في ذكرى الدوش !! (عٌمركم شوفتو ليكم شاعر عندو سواق) عمر الطيب الدوش

 


 

 

musahak@hotmail.com

هيْ إحدى ظهيرات التسعينيات ،وفي تلك المدينة التي تضم تلافيفها تاريخا شفاهياً يفوق في حسنه وتوثيقه وحيويته حتي متاحف اللوفر . حينما دلف الي ذلك المنتدي الادبي الامدرماني وجلس الي جانبي ،صافحني بهدؤ حتي يمضي المنتدي الذي بدأ فعلا قبل قليل إلي مقاصده .
ورغم أنه قد جاء متأخراً لحد ما ،وأنه لم يستوعب نهر ذلك النقاش الذي بدا مبكراً،إلا انه كان مصراً أن يرفع يده وأصر أن يلقي بذلك السؤال الابدي في نهارات ام درمان ومنتدياتها .
لقد أخذ الدوش فرصته عنوة من ذلك المنتدي الرصين وأسقط ذلك السؤال ثم تراجع إلي مقعده هادئاً عكس ما بدأ متوتراً ( عُمركم شوفتو ليكم شاعر عندو سواق ) كان كمن يعلن (لقد سقطت القسطنطينية) .
المنتدي الادبي في ام درمان كان خلاصة لتلك الحكمة الصينية (أن توقد شمعة خيراً من أن تلعن الظلام ) فحينما كانت فيالق الانكشارية من الاسلاميين تستحوذ علي السودان وبكل تاريخه بوضع اليد عقب استيلائهم علي السلطة في يونيو 1989 كنا نحاول ونحن جماعة من الوراقين والناس العاديين أن نوقد شمعة .
الموسيقار الماحي سليمان ،عمر الدوش ،القدال ،محمد بشير عتيق ،الشاعر الغنائي التيجاني حاج موسي ،الشاعر الغنائي عبد الله أبو قرون ، مجموعة عقد الجلاد ، الدينمو وقتها عثمان النو والصاعد حمزة سليمان ،الشاعر محمد خير عوض ، الناشط الثقافي حسن مصطفي ، الموسيقار الراحل باكرا عازف الكمان إسماعيل عبد الرحيم ، والموسيقار يوسف حسن ،(التكس الاصفر)،الشاعر عبد الوهاب هلاوي ،والراحل المسرحي عز الدين هلالي ،وآخرون لديهم القدرة علي تشكيل عجينة صالحة لتصميم سودان بنحلم بيهو يوماتي .
وعوداًعلي بدء ،فقد تنفس الدوش الصعداء حينما دلف إلي منتدي ظهيرة امبدة الذي كان يقام في منزل الموسيقار الماحي سليمان .
خارج تلك الدار وفي تلك الظهيرة الحارقة كانت هناك سيارة حكومية (سوزوكي) زرقاء صغيرة منحتها سلطة الانقاذ المجاهدة لشاعر ضمه ذلك المحفل ،هذا ما مزّق دواخل الدوش حينما رأي سائق السيارة الحكومية يلوذ إلي أطراف ظل شحيح انتجته حيطان (الزبالة )في ذلك الحي الفقير (امبدة الحارة الثامنة) في إنتظار السيد الشاعر الذي ضمه ذلك المنتدي .
كنت أتخيل تلك البقعة السكنية الهامشية أشبه ب (وادي عبقر ) كيف لا وقد أصبح قاطنيها ،الماحي سليمان ،القدال،التيجاني حاج موسي ، الدوش ، الموسيقار يوسف حسن ، عازف الكمان اسماعيل عبد الرحيم الشاعر محمد خير عوض ، كيف يكون (وادي عبقر )إن لم يكن عبقرية ذلك المكان الذي الذي جمع هؤلاء في مساحة قد لا تتعدي ثلاث كيلومترات في ام بدة جنوب الحارة الثامنة وأطراف الحارة الناسعة.
الدوش كان مسكونا لحظتها بالفقر والاستبداد ،وبذلك التاريخ الانساني الذي أسس لحقيقة إنتماء الشعر والكلام للفقراء والمعذبين ،كان أفقه مزدحماً بلوركا ، والسياب في جيكور ، واحمد عبد المعطي حجازي في مدينة بلا قلب ، ورامبو وفقراء الغجر ،دون أن يبتعد عن واقعه المسكون ب محمد عبد الحي ،والفيتوري ، ومحي الدين فارس ، وعلي عبد القيوم ، ومحجوب شريف ، وحميد ، وآخرون...
لذا لم يتمالك نفسه أن يقتحم ذلك المنتدي السارح لحظتها في تقييم تجربة عقد الجلاد ،لحنا وتطريباً وشعراً ويفجر تلك اللحظة بذلك السؤال الأبدي الذي ما زال قائماً بشكل او آخر( في شاعر عندو سواق ) ونحن نشهد الان سائقي الشعراء والصحفيين والادباء في أزمنة الغفلة .
كان موضوع تلك الحلقة وفي ذلك المنتدي كما ذكرت مجهودات عقد الجلاد في إشعال عود ثقاب في ليل عتمة الانقاذ والذي ربما يبدد وحشة التاريخ في دروب البلاد الموحشة .
أدت فرقة عقد الجلاد (نورة) تلك الخالدة للشاعر حميد وكان من المفترض تناولها نقداً في تلك الظهيرة تطريباً و شعراً والي ماغيره من فنون الحكي الذي يلتزم همّ بني الانسان .
نهض عبد الله ابوقرون ذلك الشاعر الغنائي والقائد العسكري لحامية (واو) قرنتي في أوج الحرب العدمية بين الشمال والجنوب ،وبعد أن أن أستمع إلي نص (نورة) لحنا وشعرا وآداءً..
نورة شافت في رؤاها
طيرة تاكل في جناها
حيطة تتمطي وتفلق
في قفا الزول بناها
فسرت للناس رؤاها
قالو جنت وما براها
.،،،،،.،....،........
ويمضي النص الشاعري الغنائي
شايلة طولة البال من الله
............................
هنا إستأسد الشاعر الغنائي أبو قرون ولم يستطع لجم مشاعره (الجهادية) قائلاً (معقول يا اخوانا كيف يعني شايلة طول البال من الله )؟
كانت فرصتي هي التالية لمخاطبة وتفنيد رد فعل ذلك الشاعر الغنائي كما تهيأ لي لمشاعر ذلك الشاعر ،قلت أن إنسان وشاعر في حساسية ورهافة ورَقة حميد لا يمكن أن ينحدر بمعني الكلمة الي تلك المعاني الفجة التي عناها أبو قرون ، وإن رقة حميد لا يمكن أن تتجرأ علي معتقدات إنسان السودان أو غيره من سكان الكون ،وأن للشعر بلاغة وإستعارة ولبوس وحالات قصوي وحضور قد يتجاوز ذلك المرئي في أخيلة الناس العاديين وبما أن أبو قرون شاعر كلمة وتطريب عليه أن يعتذر .
ومضي ذلك المنتدي في تفاصيله في ذلك النهار الامدرماني القائظ .
وتشعبت المداخلات في حميمية لم يفسدها الدهر ولا أزمنة القهر .
في تلك التداعيات أذكر أن الشاعر الغنائي محمد بشير عتيق ذكر معاتباً المغنين أنه ذات ليل من هجيع أم درمان ،كان وأسرته يبيتون الطوي دون عشاء في حين كانت تشرخ آذانهم أغنيات هو شاعرها لأحد المغنين في حفل عرس بالجوار وقد تقاضي المغني ما لا يطرأ علي بال وقتها من مالٍ وعطايا .كان الكلام موجهاً للشاعر التيجاني حاج موسي والذي تم تعيينه وقتها مسؤولاًحكومياً عن المصنفات الأدبية ،وكان رد التيجاني أن ليس كل المغنين كذلك يا عم محمد بشير عتيق ،مستشهداً أن الكابلي كان يناوله مستحقاته كشاعر(في عز الليل ).
ومضي كل شئ بعادية في ذلك النهار علي أن يعاود المنتدي إنعقاده الاسبوع القادم في مكان ما من تلافيف هذه المدينة الحبلي منذ الأزل بمولودها القادم في ولادة الاعسار التي قال عنها المفكر الإيطالي غرامشي (هناك ماض يموت وميلاد قادم )
حينما إنطلقنا وعمر الدوش عقب تلك الظهيرة في أزقة تلك الحواري ،كان يلفنا الصمت والإلفة والفاقة ،وخوارزميات البحث عن وطن ليس للشعراء فيه سائقين ، وليس فيه هبات للشعراء ، كنّا نبحث عن كل شئ عدا الكراهية والتعالي كنّا نبحث عبر تلك الحواري عن وطن
بالفيه نتساوي
نحلم نقرا نتداوي
........................
الرحمة والمغفرة للذين مضوا وتركوا إحلامهم بوطن في قامة
ذلك الحلم ، ليس وطن المأفونين وتجار الحروب القادمين من كهوف التاريخ وسطوة فكر القبيلة.

 

آراء