إن الذي يملك زمام الموقف. . رجل غامض يسمى عبد الخالق محجوب سكرتير الحزب الشيوعي السوداني.

وقبل أن نتأكد من هذه الراوية ينقلنا الصحفي المصري موسى صبري في كتابه مخبر صحفي وراء أحداث عشر ثورات إلى رواية جديدة تماما إذ يقرر دون تقديم أي تفاصيل أو حيثيات أن ثورة أكتوبر (ثورة القوميين العرب بقيادة بابكر عوض الله).
التوثيق والتقييم
الروايات الثلاث مقروءة تلفت نظرنا إلى أزمة تكاد تكون حادة في طرق توثيق وتقييم الأحداث الهامة في حياتنا المعاصرة.
وفي الرواية الأولى، لم يكتفِ الراحل خضر حمد بإسناد شرارة الثورة إلى الدكتور حسن الترابي، لرسوخ عبارة الدكتور الترابي في ذهنه، بل دعمها باعتراف صريح فحواه (أنها المرة الأولى التي يسمع فيها عبارة بهذه الحدة والدقة ضد الحكم العسكري).
وعند تأمل الراوية الثانية نلاحظ أن الأستاذ أحمد حمروش أورد المعلومة بذكاء على لسان مراسل وكالة الاسوشيتدبرس، ثم نفاها بشدة في مجال من قصد الإثبات والنفي، لكي يعرف الناس المعلومة ويتداولونها. ومع ذلك ينبغي التوقف عند عبارة (رجل غامض)، لعدم انطباق وصف غامض على الراحل الأستاذ عبد الخالق محجوب.
والشاهد أن الرواية الثانية ستجد لها سوقا رائجة تختلف تماما عن السوق التي انتشرت فيها الرواية الأولى.
غير أن الإشارة هنا تستوجب إيراد أن الراحل البروفسور محمد عمر بشير في تاريخه للحركة الوطنية يسير في نفس الاتجاه، أي أن (ثورة أكتوبر خطط لها ودبرها الحزب الشيوعي السوداني).
ولعل مبعث الرواية الثالثة أن القومية العربية كانت في قمة عنفوانها، ولذا أرجعت شرارة ثورة أكتوبر إلى القوميين العرب بقيادة الأستاذ بابكر عوض الله، ولم يكن للأستاذ بابكر عوض الله رئيس القضاء آنذاك أي دور سياسي. والقارئ لتقرير الراحل الأستاذ موسى صبري يلحظ دون عناء شديد أن التقرير في مجمله محاولة للقول إن المد الثوري الناصري الذي يكتسح الوطن العربي آنذاك هو الذي قاد لانطلاقة ثورة أكتوبر في السودان.
مبررات الآراء
ولا نحتاج للتعليق على الرواية الثالثة، على أن القول لا ينتهي حول الروايتين الأولى والثانية ولكل مبررات.
وأهم مبررات الرأي الأول أن اتحاد طلاب جامعة الخرطوم بقيادة الأستاذ حافظ الشيخ الزاكي لعب دورا أساسيا في تصعيد الأحداث من خلال ندوة الجنوب لينفجر الوضع ثورة عارمة تزيل الحكم العسكري.
أما أهل الرأي الثاني فمبررهم الأساسي أن 55 نقابة من أصل 62 نقابة قررت انتخاب الراحل الأستاذ الشفيع أحمد الشيخ الذي أودعته الحكومة السجن لمدة خمسة أعوام، قررت انتخابه سكرتيرا عاما لاتحاد نقابات السودان، ومنعت الحكومة العسكرية عقد مؤتمر العمال الذي كان مقررا انعقاده في 15 أغسطس 1964. ولم تكتف الحكومة بذلك بل شنت حملة اعتقالات واسعة ضمت المئات من النقابيين والديمقراطيين الاشتراكيين.
الحلقة الأخيرة
وسواء أن صح الرأي الأول أو الثاني فإن روائح العصر كانت تعلن قرب نهاية الحكم العسكري الأول، وأن حبل الصبر الممتد من الشعب قد تفتت أوصاله ولم يبقَ سوى الثورة والعصيان. وحتى لا نتهم بالتوفيقية في عدم تحديد هوية ثورة أكتوبر بصورة قاطعة نقول إن الناس في مثل هذه اللحظات الخالدة من الوعي القومي لا يتحدثون من منطلق الآراء السياسية ولا يناقشون الخلافات الحزبية.
وعلى هذا المنوال فإن أكتوبر كانت ثورة الشعب بكافة فصائله وتوحدت كلمته تحت القيادة الفعلية والعفوبة لجبهة الهيئات.
دور الجيش
الحلقة الأخيرة في انتصار الثورة الشعبية كان دور القوات المسلحة السودانية الذي سار في طليعة الثورة بقيادة أكثر من ضابط كان أبرزهم الراحل محمد الباقر أحمد ومزمل سليمان غندور.
والحلقة الأخيرة تنفي عمليا أن ثورة أكتوبر قد هبت في مواجهة الجيش السوداني، ولعل الخطأ الأكبر في سياق تدوين التاريخ السياسي المعاصر محاسبة القوات المسلحة بأي تجاوزات سابقة تنسب لطيب الذكر الراحل الفريق إبراهيم عبود أو أي هفوات لاحقة تنسب لرجل نسأل الله أن يغفر له ويرحمه هو، المشير جعفر محمد نميري.
ونحن نستعرض كل هذه الأدوار، يتملكنا يقين راسخ بأن الجنود المجهولين أكثر من الجنود المعلومين، وأن رجل الشارع تعرض لتضحيات وتشريد لم يتعرض لها البارزون.
وعود على بدء يبدو الصعود إلى عالم ثورة أكتوبر مسألة مقحمة ومثيرة للتأمل، لأننا نجتر سيرة ثورة أكتوبر كلما هل علينا شهر أكتوبر في أجواء من الأحداث تعيدنا إلى أيام أكتوبر 1964، على أن التاريخ لا يعيد نفسه.
السؤال الحائر
تمثل ثورة أكتوبر لحظة وعي قومي شارك فيها الشعب السوداني بكل فصائله، ولكن هذه الثورة أجهضت بعد أربع سنوات من اندلاعها ليفاجأ أهل السودان بحكم من طراز فريد.
على أن السؤال الذي يبحث حائرا عن إجابة، هل أجهضت ثورة أكتوبر لأنها (كثورة) أكلت نفسها حين جاء ميثاقها فضفاضا يثير الاختلاف أكثر من الاتفاق؟ أم أن أكتوبر (كثورة) أكلت بنيها حين خرج ممثلو جبهة الهيئات من حكومة سر الختم الخليفة الثانية؟ هل هي ثورة أكلها أبناؤها حينما دبت الخلافات بينهم واستعر أوار المطامع الحزبية وسطهم؟
ما بعد أكتوبر
لا نزعم أن هذه الأسطر تجيب عن الأسئلة التي تثار كلما أطل علينا فجر أكتوبر، لكن المهم تأكيد أن الثورة الشعبية نجحت في عهد الدبابات والمدافع المنصوبة على أبراجها، لأن القوات المسلحة قد انحازت إلى جانب الشعب وسار في طليعة الثورة.
ويبقى السؤال ثم ماذا بعد أكتوبر، خاصة ان ثوار أكتوبر قد أقسموا بأكتوبر لما يطل في فجرنا ظالم؟ لكن شهد ما بعد أكتوبر بمقاييس تلك الأيام تأرجح الوسط بين الانقسام والاتحاد، وشهد أيضا تأزيم اليسار للوسط وإجهاضه مجددا للجبهة الديمقراطية، ثم إجهاض الوسط واليمين لشرعية اليسار. وكانت النتيجة أن (دقت المزيكة) في 25/5/1969، وأصبحت من حكاياتنا مايو، وتلك قصة مختلفة.

 

آراء