في وداع النورسين: القدال وعيسى الحلو

 


 

 

أذكر عبارة للروائي الكبير الطيب صالح في حوار صحفي أجرته معه جريدة "الصحافة" في بواكير الثمانينات - إن لم تخنِّي الذاكرة. سئل : ما تعريفك للكتابة؟ قال : (الكتابة تعويض عن الإحساس بالفقد.) ظللت لفترة طويلة ممسكاً بناصية هذه العبارة الموجزة والمتقنة. فالكتابة عند الكثيرين – وأنا منهم - رحلة لاستكشاف لغز الحياة والوجود. وهي في أحايين مناجاة الأنا للآخر الذي لا نعرفه ، محاولة منا لإشراكه في متعة البحث والإستكشاف.
بيد أنّ كيمياء الحرف كثيراً ما عجزت عن تركيب عبارة - دعك عن كتابة مقال أو قصيدة للتعويض بها عن إحساسنا بالفقد. عجزت عن كتابة كلمات أعبر بها عن وجعي القاسي بفقد أمي ذات يوم وأنا بعيد عن الدار والأهل. وظلت القصيدة في الجوف. لم تخرج إلى الوجود لتريحني ولم تذهب. وذات لحظة - لست أذكر إن كان غرة الصباح أم ظلمة الليل.. ذات يوم ، وبعد عشر سنوات من رحيل سيدتي الوالدة جاءت قصيدة (هنا أنتِ ، لم ترحلي).. كانت هي الدمع الذي حبسته لعشر سنوات، لأن الكتابة عجزت أن تعوضني عن الإحساس بالفقد ! وهذا يحدث عشية رحيل القدال ونهار رحيل الحلو.
في مساء الأحد وصباح الإثنين – 4 و5 يوليو الجاري، يرحل إثنان من النوارس إلى الدار التي لا ترقى إليها الأباطيل. يرحل شاعر الجماهير محمد طه القدّال وأمير القصة القصيرة والنقد الأدبي القاص والروائي والصحفي الكبير عيسى الحلو. يرحل القدّال مساء الأحد ، ولم نمسح الدمعة التي سالت حتى نعى الناعي رحيل عيسى الحلو صباح اليوم التالي.

تصلني ليلة رحيل القدّال رسائل عزاء ممن أعرف ومن لا أعرف. يعزيني في رسالة قصيرة شقيقي علي جمّاع - ويعزيني عبر الهاتف ياسر العوض ومحمد أبوحريبة وآخرون وأخريات. خففوا من وطأة الحزن في المنفى. لهم ولهنّ ألف شكر. هذا الشعب ملك من ناصية الوعي الكثير. عرفوا أنّ ما يجمعني بالقدال والحلو وآخرين هي محاولات التعبير عن هموم وآمال وأحلام شعبنا في هذا الوطن الحدادي مدادي. كل منا يعالج تلك الهموم من الزاوية التي يرى بها تجليات هذا الوجود.
جلست الساعات والساعات مع عيسى الحلو. تعلمت منه كيف يمكن أن تصغي وتتأمل وتقرأ .. ثم تكتب. كانت ابتسامته التي لا تغيب تخبيء خلفها غابات من الحزن الكثيف. لكن حفيد الحلو – أحد أمراء الثورة المهدية ، ذهب من الدنيا معدماً مثلما جاء إليها. بيد أنه ترك لنا ثروة في الكتابة تساوي فصلاً ضخماً في دفتر الإبداع السوداني. وجمعتني الحياة بشاعر الجماهير محمد طه القدال في أكثر من جلسة مترعة بالحكي. وجدت القدّال من جيل مسكون بالوطن وحبِّ إنسان هذا الوطن: محجوب شريف ، حميد ، عمر الطيب الدوش ، هاشم صديق ، أزهري محمد علي ، التجاني سعيد وآخرين – رحم الله من لبى منهم نداء الرحمن وأطال أعمار من هم بيننا في هذه الفانية.

غلبني الحزن عشية الأحد إذ رحل القدّال ، وصباح الإثنين إذ لحق به في الرحاب السماوية أستاذي عيسى الحلو. كان همي وأنا أتلقى العزاء فيهما بعيداً عن الوطن أن أصل عبر الهاتف رفيق قافية القدال - صديقه شاعر الثورة أزهري محمد علي الذي تشاء المقادير أن يكون ساعتئذ قرب إبنه ذرياب - المريض بفرنسا- شفاه الله. وتحدثت إلى أزهري. كنت أعزيه ويعزيني . كان يبكي بحرقة. أزهري الذي لا يتكلم كثيراً ، غلبه أن نواصل، فبكى.
هذا قضاء الله ، ولا تملك أمتنا التي احتسبت الشهداء الأبرار إلا الصبر على قضاء الله. اللهم أقبل القدال والحلو في جوارك واجزهما عن أمتهما الصابرة الصامدة خير الجزاء بما قدما لها من عصارة العمر ما يجعلها فخورة بهما على مر الأجيال.

خاتمة: شكراً لدولة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك وهو يتقدم المئات لاستقبال جثمان القدال لحظة وصول الطائرة الأميرية القطرية إلى مطار الخرطوم. هذه بادرة تحمد له وللرسميين الذين رافقوه. لكنّ الثقافة والمبدعين في بلادنا يا دولة الرئيس ينتظرون من حكومتكم اهتماما يليق بما ساهم ويساهم به المبدع في بناء صرح هذا الوطن . أرجو أن أكون قد أوضحت !

فضيلي جمّاع
لندن
6/7/2021

 

آراء