قالوا النور فتّح

 


 

 

أقاصي الدنيا 
 محمد محمد خير
 Suadninexile195@hotmail.com
 ظلماء الليلة دكناء

وعلى كتفي عباءة هم خرقاء
لكن الموعد قد حانا
(النور عثمان أبكر ـ صحو الكلمات المنسية)
كانت الأيام الماضية أيام الأحزان الكبيرة، الأحزان ذات الوزن الراجح من الكآبة والقنوط والطعم المر، كانت الافتتاحية رحيل صديقنا وأستاذنا حسن ساتي الذي رافقت المباغتة رحيله فقد كان في أتم عنفوان القلم وفي كامل صحة العبارة وكأحسن ما يكون الجليس.
لم أخرج من غيبوبة رحيله إلا الأسابيع الماضية حين باغتني رحيل آخر ، سليمان محجوب ذلك النحيل الذي يسمونه (المسكون). كان عبقرية استثنائية وفلسفة شعبية تنعقد على العقلانية واللامبالاة الصوفية والتفكير الراشد، المال العريض والزهد الأعرض، البساطة الشديدة والفخامة كلها.
كان سليمان محجوب بطلاً لرواية وهو يعيش الواقع مثل مصطفى سعيد وزوربا وهاملت لا بل مثل سيد سيد الرحيمي بطل نجيب محفوظ الفلسفي. أحزنني حزناً عصفني وهدني وخلخلني حتى دويت دوياً.
لم أستفق من هذا الدوار واستغفر الله حتى دخل الحزن من جديد (حوشي) من بابه الرئيسي النور عثمان أبكر في غيبوبة منذ 10 أيام. تلقيت هذا الخبر من شقيقتي وهذا ما يكشف سر العلاقة بيني وبين (أبوي النور) الذي رباني أدبياً نيابة عن والدي الذي كان لا يجيد الكتابة.
على كثرة علاتي وعثراتي وأخطائي وقلة حيلتي إلا أن الإشراق الضئيل الذي ربما يعنّ لمتابعي يعود إلى فضل النور عليّ . بدأت تلك الأبوة في مستهل السبعينات بعد أن أصدر النور ديوانه الأول (صحو الكلمات المنسية) ولم أكن وحدي كان لي إخواناً في الرضاعة التي شملت حسن أبوكدوك وعثمان علي الفكي وعالم عباس الذي كان يميزه (أبوي النور) علينا دون أن نشعر بالغيرة فنصبح كأخوة يوسف الذين اتحدوا ضد دمع أبيهم. ما أحلى تلك الأيام وما أعذب استدعاءها عطفاً على نانجها الشعري وامتداداً لنظرة النور لعالم فهو (الأشعر منا جميعاً)  لأنه في الأصل شهيد الشعر الذي كان أول قتلاه بيد أنه ما زال حياً !
جدد النور القصيدة السودانية وأكسبها غنائية فوق طاقتها فنضجت عذوبة وفاضت جمالية وظلت قصيدته رغم غموضها الفتان بالغة الوضوح وتميز بين مجايليه أن الشعر عنده مشروع وليس انفعالاً وقتياً بلحظة ما فكل مجموعاته الشعرية إضافات متوالية لهذا المشروع.
بعد النبأ المسموم الذي تلقيته من شقيقتي ظللت أبحث عن وسيلة رقمية تيسر لي صوت التشكيلي عصام عبد الحفيظ صهر النور ومصهر الرسم، حتى عثرت على الضالة وكان الصوت مهموماً. عصام عبد الحفيظ أيضاً ولدنه لكنه زوج ابنته ووالد أحفاده انضم لتلك الأبوة بعد أن كبرنا وكمبر عالم وصار عصياً على الأبوة بعد أن اكتشف أمومة النص !
ظللت أتابع مع عصام تداعيات الحالة الحرجة التي يمر بها جسد النور من دم وقلب وسكر ولم يكن كلامه يبعث الشجو كما تقول مفردة النور الشعبية التي كان (الشجو) مائزها و(البوح) باعثها الأول فظللت أتمرّغ في حزني.
صباح أول من أمس اتصلت بشقيقتي كعادتي لأرصد الأحوال في قلب البيت فقالت لي بنبرة شجية (قالوا النور فتح) !
نهنهني هذا الخبر وأنعش كل الخلايا حتى امتد لأقواس أظافري. إنه النور يصحو وتصحو معه الكلمات المنسية. وأسعدني أنني تحدثت لمارغريت ولكريمته إيزيس وماجدولين وهو بينهن في الدوحة لكنه لا يتكلم.
الله نرفع الدعاء ضارعين أن يعود النور بكامل هيئة مفردته الأنيقة وخطابه الشامخ إنك مجيب لضراعات المحبين.
* نشرت بصحيفة (الأحداث).
 

 

آراء