في ذكرى صلاح أحمد إبراهيم

 


 

 


بسم اللَه الرحمن الرحيم

(الشعر من نفس الرحمن مقتبس         والشاعر الفّذ بين الناس رحمن       -       ع م العقاد.)

ازدهت مدينة الشارقة خلال نوفمبر الجاري بمعرض كتابها السنوي،وألفينا ما لذّ وطاب من مطبوعات جديدة، ومصنفات طال البحث عنها،وندوات ولقاءات ومهرجانات كاملة الدسم للآداب والثقافة. وفي هذا الخضم، التقاني الأستاذ الهادي أحمد إبراهيم وأهداني كتابين، أحدهما لشقيقه الراحل صلاح أحمد إبراهيم، مجموعة مقالات كان قد نشرها فى الفترة 1986-1990 بمجلة (اليوم السابع) بباريس بعنوان (أشخاص جديرون بالإحترام)،جمعت فى سفر بنفس العنوان صدر هذا العام - 2015؛ والآخر عبارة عن المساهمات النثرية والشعرية في رثاء الشاعر بعيد رحيله عنا فى مايو1993، جمعها المركز المسمّى بإسمه بأم درمان فى كتاب بعنوان "دمعة وفاء"، ومن بينها قصيدة نثرية كنت قد ساهمت بها آنئذ ونشرتها صحيفتا (الفجر) و(الخليج) الظبيانيتان، ثم طواها النسيان، إذ لم أقرض الشعر قبلها أو بعدها، ولكن النسيان لم يشمل صلاحاً وشعره الذي أزوره بين الفينة والأخرى - في دواوينه "غابة الآبنوس" و"غضبة الهبباي" و"نحن والردى" و"يا وطني"، فأروي الصدى وأستنشق الكلم الرصين وأدغدغ مشاعر الحنين لبلادي.

تصفحت "دمعة وفاء"، ووجدت مساهمتي "الروح الوثابة" بصفحة 143، فأثارت لدي شجون ومشاهد من صلاح كنت سعيد الحظ بها، وهما مرتان فقط قابلته خلالهما وجهاً لوجه؛ كانت الأولى في عام 1971 ونحن نعد ل"مؤتمر حركات التحرر الإفريقية"، بالتعاون بين "هيئة التضامن مع حركات التحرر الإفريقية" التي كنت أحد ناشطيها، ومعهد الدراسات الإضافية بجامعة الخرطوم الذي كان مديره بالإنابة فيصل بشير إمام؛ ولقد دعونا بعض الشخصيات الهامة بهذا المجال، وعلى رأسهم الراحلان علي المك وصلاح أحمد إبراهيم، وتكونت منهم لجنة دائمة للإعداد لذلك المؤتمر الذي استقطبنا له حزب المؤتمر من جنوب إفريقيا؛ وزابو وزانو من روديسيا؛ وفريليمو من موزمبيق؛ وحركة تحرير أنقولا MPLA؛ وحركة تحرير غينيا بيساو وجزر الرأس الأخضر...إلخ. ولقد تم اجتماع واحد لتلك اللجنة كان نجمه بلا منازع صلاح احمد إبراهيم، بمعلوماته الموسوعية عن إفريقيا، وخبرته السياسية والدبلوماسية الواسعة، ومعرفته اللصيقة بتلافيف حركة التحرر الوطني الإفريقية، وكنا أمامه كالتلاميذ في حضرةأستاذ فطحل يتدفق العلم منه شلالات لا تنضب. ولم يعرف  صلاح عني شيئاً غير كوني كادر ملتهب الحماس، من جناح عبد الخالق محجوب. ولم نستطع أن نعقد الإجتماع التالي للّجنة، إذ داهمتنا أحداث 19 يوليو ثم 22 يوليو 1971 التي بعثرتنا في كل وادٍ؛ وبالطبع ذهب المؤتمر المفترض أدراج الرياح.

والمرة الثانية والأخيرة التى قابلت فيها صلاحاً كانت بمحطة سكة حديد كنقز كروس بلندن فى نهاية ديسمبر 1979، إذ كنت عائداً لأدنبرة بعد عطلة الكريسماس، وكان صلاح كذلك راجعاً إلى باريس بعد زورة خاطفة للندن. وبالطبع عرفته على الفور وتقدمت نحوه ماداً يدي، واستقبلني هاشاً وباشاً كأنه يعرفني، رغم أنه حقيقة (ودّرني)، فذكرته بلجنة الإعداد للمؤتمر، فانفرجت أساريره أكثر، وأفاض فى الحديث عن الفرص المهدرة بالسودان، وتحسر على ذلك المؤتمر المجهض، كما تحسر على السودان الذى تقاذفته النوى – بين ثلة من العسكريين اليساريين المتطرفين الذين أرادوا أن ينفردوا بالأمر، دون أصدقائهم من فصائل القوى الثورية الأخرى، وثلة من القوميين العرب الذين انفردوا بالأمر بعد القضاء على الشيوعيين، ثم أصبحوا مطية تسلق فوقها مائق خب إسمه نميري ليصبح الدكتاتور الفرد، ويتخلص منهم واحداً واحداً. وحدثني عن معاناته في باريس، وكان ذلك قبل أن يلتحق بالسفارة القطرية مستشاراً ومترجماً، وقال إنه في ذلك الشتاء بالذات ظل يعيش على "ويكة بشرموط" أرسلتها له حرم صديقه على المك. بيد أني أعطيته عنواني هذه المرة، وما كاد يصل باريس حتى بعث إلي بطاقة بها أظرف وأرق وأنبل كلام مر علي منذ زمن طويل.

تذكرت ذلك عندما تناهي إلي نبأ وفاة المرحوم صلاح التى حدثت بباريس يوم 17 مايو 1993، وكنت وقتها ترجماناً بالمختبر الجنائي بشرطة أبو ظبي، فانسالت منى هذه الكلمات التى لا ترقى لمرتبة القصيد، وذلك بحر لم أخضه من قبل، ولكنها زفرة عفو الخاطر حاولت بها أن أثمن مواقف صلاح المنحازة للكادحين السودانيين، من خلال شعره ونثره الخالد على مر الدهور.                 عليه ألف رحمات من الله وبركات.

الروح الوثّابة

ياصلاح آه...يا صلاح آه...يا صلاح!

يا من أعجزت الربابة،

كيف نحلّق بعد اليوم...

وقد هوى منا جناح؟

...

دسّت إلينا ريح الشمال خبراً:

أراد صلاح أن يلحق بعلي... (1)

...

ران صمت خشن الملمس على أسراب العصافير

وجثا هام النخل منكسراً،

فمازال حمام الموت يحتطب... من أم درمان،

و لمّا ينجل.

...

دوّت حناجر الأبنوس في الغابة

وردّدت الفيافي:

صلاح لم يمت

ولكن تضامن،

علّه يستلّ الكآبة منا... قسراً،

بموقف عملي.

...

يا شقيق نفسي

وروح الشعب الوثّابة!

هدّ تك

حين تناهت إليك أحزاننا جهراً وسراً،

فمن مات حزناً كمن يُقتل.

...

أبا رسوة... (2)

هيبةً وجلالاً وثبات!

من رجع رجع زئيرك يهتز الطغاة،

وفي حق شعبك

تزدري أي تحريمٍ وتحليل.

...

يا غيمنا في هجير "الدرت"...

يا مبدّد الهم...

تمامة الكيف...

أخا البنات!

يا زادنا للشتاء والصيف...

ملك الحديث الطلي.

...

يا درة حبانا بها النيل...

ما حفظتها البلاد،

ولكن شعبك يحفظ الأبيات

عن ظهر قلب،

ولك في الفؤاد مقامٌ علِ.

...

(أرضعتني أمك الخضراء)

ودندنت في أذني حكايات مدهشات...

أنضجتني فوق نار "تقابة" (3)

علها تصنع مني شيئاً مثلكم...

فالواحد منكم بألف رجل.

...

و نشأنا سويّاً...

يالروعة ما شهدنا من معارك سامقات...

ماثل ذكرها إلى يوم القيامة

جيلاً بعد جيل.

...

ولا إخالك تعرفني بالإسم...

ولكنا فاصلتان في نفس الملحمة...

وتران في قيثارة

تمطر برداً وسلاماً عند المحل.

...

غير أني توشحت بالصمت كثيراً....

تجرّني خطوتان إلى الوراء،

فبعضنا يتغافل عن نواميس الكفاح

بدعوى الظرف المرحلي،

كأنه فرض كفاية...

قد تولّاه صلاح... ورهط من آل ياسر.

...

فإذا بصلاح قد تولّى

ذات صبح رمادي تهاوى فيه برج إيفل،

قبل أن ينضج الكرْم،

وفي النفس شروخ فاغره،

وفي القلب حسرة.

...

إيه أبا دماك! (4)

أما ترى ما يلفّنا من ظلام في عز النهار؟ (5)

غربت شمسنا عند الصباح....

لنقتات الركاكة من ثدي عقيم.

ماذا لو أمهلتنا لحظات...

حتى نزدرد المصيبة...

ونستعيد الجنان،

بعد ذهاب علي!

فما زلنا نفترش الثرى

ويقول شيوخنا إن الموت آتٍ آت؛

إذا بخدنه ينسلّ من وسطنا على حين غرّة...

ذلك البارّ الحنون... أخو الإخوان.

...

يا جبل الدائر (6)

يا كنزنا وملاذنا في المسغبة!

ما زلنا نفراً مسكيناً ذا متربه...

تُصنع من بقايا أضلعنا الحساءات...

لإخوان حتحوت

في الردهات (الفيحاء) بالعاصمة...

أتتركنا لأحفاد (الباشبزك) (7)

عصابات... عصابات؟

...

يا صنو البدر... كمالاً وبهاءً وسحراً...

يا منارة في الحي... سيرة وبياناً واقتداراً!

كيف تسللت خلف علي؟

هل تجاذبت روحاكما...

أم تراكضتما نحو الميس (8)

بحثا عن شليل...

والبقعة كلها في جوف تمساح؟ (9)

...

كيف بالله وجدت علياً...

وهل ضوّع الجلسة أبو داود

بمداميات فرح؟ (10)

...

يا أتراب الندى وأرباب القوافي...

هلاّ أدرتم من خمر الجنة ألف راح...

كما أدرتم في الناس المسرة!

واترعوا الكأس- لطفاً- حتى الحوافي

إذا جاء دور الشفيع...

ألم يتلقاكم بشوشاً وحفي؟

وراشد... رمّانة تلقى بظلها

على كل وفي.

هل جلجلّت ضحكته في الروابي السندسية...

وتلألأ الضوء من لدنّ هامته...

حتى بيوت الكادحين... وعياً وثبات جنان؟!

...

لقد تجاوزت حياتكم حدود العمر...

وها أنتم بيننا... عطاءاً وسخاءً وفكراً،

ومازالت الشرّد السائرات الملاح

يتواترن منكم... إلى جوف الخلود...

يتحدين ظرف الزمان.

...

إرفعوا اليوم ثلاثة أنخاب... لصلاح،

إني أراكم في قمة الأولمب جلوس...

إهتكوا رايات باخوس...

حتى الصباح،

وإلى أن تفرّ عصافير ألف عروس،

بعد أن تخيّروا منها- رجاءً- باقة مرمرية

لصلاح... فتى الفتيان،

ذلك أنه غرّة شعبنا،

ولأنه كان يعلم ما لا نعلم .... (11)

فقد جافاهن في الفرشات،

في تلك الظروف النضالية.

ما استساغت نفسه تفريخ ذرية،

والشعب نصفه تحت المقصلة....

ونصفه جوعان.

...

كان يقضي ليله محدقاً في الأنجم،

ينظمها عقوداً سرمدية...

ويعتصر أحشاءه خرائد من جمان،

ليهدهد ما لدينا من جراح...

فنحن في حزن مركّب طوال هذا القرن،

حتى تكسرت الرماح على الرماح.

ما أفقنا من وطأة الهكسوس...

حتى انقضّ أهلونا علينا،

مثل عود الفأس في الغابة،

وتقاذفنا موج لموج... بلا شطآن.

...

وذات ليلة هوميروسية داكنة

تقافز من بطن الحصان الخشبي

جيش أصفر البزّات والسحنة...

ما انفك يحشرنا بين ألف مطرقة

وألف سندان.

...

ما بين شهيد نجا من ألف داء مستوطنة،

لتفتك به مليشيا التتار...

وشهيد من فرط الأسى، مثل صلاح،

فجعته أخبار المساكين.

...

يا فلذة من كبد الشعب... وداعاً

فكلنا صلاح...

وهل يطوى الردى

من تناثر في وجدان أمة؟

...

اليوم نضال خفي مستتر...

وغداً يتفجّر البركان.

الهوامش:
1. علي: الراحل المقيم البروفيسور علي المك الذي اختطفته المنية قبل سبع أشهر من المرحوم صلاح.
2. أبو رسوة: الأسد (أب رسوه البكر... حجّر ورود سيتيت... كاتال في الخلا... وعقباً كريم في البيت).
3. نار التقابة: النار الضخمة المضرومة في فناء مدرسة القرآن التقليدية (الخلوة) بالسودان، إضاءة للتلاميذ ودفئاً من البرد، وعليها تنضج (البليلة)- غلة سودانية كالقمح تسمي الذرة، قوت الطلاب.
4. أبادماك: إله المعرفة في الحضارة المروية القديمة.
5. إشارة لرواية Darkness at Noon للكاتب الروسي المنشق آرثر كوستلر، التي صورت ظلام وظلم العهد الستاليني.
6. الدائر: جبل في كردفان بغرب السودان.
7. الباشبزك: الجنود المرتزقة بجيش محمد علي باشا الذين دمروا السودان ثم حكموا ما تبقى منه من 1822 إلى 1885م.
8. الميس وشليل: ألفاظ مستخدمة في لعبة مفضلة عند أطفال السودان في الليالي المقمرة على كثبان الرمل، حيث يقذف أحدهم العظمة بعيداً، ثم بنشدون "شليل وينو؟ شليل وين راح ؟ شاله التمساح." ثم يتسابقون بحثاً عن العظمة.
9. البقعة: أم درمان.
10. فرح: خليل فرح، فنان وشاعر السودان الأول، عاش ومات في شرخ الشباب بأم درمان في مطلع القرن العشرين.
11. إشارة لحديث المصطفى عليه الصلاة والسلام:

(لو تعلمون ما أعلم، لضحكتم قليلاً وبكيتم كثيراً ولجافيتم النساء في الفرشات وخرجتم إلى الصعدات تجأرون بالدعوة إلى الله.)

والسلام.

fdil.abbas@gmail.com

 

آراء