” قبر” …. الزاكى طمل !!

 


 

عدنان زاهر
24 January, 2021

 

 

حينما كنت صغيرا و أنا أمر بذلك الضريح المجسد فى شكل مربع ، وشيد حوله مرتفع صغير من الطوب البلدى و فى جانب منه تنتصب بعض الاعلام الملونه، و يزوره بعض الأشخاص الذين تدل هيئتهم انه أتوا من مناطق بعيدة لتنظيفه و تشذيب أطرافه ....يمكثون به لعدة ساعات ثم يغادرون بعد تركهم أشياء مثل البلح، العيش...الخ على سبيل التصدق....كنت أتساءل على الدوام من يرقد فى ذلك القبر و الذى يحظى بكل ذلك الاحترام و التقدير و الذى فى مظهره يرتقى لمرتبة التقديس ؟!
هذا الضريح كان يقع فى الموقع الذى تقف عليه كلية " القرآن الكريم " حاليا من ناحية الشرق، و بالقرب من شارع النيل. نمت بقرب الضريح شجرة " لالوب " تظلله، كنا نأتى اليها و نحن صغارا للتزود من ثمرها ابان نضجه..... تمت أزالة الشجرة أيضا مع الضريح الشاهد.
بعض من أهالى الحى كبار السن و الذين عاصرناهم، كانوا يقولون ان هذا قبر " الزاكى طمل " و يضيفون ان هذه المعلومة مستمدة من ابائهم و اجدادهم الذين عاصروا فترة المهدية ! .....لا أحد يؤكد هذه المعلومة من المؤرخين.... و لكن لنستعرض سيرة هذا القائد فى محطات تمهيدا لما نريد ايصاله من رأى.
من هو الزاكى طمل ؟ و كيف و لماذا تجاهلت معلومة " القبر " تلك طيلة عهود ما بعد الاستقلال ؟! و لماذا ازيل القبر قبل التحقق من المعلومة و تشيد بناء آخر فى مكانه ؟!
تقول كتب التاريخ أن الزاكى طمل هو أحد قواد المهدية الأفذاذ الذين أعتمد عليهم الخليفة عبدالله التعايشى فى تحقيق انتصاراته الخارجية و فى بعض الأحيان استخدمه الخليفة فى القضاء على بعض معارضى حكمه المحليين ،و هو ينتسب الى قبيلة التعايشة.. قبيلة الخليفة.
يقول نعوم شقير فى وصفه فى كتابه الموسوم ( جغرافية و تاريخ السودان )
( كان رجلا جبارا عبوس طويل القامة ،قليل اللحم متماسك البدن أسمر اللون جدا خفيف اللحية طويل الشاربين و نقش خاتمه يقول " وفق لأحسن العمل عبدك الزاكى طمل " )
تسلم الزاكى طمل القيادة بعد موت القائد حمدان أبو عنجة و هزم الأحباش فى معركة القلابات فى 9 مارس 1889 و التى مات فيها ملك الحبش " يوحنا " متأثر بجراحه ، كما أرسله الخليفة لمحاربة الشلك لرفض حاكمهم مد الخليفة بالحبوب ابان مجاعة سنة ستة ( 1306 – 1888 )، فانتصر عليهم و قام بقتل حاكمهم .
كان ينازعه فى قيادة جيوش الشرق أحمد على وهو من أخص رجال الخليفة التعايشى 1 ، و حذ فى نفس أحمد على أن يكون الزاكى طمل هو القائد المفضل و المقرب الى الخليفة. تآمر أحمد مع القاضى أحمد بدين وبمساندة من الأمير يعقوب و كانوا يعتقدون أن بزوغ نجم الزاكى تهديدا لمكانتهم. وشوا الى الخليفة بان الزاكى يتآمر سرا مع الأحباش لتسليمهم القضارف .الخليفة من جانبه أيضا كان يخشى أن ينافسه أحد فى الحكم خاصة بعد ذيوع شهرة الزاكى وسط العامة بشجاعته و أمواله الضخمة التى جمعها و هو فى الشرق.
أمر الخليفة أن يقدم الزاكى الى محكمة برئاسة القاضى أحمد بدين...... أدلى الشهود فيها بشهادتهم زورا بصحة ما نسب اليه من تهم، فاودع سجن السائر لتنفذ عليه عقوبة الموت " صبرا " 2 ، و ذلك كان يعنى أن يمنع السجين من الطعام حتى يقضى نحبه.....فمات جوعا فى 16 سبتمبر 1893 .للمفارقة المدهشة أن القاضى أحمد بدين الذى اتهم دوما فى ذمته المالية قد تم التآمر عليه، و قبض عليه متلبسا بالرشوة و حكم عليه بالموت " صبرا " فى نفس الغرفة التى سجن و قتل فيها الزاكى طمل !!!
بعد القبض على الزاكى و محاكمته و لكى يبرر الخليفة موقفه أمام أهله التعايشة، فقد كتب للامير محمود ود أحمد عامله فى دارفور متهما الزاكى بالجنون " ان به عارضا " .....ثم بعد موته كتب اليه أيضا (بأنه هلك فى السجن على صفة فظيعة و حالة شنيعة و انه بمجرد خروج روحه اشتعلت النار فى جسمه و أسود وجهه و العياذ بالله )!!!!!!
من وقائع أحداث التاريخ التى قمنا بسردها أعلاه، فلا أحد يستطيع أن ينكر دور الزاكى طمل فى المشاركة فى صناعة تاريخ المهدية فهو القائد الوحيد الذى أحرز انتصارا فى حروب الثورة المهدية خارج السودان، فى حروب الشرق مع الحبشة و من ثم استتباب الأمن فى الشرق.رجل بهذا التاريخ الحافل لا يمكن تجاهله و شطبه من قائمة التاريخ السودانى.هنا يبرز سؤال عفوى لماذا لم تبحث الجهة التى ينتمى اليها الزاكى عن صحة المعلومة و ضريحه لا يبعد كثيرا عن قبة الامام المهدى و سجن الساير ؟!
لماذا لم تتحقق الجهات المناط بها حفظ تاريخ الأمة من المعلومة ؟!
بالطبع أنا أفهم موقف حكام الأنقاذ فى ازالتهم لقبر الزاكى و اقامة مبنى آخر عليها، فهم لا يؤمنون بغير التاريخ الاسلامى الذى يوافق رؤيتهم، كما يعملون بمخطط على محو أثار التراث غير الأسلامى ناهيك عن التاريخ المسيحى فى السودان.
عندما أستلموا السلطة أزالوا التماثيل التاريخية بحجة (نحت التماثيل على شكل الأنسان حرام لأنه يجعل الأنسان فى مرتبة الخالق ) ! نفس النهج الطالبانى الذى قام بتدمير تمثال بوذا فى افغانستان.....كما عملوا على هدم الأضرحة - متى ما كان ذلك متيسرا لهم - و منع زيارتها باعتبار زائرها به مسحة من شرك !!!
عدم الأهتمام من جانب انصار الزاكى يثير كثير من التساءلات...... و أهمها هل التحقق من معلومة قبر الزاكى يثير المخاوف من أن يؤدى ذلك الى نبش تاريخ تلك الفترة الملئ بارتكاب التجاوزات غير الانسانية ؟!!!
القضية فى اطارها العام هى ضرورة الأهتمام بالأشخاص الذين ساهموا فى مسيرة الشعب السودانى و ضحوا بحياتهم...... منحهم ما يستحقون من تقدير،.....تلك قائمة طويلة و لكن فى تاريحنا المعاصر تبدأ منذ ثورة 24 و تنتهى بثوار ديسمبر 2019.
كل شعوب العالم تحرص على حفظ و توثيق ماضيها للاستفادة و التعلم منه و اكتساب التجارب.... ان التاريخ هو ذاكرة الأمة .....و كما يقولون أمة بلا تاريخ لا مستقبل لها .

1- نعوم شقير – جغرافية و تاريخ السودان
2- محمد عبد الخالق بكري – سيرة الأعدام السياسى فى السودان ( 1821 – 1889 )

عدنان زاهر


elsadati2008@gmail.com
////////////////////

 

آراء