في وداع محرم عوض السيد الثائر على الفهم المتخلف للإسلام في جامعة الخرطوم 

 


 

 

انتقل فجر اليوم الجمعة 18 ديسمبر 2021 إلى جوار ربه الأستاذ محرم عوض السيد حسن، بعد حياة عامرة بالعلم والفكر والعمل. وُلد محرم بقرية الشاعديناب من أعمال الدامر بشمال السودان، في العام 1954. وانتقل بمعية أسرته إلى مدينة بورتسودان بشرق السودان، حيث نشأ، وتلقى تعليمه الابتدائي بمدرسة كمبوني فيها. بينما درس المرحلة المتوسطة والثانوية بمدينة عطبرة. ثم التحق بجامعة السودان المفتوحة وتخرج بدرجة البكالوريوس في قسم الإعلام والعلاقات العامة. كما نال الماجستير في قسم العلوم السياسية بكلية الدراسات الاقتصادية والاجتماعية، بجامعة الخرطوم، عام 1998م.  كما أنجز أطروحته للدكتوراه، وكان على وشك مناقشتها. عمل مديراً لإدارة الإعلام والعلاقات العامة بهيئة الموانئ البحرية، بمدينة بورتسودان، وأستاذاً للإعلام بقسم الإعلام، بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، بجامعة البحر الأحمر.


المدينة الثائرة  وتنسم محرم للفهم الجديد للإسلام


تنسم محرم الفكرة الجمهورية/ الفهم الجديد للإسلام في مكان نشأته بمدينة بورتسودان. وهي مدينة حُظيت بمكانة خاصة عند المفكر السوداني الإنساني محمود محمد طه، صاحب الفهم الجديد للإسلام، كما تكشف عن ذلك زيارته لها، ومحاضراته العديدة فيها. كما شهدت المدينة وقائع كبرى أرخت لمحطات مهمة في مسار الحركة الجمهورية، وفي تاريخ المدينة. فعندما عبَّرت هذه المدينة عن الثورة المنظمة للمهمشين والرفض لمظالم المركز والمطالبة بحقوقهم، حيث شهدت انعقاد مؤتمر البجة/ البجا خلال الفترة (11- 13) أكتوبر 1958، كان محمود محمد طه من أوائل الذين كتبوا عنه، إن لم يكن أولهم. فقد نشر في 18 أكتوبر 1958 مقالاً بصحيفة أنباء السودان، تناول فيه مؤتمر البجة/ البجا، قائلاً: "أنا من الداعين للاتحادات الفدرالية لجميع مناطق السودان"، ونادى بإعطاء أهل الأقاليم من الحقوق، فوق ما جاء في توصيات ومطالب مؤتمر البجة/ البجا، لأنه، كما قال، "ولست أرى في مطالب مؤتمر البجة [البجا] ما يعين على حل المشاكل القائمة في منطقتهم"، وإن حل مشاكلهم، كما هو الحال في الجنوب والغرب، تتم بإقامة الحكم الذاتي لجميع أقاليم السودان، ومنح أبناء تلك المناطق الفرصة كاملة لإدارة شؤون مناطقهم. (للمزيد أنظر عبدالله الفكي البشير، محمود محمد طه وقضايا التهميش في السودان، دار باركود للنشر، الخرطوم 2021).

كما ارتبطت مدينة بورتسودان، بالكثير من الوقائع والمحطات والمهمة في مسيرة الحركة الجمهورية، وفي تاريخ المدنية، وقد فصلنا ذلك في كتابنا: الذكرى الخمسون للحكم بردة محمود محمد طه: الوقائع والمؤامرات والمواقف، دار باكود للنشر، الخرطوم، 2020.

نشأ محرم في هذه المدينة الثائرة، ومن ميادينها، وفي شوارعها، وتحت سمائها، تنسم الفهم الجديد للإسلام، وأصبح جمهورياً من تلاميذ محمود محمد طه، فأمتزج الفكر الثوري مع المكان، فتجلت ثورية محرم، حينما قدم دارساً لدرجة الماجستير بجامعة الخرطوم، ولم يكن يدري بأن جامعة الخرطوم، كانت، ولا تزال، ثورة مضادة للفهم الجديد للإسلام.


محرم يُعبر عن ثوريته عبر قناعاته الفكرية وجامعة الخرطوم تمثل ثورة مضادة

نكبة جامعة الخرطوم المؤسفة


سأورد قصة مؤسفة حدثت مع محرم في جامعة الخرطوم، أثناء امتحانه لنيل درجة الماجستير. فالقصة تُعبر بفصاحة عن حاجتنا للثورة الشاملة من أجل إحداث التغيير الجذري، كما تؤكد القصة بأن ثورة ديسمبر المجيدة التي نشهدها الآن، ليست ثورة على نظام الإنقاذ فحسب، وإنما ثورة على السائد والمألوف وعلى المنظومة المعرفية، تستوي في ذلك مؤسسات التعليم وهياكل الدولة الموروثة من الحقبة الاستعمارية. وهي أيضاً ليست ثورة على الإسلام السياسي، فحسب، وإنما ثورة على الفهم المتخلف للإسلام، الأمر الذي نجده متمكناً في عقول الكثير من القادة، ومكيفي الرأي العام، ومتمكناً كذلك في المؤسسات التعلمية، ولم تكن جامعة الخرطوم استثناءً في ذلك.

لقد سبق وأن جاءت هذه القصة في كتابنا: صاحب الفهم الجديد للإسلام محمود محمد طه والمثقفون: قراءة في المواقف وتزوير التاريخ، دار رؤية للنشر، 2013، في الصفحات: 823- 828. وقد نُشرت في الكتاب بموافقة محرم. وكنت قد أجريت معه العديد من المقابلات في شهر يناير 2013، كما هي مفصلة في الكتاب. وأنشر القصة الآن كما جاءت في الكتاب.


رسوب الأكاديميا السودانية في امتحان الأستاذ محمود

حينما يتلاشى مبدأ إظهار الحقيقة ونشرها


وصلت أثناء رحلة البحث والتنقيب من أجل هذا الكتاب [صاحب الفهم الجديد للإسلام محمود محمد طه والمثقفون: قراءة في المواقف وتزوير التاريخ]، إلى رسالة ماجستير موسومة بـ: التطورات الدستورية لنظام مايو 1969م-1985م، قدمها محرم عوض السيد حسن، في قسم العلوم السياسية، كلية الدراسات الاقتصادية والاجتماعية، بجامعة الخرطوم، في العام 1998م، وكانت بإشراف البروفيسور محمد نوري الأمين. قادتني هذه الرسالة إلى الوقوف على ما يؤكد صحة ما أزعمه في موقف الأكاديميا السودانية من الأستاذ محمود، ليس في عدم الإشارة للأستاذ محمود وكتاباته فحسب؛ وإنما في صنوف العمد في السعي لتغييبه وتجاهله. فالتغييب والتجاهل رسوب في امتحان إظهار الحقيقة ونشرها ومن ثم تزوير في تاريخه واستمرار في تشويه سيرته. غني عن القول إن السعي من الأكاديمي والهيئة الأكاديمية إلى التغييب والتجاهل، هو أمر يجافي الأخلاق العلمية والمسؤولية في مبدأ اظهار الحقيقة ونشرها. قبل الإجابة على السؤال الذي يفرض نفسه في هذا الموقف وهو: كيف قادتني هذه الرسالة لتأكيد صحة ما أزعم تجاه الأكاديميا السودانية؟ أقف على ما تناولته رسالة الماجستير من موضوعات، وما هو موقفها من الأستاذ محمود، خاصة وأن الأستاذ محمود كان حاضراً في الموضوعات والأحداث التي تناولتها. لقد لاحظت أن الرسالة تناولت موضوعات تعد من أهم الموضوعات التي كتب عنها الأستاذ محمود وتلاميذه، وبرغم ذلك لم تناقش ولم تورد آراء الأستاذ محمود، فقد تناولت الرسالة: تعريف الدستور والنظام الإسلامي والدستور الإسلامي، والقوانين الإسلامية وتأثيرها على القواعد الدستورية، والحركة الإسلامية في السودان، وأثر القوانين الإسلامية... إلخ. وهذه من أهم الموضوعات التي كتب عنها الأستاذ محمود وتلاميذه. فقد درست الرسالة هذه الموضوعات وغيرها من خلال ستة فصول، فقد تناول الفصل الأول: " التطورات الدستورية لنظام مايو"، والفصل الثاني: "كتابة الدستور الدائم لعام 1973م"، ووقف الفصل الثالث على: "التطورات التشريعية في فترة مايو"، والفصل الرابع على: "التطورات الدستورية في مجال الحكم المحلي"، وعالج الفصل الخامس: "القوانين الإسلامية وتأثيرها على القواعد الدستورية"، والفصل السادس تناول: "إعلان القوانين الإسلامية (1983م)"، أما الفصل السابع فقد تناول: "أثر القوانين الإسلامية"، والفصل الثامن وهو الأخير فقد تناول: "معارضة القوانين الإسلامية (سبتمبر 1983م)". هذه الرسالة ومن خلال ما عالجته من موضوعات ونسبة لكثرة ما كتبه الأستاذ محمود والإخوان الجمهوريون في هذه الموضوعات، فإنه من الناحية العلمية ليست هناك فرصة في أن تتجاوز الأستاذ محمود وتتجاوز كتاباته ومواقفه. غير أن الرسالة تجاوزته وتجاوزت كتاباته وكتابة الإخوان الجمهوريين ولم تأتِ إلا بكتاب واحد هو: لماذا نؤيد ثورة مايو. معلوم كما ورد آنفاً أن الأستاذ محمود كتب ونشر باكراً وكثيراً عن الدستور والقوانين الإسلامية ...إلخ. كما أن الفصل الأخير من الرسالة والذي تناول معارضة القوانين الإسلامية، فغني عن القول أن الأستاذ محمود وتلاميذه كانوا أكثر المعارضين للقوانين المسماة إسلامية من غير وجه حق (كما هو دأب الأستاذ محمود وتلاميذه في نعتها)، إلى جانب أن الأستاذ محمود حكم عليه بالردة عن الإسلام وأعدم في ظل تلك القوانين الإسلامية، والإسلام منها براء.

الآن إلى الإجابة على السؤال الذي ورد آنفاً، كيف قادتني رسالة الماجستير هذه إلى تأكيد صحة ما أزعم، وهو أن الأكاديميا السودانية في موقفها من الأستاذ محمود لم تقف عند حدود عدم الإشارة إليه فحسب؛ وإنما سعت سعياً متعمداً إلى تغييبه وتجاهله. لم أكن أعلم أن الطالب (آنئذ) محرم عوض السيد حسن الذي أعد رسالة الماجستير هو من تلاميذ الأستاذ محمود، وحينما علمت [من الأستاذ عيسى إبراهيم] أنه من الجمهوريين، زادت دهشتي واستغرابي، فسعيت إلى الوصول للطالب. وبالفعل وصلت إلي الطالب وأجريت معه مقابلة مطولة. سألته عن رسالته للماجستير وكيف أنها تناولت موضوعات تتصل بشكل مباشر بكتابات وآراء الأستاذ محمود ومواقفه، وبرغم ذلك لم تتضمن مناقشة لآراء الأستاذ محمود أو إشارة لكتاباته؟ كما تناولت الرسالة القوانين التي حكم في ظلها على الأستاذ محمود بالردة عن الإسلام وتم تنفيذ حكم الإعدام عليه، وبرغم ذلك لم تتناول الرسالة مواقف الأستاذ محمود وآراءه. حكى لي الطالب (آنئذ) محرم عوض السيد حسن عن قصة رسالته للماجستير بتفصيل، فأفادني أولاً بأن هيئة رسالته للماجستير لم تكن على ما هي عليه الآن. فالنسخة الحالية هي نسخة ثانية. فقد كانت الرسالة في بادئ الأمر متناولة للعديد من آراء الأستاذ محمود ومواقفه من الدستور الإسلامي، وتحدثت الرسالة عن نقد الأستاذ محمود للدستور الإسلامي، وناقشت الرسالة الكثير من أطروحات الأستاذ محمود وهي تناقش تعريف الدستور، والنظام الإسلامي والدستور الإسلامي، والقوانين الإسلامية وتأثيرها على القواعد الدستورية، والحركة الإسلامية في السودان، وأثر القوانين الإسلامية... إلخ. وكان كل ذلك بدعم وسند من المشرف محمد نوري الأمين. أيضاً كان الإهداء في الرسالة ليس كما هو عليه الآن. وأضاف محرم عوض السيد حسن قائلاً: إنني كتبت في النسخة الأولى إهداءً مختلفاً عما هو عليه الإهداء في النسخة الحالية، والتي نلت بموجبها درجة الماجستير، لقد كتبت في النسخة الأولى النص التالي، ثم تلا لي محرم عوض السيد حسن نص الإهداء، يقول محرم في إهداء رسالته:

إهداء

إنما يهدي هذا العمل المتواضع إلى شهيد الفكر.

والدي العزيز

الأستاذ محمود محمد طه

"والذي بذل روحه فداءً لهذا الشعب العظيم في عهد عدم التسامح الديني وقد كانت آخر عباراته (اللهم أغفر لهم فإنهم لا يعلمون)".


فما الذي حدث؟ الذي حدث هو أن الطالب أنجز رسالته للماجستير وجاء في يوم المناقشة. معلوم أن جامعة الخرطوم تأخذ بنظام المناقشات المغلقة للرسائل الجامعية (الماجستير والدكتوراة)، إذ لا يكون في القاعة سوى الطالب والمشرف والممتحن الداخلي والممتحن الخارجي. حضر الطالب محرم عوض السيد حسن، والمشرف محمد نوري الأمين، وكان الممتحن الداخلي محمد عثمان أبو ساق، والممتحن الخارجي عون الشريف قاسم (1933م-2006م). ومنذ الوهلة الأولى عبر عون الشريف وهو الممتحن الخارجي عن اختلافه وعدم اتفاقه مع الطالب وكذلك الممتحن الداخلي، في ما أورده الطالب من آراء ومواقف للأستاذ محمود وفي ما قدمه من حجج وبراهين، واختلف عون الشريف مع الطالب حتى في نص الإهداء. واجه الطالب هذا الاختلاف مع آرائه والرفض لما قدمه من حجج وبراهين، من قبل الممتحنين الخارجي والداخلي، ولكنه لم يستطع اقناعهما. تشاور الطالب محرم والمشرف محمد نوري الأمين والذي كان مسانداً للطالب، ولكن الأمر الواقع هو أن هناك ممتحناً خارجياً وداخلياً غير مقتنعين. لم يكن أمام الطالب (إن أراد نيل درجة الماجستير)، سوى إعادة كتابة الرسالة وتعديل بعض محاورها والآراء الواردة فيها، وإلغاء وحذف الأجزاء التي أشار إليها الممتحنان الخارجي والداخلي، بما في ذلك الإهداء المشار إليه أعلاه، حتى يستطيع اقناعهما. الشاهد هذا ما حدث، أعاد الطالب كتابة الرسالة وقام بإلغاء الأجزاء المختلف والمتحفظ عليها، وحذف نص الإهداء للأستاذ محمود، وكتب إهداءً آخر كان لوالديه، ومن ثم تمت إجازة الرسالة ومنح الطالب درجة الماجستير. ماذا نسمي هذا؟ أين أهم مبادىء الأكاديمية، وهو مبدأ إظهار الحقيقة ونشرها؟ أين الأخلاق العلمية؟ أين الشرف المهني؟ ما هو أنسب وصف يمكن أن نطلقه على هذه الحالة؟ أليس في هذا نموذج ناصع على انحراف الأكاديميا السودانية عن أهم المبادئ الأكاديمية، وهو مبدأ إظهار الحقيقة ونشرها. أليس هذا تماهياً مع الفقهاء وتبنياً لموقفهم من الأستاذ محمود؟ الشاهد أن الغرض الأساسي من كتابي هذا هو محاولة الإجابة عن هذه الأسئلة، والمساهمة في دراسة مواقف الأكاديميا السودانية من الأستاذ محمود بما يخدم شرف السجال، والوعي بموضوع الأستاذ محمود، والتنوير بحقيقة المواقف من مبدأ إظهار الحقيقة ونشرها، والسعي لتفكيك رموز الأزمات وأبعادها من أجل أن ندخل على المستقبل بمعاني الورع العلمي وقيم الأخلاق والعدل والحرية.

الشاهد أن هذا الإغفال والسعي لتغييب الأستاذ محمود وتجاهله لا تكتمل صورته إلا بالوقوف على كتب مؤرخي الحركة الوطنية السودانية، ودراسة كيفية معالجة المؤرخين لدور الأستاذ محمود في الحركة الوطنية. ولعل دراسة كتب مؤرخي الحركة الوطنية لا تكتمل صورتها إلا بدراسة مذكرات معاصري الأستاذ محمود، باعتبار أن المذكرات مصدر تاريخي مهم، فكيفية معالجة تلك المذكرات لدور الأستاذ محمود في الحركة الوطنية يسهم في دراسة أبعاد هذا التجاهل والإغفال. لقد خصصت الفصل السادس عشر من هذا الكتاب لدراسة موضوع: "الأستاذ محمود في مذكرات معاصريه". كذلك لا تكتمل صورة موضوع الأستاذ محمود والأكاديميا السودانية إلا بالوقوف كذلك على إصدارات الأكاديميين في العلوم السياسية والفكر الإسلامي وغيرها من المجالات التي كان للأستاذ محمود فيها حضور قوي وأصيل وباكر. وهذا ما سأتناوله في الفصل القادم وهو بعنوان: "الأستاذ محمود والأكاديميا السودانية: دراسة في نماذج من كتب المؤرخين والأكاديميين". (للمزيد أنظر: عبدالله الفكي البشير، صاحب الفهم الجديد للإسلام محمود محمد طه والمثقفون: قراءة في المواقف وتزوير التاريخ، مرجع سابق).



abdallaelbashir@gmail.com

 

آراء