في مواجهة الزيادات الأخيرة: وعي الشعب أم قهر قيادات المعارضة ؟!

 


 

 


يحكى أن معلما يعمل فى عهد الإنقاذ بأحد المدارس الإبتدائية سأل تلاميذه فى حصة الحساب: "خمسة فى خمسة يطلع كم؟". أجاب أحد التلاميذ: "خمسة وثلاثين يا فندي". رد المعلم عليه: "شوف الحكاية دي.. فى زمنا كانت بخمس وعشرين!!". حكمتان يمكن إستخلاصهما من هذه الحكاية. الأولى أن التضخم و الزيادات التى تكاد أن تكون قد شملت كل شئ، منذ مجئ الإنقاذ الى الحكم، لا يستبعد مطلقا أن تشمل نتائج العمليات الحسابية البسيطة كذلك. أما الحكمة الثانية التى يمكن أن نستخلصها من هذه الحكاية فهى أنه إذا نجح حكم الإنقاذ خلال عقدين من الزمان فى تغيير ثوابت و قواعد المجتمع و الاقتصاد السودانى، فلماذا لا ينجح كذلك فى تغيير قواعد الحساب و الإحصاء؟!
هذا ما حدث بالفعل خلال سنوات حكم التوجه الحضارى الأولى. تلك السنوات الأكثر سوادا طيلة فترة حكم الانقاذ الكالحة، و التى كان يناشد المستشارون أثناءها ولاة الأمر الإستعانة بالجن لحل المشاكل التى تواجه الاقتصاد!! و إليكم بعض الأمثلة و النماذج لكيفية تلاعب قادة الانقاذ بقواعد الإحصاء و الحساب. هل تذكرون حينما بدأ النظام حملة "التأصيل"، التى كان يهدف من ورائها لإعادة صياغة الفرد و المجتمع السودانى، و أفرد لها وزارة مختصة أسماها و زارة التخطيط الإجتماعى، كان يتولى شئونها آنذاك نائب رئيس الجمهورية الحالى، ثم أسس مستشارية خاصة ل "التأصيل"، لا تزال تمارس عملها حتى وقتنا الراهن، تحت قيادة المستشار الحالى لشؤون التأصيل؟
قام النظام أثناء تلك الفترة بتغيير العملة من الجنيه السودانى، الذى أصبح أحد مكونات هويتنا الوطنية، كما الجنيه الإسترليني بالنسبة للبريطانيين، الذين رفضوا الإنضمام الى العملة الأوربية الموحدة(اليورو) حتى وقتنا الراهن، جزئيا لهذا السبب، بعملة أخرى أسموها الدينار. أعتقد حينها "أخصائيو" التأصيل أولائك بأن مسمى الدينار ربما أرجعهم الى عهد دولة الصحابة، لكن لا أعرف كيف فات عليهم أن النقود التى كانت سائدة فى ذلك الحين كانت تعرف بالدرهم، و ليس الدينار. على كل فقد قررت الحكومة أن الدينار الواحد يعادل عشرة جنيهات. حينها أصبح مسئولى الحكومة، بما فى ذلك رئيس الجمهورية، يتلاعبون بالأرقام عند توضيح أداء إقتصادهم للشعب، إن أضطروا لذلك. فمثلا حينما يتحدث وزير المالية عن زيادة فى سعر جالون البنزين يتحدث بلغة الدينار. أي إذا ما قرر الزيادة بنسبة 100% فى مستوى السعر، من عشرة جنيهات الى عشرين جنيها، يقول مخاطبا الشعب بأنه قد زاد سعر البنزين من دينار واحد الى إثنين. أما إذا أراد أن يشير الى عائد الصادر من سلعة معينة، و كانت الزيادة تعادل عشرة مليون دينار، فإنه لا يذكرها بالدينار و إنما بالجنيه،معبرا عن ذلك بأن إيرادات صادر تلك السلعة قد بلغ مائة مليون جنيه، على الرغم من أن الجنيه قد أصبح عملة غير مبرئة للذمة قانونا!!
سأكتفى بمثال آخر لأوضح نهج قادة الإنقاذ فى التلاعب بالأرقام و الإحصاءات لتضليل الشعب عن واقع الحال المرير الذى يواجهونه. يتحدث قادة الانقاذ، و مسئوليها الاقتصاديين بإستمرار بأن تقارير المنظمات و الهيئات الاقتصادية العالمية، كصندوق النقد الدولى، قد أوضحت أن نسبة النمو فى الدخل المحلى الاجمالى بلغت خانتين من الأرقام، قل(11%) على سبيل المثال، وقد أشادت تلك التقارير كذلك بأداء الاقتصاد السودانى، ثم يوجهون كل وسائل إعلامهم للعزف على هذه الاسطوانة المشروخة لخداع الشعب بأن هذا يعتبر من أكبر نسب النمو فى أفريقيا و العالم الثالث، هذا إن لم يكن على مستوى العالم كله.
لكن قادة الانقاذ يتعاملون دوما مع الحقائق الاقتصادية الماثلة بأسلوب لا تقربوا الصلاة فقط. وسأوضح ذلك بمثال بسيط وهو إنه إذا ما عرفنا أن نسبة التضخم فى الاقتصاد فى نفس تلك الفترة قد بلغت (15%)، على سبيل المثال، يصبح حينها معدل النمو الفعلى للاقتصاد بالسالب، وهو ما يعادل(-4%). هنا يتضح لنا بأن ما يتحدثون عنه هو معدل النمو الاسمى، و ليس معدل النمو الحقيقى، للاقتصاد، وهو الأهم فى مسائل إجراء التحليلات الاقتصادية و صياغة السياسات المتعلقة بها. إنهم يعرفون هذه الحقيقة تماما لكنهم يغضون الطرف عنها بصورة مقصودة حتى يتمادوا فى تضليل الشعب السودانى عن مسؤوليتهم المباشرة فى خلق الواقع المعيشى المزرى الذى تلمسه الجماهير على مدار الساعة.
يمكننا الآن النظر الى الزيادات الأخيرة التى أعلنها وزير المالية، و التى شملت سلعا ضرورية و إستراتيجية، كالبترول و السكر، على سبيل المثال لا الحصر، من زاويتين مختلفتين. الأولى زاوية علم الاقتصاد البحت، و أما الثانية فهى زاوية الواقع المر الذى نتج عنها. تشير أبجديات علم المالية العامة بأن إعداد أية ميزانية سنوية لأي دولة فى العالم يستند على إفتراضات معينة لجانبيها، وهي الإيرادات و المصروفات. الشرط الأساسي لأخذ هذه الافتراضات كأساس تبنى عليه تقديرات الميزانية هى أن تكون علمية، و منطقية، و تساعد على قراءة توقعات عام الميزانية القادم قراءة صحيحة ومتفق عليها بين خبراء إعداد سياسات الميزانية.
بناءا على ما تقدم يأتى إستفتاء الجنوب، و ما سيتمخض عنه من واقع سياسي و إقتصادي جديد، فى مقدمة إفتراضات الميزانية. كانت كل المؤشرات، ليس على مستوى جميع الدوائر الوطنية و الإقليمية و الدولية ذات العلاقة بالشأن السوداني فقط، و إنما على مستوى رجل الشارع العادى، تدل على أن نتيجة الإستفتاء ستكون لصالح الإنفصال و قيام دولة مستقلة فى الجنوب. هل يعقل بعد هذا أن يأتى رجل على مستوى وزير المالية ليقدم لنا ميزانية البلاد على إفتراض أن نتيجة الإستفتاء ستكون لصالح الوحدة؟ ليس هذا فحسب، بل هل يجوز لرجل فى موقع المسؤولية أن يبنى توقعات إيرادات الميزانية على أساس نفس نسبة دخل الحكومة من البترول حينما كان السودان دولة واحدة؟ أليس من العبث أن يقوم وزير المالية بإحداث تغيير جذرى فى سياسات الإيرادات التى إعتمدها فى قانون الميزانية، بعد خمسة أيام فقط من سريان ذلك القانون فى الأول من يناير من هذا العام؟
بدلا من أن يعلن وزير المالية إستقالته لفشله الذريع فى إعداد ميزانية تستند على إفتراضات تنبع من علم الإقتصاد و المالية العامة الذى يدرسه أي طالب فى الصف الثالث الجامعى، بدلا من ذلك، يأتى الينا وزير المالية، وبكل "قوة عين"، بإعلان سياسات جديدة تتضمن زيادات فى أسعار السلع الضرورية و البترول ليعوض به ما فقدته الميزانية من الدخل المتوقع من إيرادات البترول؟ بربكم "من أين جاء هذا النوع من الوزراء"؟ والى أي مدرسة إقتصادية ينتمون؟ أعتقد أنهم ينتمون الى مدرسة إفقار الشعب، ومص دمائه حتى الموت، و بكل السبل المتاحة!!
يفعل السيد الوزير كل هذا ثم يأتى، وبقوة عين يحسد عليها، ليخبرنا بأن الشعب السودانى يتمتع بالوعى الكافى ليتفهم دوافع هذه القرارات، التى لا تصدر إلا عن رجال لا تربطهم أي صلة بنبض الشارع السودانى العريض. ألم أقل لكم مرارا بأن قوة العين صنعة! أم إنها البجاحة فى أبهى صورها؟ أم أنه تبلد الأحاسيس و الشعور؟ أم أن "هؤلاء القوم" يعيشون فى كوكب آخر، أو دولة أخرى غير تلك التى يسكنها الغلابة من بنات و أبناء شعبنا؟ أم إنه الإستهبال السياسي الذى أصبح منهجا مميزا لجماعة التوجه الحضاري؟ إننى أعتقد أنه لو ترك أمر إعداد الميزانية العامة للبلاد لها العام لأي تاجر فى "سوق الله أكبر"، لقام بإنجازها بصورة واقعية و أفضل بكثير من تلك التى قدمها السيد الوزير!!
بعيدا عن لغة علم الإقتصاد و مناهجه، أود أن اقرر بأن ما إعتمده أخيرا السيد وزير المالية من قرارات نتج عنها زيادة كبيرة فى أسعار السلع الضرورية و البنزين تعتبر جريمة فى حق البسطاء و المساكين و الغلابة من بنات و أبناء الشعب السودانى، الذين يمضون جل يومهم فى السعى لتأمين قوتهم وقوت أبنائهم، و ليس أمامهم من موارد أخرى، كمخصصات الدستوريين، ليقابلوا بها توفير تلك الضروريات. جريمة يتوجب أن يعاقب عليها بموجب القانون، و بموجب أبجديات علم الإقتصاد كذلك!! كان من الأجدر، بل من الممكن أن يبدأ وزير المالية بتخفيض الصرف الحكومى البذخى غير الضرورى، بل المبالغ فيه فى الكثير من الأحيان، حتى يغطى العجز المتوقع فى الموازنة الذى سينتج عن فقدان البلاد لإيرادات البترول. لماذ لم يبدأ الوزير، على سبيل المثال، بتخفيض مخصصات شاغلى المناصب الدستورية، الذين يصعب حصرهم؟ و لماذا لم يقترح الوزير تسريح الجيش العرمرم من المستشارين الذين تعج بهم ردهات القصر الجمهورى و الوزارت و بقية الدواوين الحكومية، والذين لا يتم إستشارتهم حتى فى القضايا المصيرية التى تواجه الشعب و الوطن، بهدف خفض المنصرفات الحكومية؟
كان الأجدر لوزير المالية أن يحدثنا عن التدابير و الأساليب العنيفة التى إعتمدتها حكومته لتواجه بها كل من تسول له نفسه الإعتراض على هذه القرارات، ولو كان ذلك بالوسائل التى يكفلها القانون، بدلا من أن يتبجح لنا بوعى الشعب السودانى فى تفهم هذه الزيادات. بل كان الأجدر بالسيد الوزير أن يحدثنا عن وسائل القمع و القهر التى أعدوها لمواجهة قادة المعارضة، إن هم تجرأوا على حض جماهير أحزابهم للخروج فى مواكب و مسيرات للإحتجاج على تلك القرارات، وكانوا فى مقدمتها.
هذا ما كان من أمر الحكومة ووزير ماليتها، فماذا عن موقف قيادات أحزاب المعارضة؟ ما هذا الصمت المريب فى مواجهة جريمة كبرى إرتكبتها الحكومة فى حق الغلابة من السودانيين؟ هل نسيتم تاريخكم، و تاريخ أسلافكم المجيد فى مواجهة الطغاة المستبدين الذين لا يكترثون بمستوى حياة الغلابة و المساكين، و سبل كسب عيشهم؟ هل نسيتم أحقية شعبنا فى العيش الكريم على أرضه؟ بل هل نسيتم الهبة التى قمتم بها حينما أعلنت حكومة السيد الصادق المهدى زيادة فى أسعار السكر فى العام 1988، و هى حكومة منتخبة من قبل الشعب؟ إن هذا الصمت المطبق يدل فى ناحية منه على مدى فعالية أساليب الإرهاب و القهر و التنكيل بالمعارضين التى إتخذتها حكومة التوجه الحضارى كسياسة معتمدة فى هذا الشأن. و لكن من ناحية أخرى يدل هذا الصمت كذلك على عدم إستعداد هؤلاء القادة على نكران الذات و التضحية التى يتطلبها منهم الموقف الراهن، وحجم الجريمة التى إرتكبها "هؤلاء الناس" فى حق الشعب. هذا الموقف يفرض عليهم  تقدم صفوف الجماهير فى مثل هذه المحن و المنعرجات الخطيرة.
 أثبتت جميع التجارب التاريخية أن سخط الجماهير و هديرها، و مهما علا شأنه، لن يتحول الى فعل مؤثر إلا فى وجود قيادات منظمة و فاعلة. إن أكثر ما أخشاه هو أن تفتقد الهبة الجماهيرية القادمة، و التى لا أشك مطلقا وقوعها فى أي وقت، الى القيادات المجربة، و المحنكة، التى يفترض أن تقودها نحو الوجهة المطلوبة، وهى الإطاحة بهذا النظام الفاسد و المستبد. أؤكد لكم بأن أي غليان فى الشارع السودانى، وفى ظل غياب هذا النوع من القيادات، سوف يتحول الى أعمال شغب و تخريب، تشفى بها تلك الجماهير القدر البسيط من غلها، لكنها قطعا لن تقود الى إسقاط النظام. إن الإطاحة بالنظام تتطلب أول ما تتطلب قيادات شجاعة لا تهاب الموت فى سبيل الدفاع عن الحياة الحرة الكريمة للغلابة و المساكين من بنات و أبناء شعبنا. فأين يا ترى يوجد هذا النوع من القيادات لمواجهة هذا النظام الدموي، الإرهابي، المتجبر؟!

13/1/2011

Ibrahim Kursany [sheeba82@hotmail.com]

 

آراء