في جنازة الديمقراطية و”الدولة” السودانية

 


 

 

 


يوم الأربعاء الماضي، والذي صادف ذكرى ثورة 21 أكتوبر السودانية (1964)، وقعت ثلاثة أحداث ذات مغزى. أصبح الناس ليجدو كل الجسور التي تربط مدن العاصمة السودانية الثلاث مغلقة. استحال الوصول إلى العاصمة الإدارية - الاقتصادية في مدينة الخرطوم، فتعطل العمل في معظم دواوين الحكومة، وكذلك في المنشآت الاقتصادية الكبرى. كان القصد من هذا التمترس حماية النظام من التظاهرات التي دعا لها ناشطون، احتجاجاً على عجز وقلة كفاءة الحكومة في توفير أبسط متطلبات معيشة الناس الأساسية، من خبز ووقود وغيرهما. وبالطبع تيمناً، بثورة أكتوبر العظيمة التي أسقطت سلمياً أول نظام عسكري سوداني.

مع انطلاق التظاهرات في صباح الأربعاء، هبطت طائرة إسرائيلية في مطار الخرطوم تحمل مسؤولين إسرائيليين وإماراتيين، عقدوا اجتماعات دامت ساعات مع مسؤولين سودانيين. في أثناء المفاوضات، كانت شوارع العاصمة تعجّ بالمظاهرات، بينما استمرّت الصدامات بين المتظاهرين والقوات الأمنية.

وطوال ذلك اليوم، وحتى وقت متأخر من الليل، كان المسؤولون الحكوميون يؤكّدون أن إعلان الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، في تغريدة له في بداية الأسبوع (19 أكتوبر/ تشرين الأول) نيته رفع اسم السودان من القائمة الأميركية للدول الراعية للإرهاب، بعد دفع تعويضات لأسر ضحايا هجمات نيروبي ودار السلام وعدن، لا علاقة له بمطالب التطبيع مع إسرائيل، وأن قضية التطبيع لم تكن على الطاولة إطلاقاً. وطوال اليوم أيضاً، ظلت قوات الأمن تستخدم مستوياتٍ متعدّدة من العنف، لاحتواء التظاهرات التي انتشرت في كل مدن العاصمة، وحاول متظاهرون عبور الجسور المغلقة. ونتيجة للقمع، قتل أحدهم بطلق ناري، بينما أصيب عشرات.

يوم حافل بكل المقاييس، ولم يعد السودان بعده ما كان في اليوم الذي سبق. يمكن أن يقال إنه يوم "ثوري"، له علاقةٌ ما بذكرى الثورة التي أراد المتظاهرون إحياء ذكراها، إلا أن التحوّل الذي وقع لم يكن في اتجاه الديمقراطية، كما أمل المحتجون، بل في اتجاهٍ معاكسٍ تماماً. خلال أربعة وعشرين ساعة، فقد النظام معظم ما كان له من رصيد ديمقراطي، وكثيرا من سنده الشعبي، بينما فقد البلد كثيراً من هامش الاستقلال المحدود. أما الحكومة المدنية، فانتهى دورها أو كاد.

نذكر هنا أن ثورة 21 أكتوبر السودانية لم تكن واحدةً من أهم الثورات السودانية فحسب، بل كانت سابقة عالمية، حيث افتتحت موجة ثورات الستينيات، وكانت أنجحها إلى حد كبير، فهي سبقت ربيع براغ، وثورات الطلاب في أوروبا، ونجحت في إنجاز تحوّل ديمقراطي كامل في البلاد خلال أسبوع. كشفت الثورة من جهة عن تمسّك السودانيين بالديمقراطية، وعن انسجام كبير بين المكوّنات السياسية، حيث شارك فيها اليسار واليمين، والإسلاميون والعلمانيون، وأهل الشمال والجنوب، كتفاً بكتف. كانت أيضاً ثورةً ذات طابع "إنساني"، حيث إن شرارة تفجّرها كانت النقمة على سياسة الحكم العسكري في الجنوب، والحرب التي أشعلها هناك.

كان الحكم العسكري دعا إلى مشاوراتٍ مفتوحةٍ حول حرب الجنوب التي كانت أصبحت عبئاً عليه، في محاولةٍ مزدوجة للتملص من مسؤولية القرار فيها، وأيضاً لحشد الرأي العام، ظناً منه أن أهل الشمال سيصطفون خلفه. ولكن الرأي العام انحاز، بالعكس، لأهل الجنوب ضد النظام، وطالب بإسقاطه باعتباره (بحسب حسن الترابي عميد كلية القانون في جامعة الخرطوم وقتها) المسؤول عن الحرب، وباعتبار أهل الجنوب، مثل أهل الشمال، ضحايا استبداد نظام يقاومه كل بطريقته. وقد ورد هذا التحليل في أول وآخر ندوة حول الموضوع، حيث حظر النظام النقاش العلني الذي دعا إليه، فأدّى ذلك إلى سقوطه.

كانت الثورة كذلك علامةً على تحضر المجتمع السوداني، حيث كان الرأي العام، حتى في داخل القوات المسلحة، رافضاً العنف المفرط، مما جعل خيار استخدام العنف لاستدامة الدكتاتورية مستبعداً.

الصورة كانت مختلفة في 21 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، فقد تحصّنت الحكومة التي رفعتها إلى السلطة ثورة شعبية في مكاتبها خوفاً من الشعب ومظاهراته السلمية، ولم تتورّع عن إطلاق النار على متظاهرين من بين الذين أتوا بها إلى الحكم، ودافعوا عنها ضد منتقديها الكثر. ولم تكن هذه العلامة الأولى على إدارة الحكومة ظهرها للديمقراطية، فهي قد خالفت ممارسات سلطات الانتقال الديمقراطي السابقة في عدم تمثيل كل القوى السياسية المهمة في تركيبة الحكومة الانتقالية، كما أنها لم تفكّر في إجراء انتخاباتٍ في وقت قريب. ليس هذا فحسب، بل إنها انحازت بصورة واضحة لأنظمة الثورة المضادة في المنطقة، ممثلة في الإمارات ومصر والسعودية وإريتريا وجنوب السودان.

أهم من ذلك أن النظام الحالي خالف دستوره الإشكالي أصلاً، بعدم مراعاة توزيع السلطة بين شقيْه، المدني والعسكري، حيث تكون السلطة التنفيذية للمدني. ولكن ما حدث أن المكون العسكري هو الذي قاد المفاوضات مع الفصائل المتمرّدة، وفي جوبا عاصمة الجنوب المحكوم بنظام غير ديمقراطي، وهيمن على السياسة الاقتصادية، وكان هو الذي ابتدر المحادثات السرّية مع إسرائيل، ونفذ التطبيع فعلاً قبل أن يعلم الشق المدني، ناهيك عن أن يوافق.

ولم تكن الطائرة الإسرائيلية التي دنّست تراب السودان، في وضح النهار يوم الأربعاء المشؤوم، تحمل وزير الخارجية، ولا أعضاء في الكنيست، ولا أي سياسي، وإنما كان على متنها رجال من جهاز الموساد الإسرائيلي ونظيره الإماراتي. التقى هؤلاء بنظرائهم السودانيين، في حضور رئيس الوزراء الذي كان، حتى يوم سابق، يزعم إن التطبيع لن يناقش، ولا علاقة له بصفقة رفع اسم السودان من لائحة داعمي الإرهاب. ويبدو أنه لم يجد الوقت ليبلغ وزير خارجيته المفترض بتغيير الخط، لأن صاحبنا ظلّ، حتى قرب وقت السكوت عن الكلام المباح، ينتقل من محطة فضائية إلى أخرى يبشر ببراءة الخرطوم من مساندة قتلة الفلسطينيين وناهبي أرضهم، على الأقل في الوقت الحالي. وأصبح الصباح، فإذا بالرجلين يغرّدان (بالمعنى التقليدي وليس التويتري) بمدح الصفقة الجديدة التي كان مجرّد الحديث عنها محل إنكارهما الغاضب.

إذن، كان أوضح من الواضح أن هذه الصفقة أمليت على العسكر الذين أملوها على الحكومة المدنية المزعومة التي أذعنت، راضيةً على ما يبدو، وإن كانت لا تزال تتململ عبر تبنّي رواياتٍ تتغير باستمرار حول ما حدث. على الأقل، نقدّر لهم الحياء الذي يدفعهم إلى الكذب والتجمّل. ولكن ما كشفت عنه أحداث الأيام القليلة الماضية أن الكارثة لم تكن فقط قرار الحكومة السودانية الدخول في شراكةٍ مع نظام عنصري متطرّف، يمارس يومياً أسوأ أشكال القمع ضد أهل فلسطين، وكفى به إثماً مبيناً. بل المصيبة الكبرى أنه يفعل ذلك بلا إرادة، وتحت توجيه نظم استبدادية تمارس يومياً القتل والقمع والنهب ضد شعوب عربية أخرى، من الشام إلى الخليج فشواطئ المتوسط.

الحكومة المسمّاة مدنية تأتمر بأمر العسكر، الذين سلمت رقابها لهم لأنها لم تكن تريد الحوار مع بقية الشركاء في الوطن. العسكر بدورهم يأتمرون بأمر آخرين من خارج الوطن، وينتظرون كذلك سراباً، ويبيعون الشرف والوطن والقرار بيع الغرر. وستكون نتيجة الصفقة الحالية، كما هو الحال في مصر وغيرها، تعزيز وضع العسكر، وتأجيل الديمقراطية إلى أجلٍ غير مسمّى. المشكلة هي إذن أن الديمقراطية أصبحت بعيدة المنال، كما أن كيان الدولة نفسه أصبح مهدّداً بسبب الإدارة الخرقاء لسياستها واقتصادها من المجموعة الحاكمة.

المفارقة الكبرى أن رفع كل العقوبات عن السودان كان مطروحاً عند عقد اتفاق السلام مع الجنوب الذي رعته الولايات المتحدة، وأنجز عام 2005. ولدى كاتب هذه السطور معلومات مباشرة من داخل دوائر صنع القرار الأميركية أن وضع السودان على قائمة رعاة الإرهاب كان محاولة ضغط لإنهاء الحرب في الجنوب، ولم تكن له علاقة بالإرهاب. وقد خصص المجتمع الدولي أكثر من خمسة بلايين دولار معونةً لدعم عملية السلام، وكان مستعدّاً لدفع أي ثمن لإنجاحها. إلا أن ما عوق ذلك كان اندلاع الحرب في دارفور، وممارسات النظام السابق الوحشية فيها، والتي كان لرئيس مجلس السيادة الحالي ونائبه نصيب الأسد منها.

هي إذن مفارقة أن يكون من عوّق رفع العقوبات عن البلاد بدون مقابل، بل مع دعم سخي، يفخر اليوم بأنه فعل ذلك بدفع أتاوات، وتسليم السيادة لدويلات مستبدّة، والتآمر على الأمة معها ومع إسرائيل، ويكون مستفيداً من جرائمه مرتين، ويساعد في تدمير البلاد. وما نعلمه من سنن التاريخ أن هذه لن تكون نهاية القصة.

نقلا من صفحة د. عبدالوهاب الأفندي على الفيس
//////////////////////

 

آراء