قبل أن يُسدل الستار
عز الدين صغيرون
24 May, 2023
24 May, 2023
بكلمة واحدة:
لا البرهان متكئاً على حيطة الفلول المائلة يستطيع أن يحكم السودان.
ولا حميدتي مستنداً على عصبيته القبلية يستطيع !!.
وبالتالي، ولا الفلول ... وقحت !!!.
فقد خسر الجميع، بما يفتح باب النجاح.
16
لو أن المرء تأمل المشهد من مسافة تتيح له رؤية الغابة بكليتها، دون أن يغرق في متاهة تفاصيلها الداخلية من أشجار وحشائش. يستطيع أن يرى بأن المسافة بين البرهان كقائد على رأس المؤسسة العسكرية وبين حميدتي كقائد لقوات الدعم السريع ليست كبيرة، والفجوة بينهما ليست بالعمق الذي لا يمكن ردمه سوى بالحرب.
فالحرب ليست في مصلحة أي منهما. كما أنها ليست في مصلحة قواهما المسلحة لأنها لا تضعفهما معاً فحسب، بل وتهدم في نتائجها النهائية (أياً كان المنتصر) أي مشروع يسعيان لتحقيقه على أرض الواقع.
فلا البرهان متكئاً على حيطة الفلول المائلة يستطيع أن يحكم السودان.
ولا حميدتي مستنداً على عصبيته القبلية يستطيع أن يحكم السودان.
لأن الشعب اكتوى بجحيم حكم اللصوص القتلة المتأسلمون وأطاح بهم في ملحمة تاريخية بذل فيها الآلاف من أرواح أبنائه الزكية، وعودتهم في جكم الاستحالة.
أما دولة العصبية، قبلية وغير قبلية، فتتناقض وطبيعة تعدد وتنوع مكونات الشعوب السودانية الاثنية والثقافية من ناحية، كما تتناقض وطبيعة المزاج السوداني، كما تجلى تاريخياً في فشل دولة الخليفة عبد الله التعايشي. وإذا كان حميدتي يحلم بإقامة مملكة آل دقلو بحاضنة قبيلته، فإنه لن يكون أسعد حظاً من السيد عبد الرحمن المهدي وهو من هو.
فلا حميدتي يتمتع بالرصيد الوطني والإرث الأسري والقبول الذي يتمتع به السيد عبد الرحمن، ولا الظرف التاريخي اليوم مع تمدد الوعي الحداثي بين الناس مؤات لقبول فكرة مملكة أسرية مهما بلغ ثراءها.
17
باب حكم السودان حتى على افتراض انتصار أي منهما على الآخر مغلق تماماً في وجهيهما. وهذا، للمفارقة، من تداعيات ونتائج فوضى التحالفات الداخلية والخارجية المرتبكة التي أشرنا إليها في حديثنا السابق:
- مصر ستجد نفسها في "وحسة" إذا انتصر البرهان وفلول الكيزان، إذ أن يد السلطة/ الإسلاموية في الخرطوم ستمتد إلى إخوان القاهرة والجماعات الجهادية في صعيد مصر وفي سيناء، لتسبب صداعاً أمنياً، ليس لمصر وحدها بل ولإسرائيل عبر سيناء.
- أما إذا انتصر حميدتي وقحت، – مع ضعف هذا الاحتمال عسكرياً – سياسياً، عبر اتفاق توافقي للسلام، فسيجدان نفسيهما يخوضان صراع التناقض ما بين مصالح الدولة بالنسبة للطرف المدني، والمصلحة الخاصة بالنسبة لحميدتي. وذلك حين يُعاد النظر بالضرورة، في ما أبرمته حكومة الأمر الواقع العسكرية من اتفاقيات مع روسيا وتركيا ومصر والإمارات، ويجد حميدتي نفسه حينها في مواجهة تعقيدات تتعارض وتضر بمصالحه، في اتفاقياته المبرمة مع كل من روسيا والامارات. فضلاً عن ما أبرمه هو والبرهان من اتفاقيات مع دولة إسرائيل سياسياً وأمنيا/ استخباراتياً .
-ويبقى ملف سد النهضة الأثيوبي هو نقطة الالتقاء بينهما في اتجاهه شرقاً لصالح أثيوبيا. اضافة لإغلاق معابر تهريب الموارد السودانية نحو مصر.
- أما أمريكا والاتحاد الأوروبي، والصين وروسيا (فما فارقة معاهم)، فهم يشجعون (اللعبة الحلوة) لأنهم ليسوا على عجلة من أمرهم، وسيدعمون المنتصر من الفصيلين المتقاتلين في نهاية الأمر و (أنسى) شعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان الزائفة !!.
18
وإذن فالحرب ليست في صالحهما ولا تخدم مصالحهما، بل على العكس، إنها ستضعفهما معاً، وتُعري مزاعمهما الزائفة، سواء في الحرص على التوافق الوطني الشامل(البرهان). أو الحرص على الانتقال لمدنية الدولة (حميدتي).
كما أن تداعيات الحرب ستسهل عملية الاطاحة بهما معاً من ساحة المشهد السياسي، وتنزع عنهما شرعية المشاركة في الحكم بعد انتهائها، وانجلاء دخان مدافعها.
وفوق هذا وذاك فإن الحرب ستساهم في توحيد الفرقاء المدنيون وتزيد من تماسك قوى الثورة المتناثرة.
ويبرز السؤال متسربلاً بكل علامات التعجب والغرابة: لماذا خاضاها إذن، هذه الحرب العبثية اللعينة؟!.
ما الذي أغراهما بخوض غمارها رغم نتائجها وتداعياتها الكارثية عليهما معاً ؟!.
هل هما بهذا الغباء والجهل رغم ما استطاعا تحقيقه من سلطة ونفوذ وثراء عريض باستخدام أساليب التلوّن والدهاء والخداع ؟!.
19
لم يكونا غبيين ولكنهما سقطا في فخ ساحرهما الأعظم الذي علمهما السحر حين ظنَّا أنهما أسقطاه من عرشه البابوي وورثا ملكه، ولكنه تربص بهما، وهما يترنحان من نشوة السلطة المسكرة، وكان يراقبهما بتركيز من مكمنه في الهامش غير بعيد عنهما.
وبدأ يتحفز للانقضاض حين اشتد الخلاف بين رأسي المكون العسكري، وقد استغل هو الفجوة الشاغرة بين الجنرالين لـ"ينحشر" بينهما فيها، كحاضنة سياسية جماهيرية يستند عليها البرهان في محاولاته لإقصاء حميدتي حليفه اللدود، بعد ما خبر ضعف حلفاءه/ المؤقتون من قادة الحركات المسلحة الذين استعن بهم مرحلياً لإزاحة قوى الحرية والتغيير من المشهد.
ولأنه كان في أضعف حالاته عزلة بعد أن نحى جماعة الموز وقحت، في مواجهة الشارع الذي كان يزداد صلابة رغم استخدامه كل وسائل البطش الوحشية في مواجهة قوى الثورة الحية، وقع فريسة سهلة مستسلمة بين يدي الساحر الذي صنعه أول أمره.
والتفَّت حيَّة المافيا الإسلاموية حول جسد البرهان الخائر، وجردته بذكاء من سلطاته بدعوى قدرتها على تنظيم هذه الفوضى التي تلفه من كل جانب وتخلي له العرش خالصاً له.
20
وقريباً منه كان حميدتي يتابع ويرصد بعينٍ يقظة تحركات الفلول، وكان على علم بتفاصيل الصفقة بينهما، بل وعلى علم بخططهم لاغتياله هو وشقيقه، فأخذ يتحرك هو الآخر لتحصين مواقعه في السلطة.
وحدثت المفاصلة
ولأنه أذكى من البرهان فقد اتخذ تحركه اتجاهاً معاكساً نحو الشارع وقوى الثورة الحية، فقدم اعتذاراً واضحاً وشجاًعاً للشعوب السودانية عن صناعة انقلاب ٢٥أكتوبر، مبرراً ذلك بأنه خُدع مثل غيره بصدق توجه الانقلاب. ثم أخذ يتوعد الفلول في كل مناسباً محذراً من اضغاث أحلامهم بالعودة للحكم مرة أخرى، ثم أعلن التزامه الصارم بكل ما جاء في وثيقة الاتفاق الإطاري.
لقد أعلن انحيازه الكامل للثورة وشعاراتها وأهدافها. وكانت بالفعل "ضربة معلم" سياسية بلا أدنى شك. ولكن إلى أي مدى كان صادقاً في السير بهذا الالتزام إلى نهاياته ؟. فعلمه عند الله وفي ضمير صاحبه إن كان صادقاً أم كان مجرد حركة تكتيكية لكسب الوقت.
وأياً كانت أهدافه غير المعلنة، فإنها كانت خطوة ذكية يمكن أن تؤسس لرؤية استراتيجية تجد القبول من كافة القوى السياسية والمدنية، مضمونة النتائج.
ولكن ذلك لم يتحقق، وما كان له – بسبب عقليته، وبنية قواته القبلية – أن يتحقق، فممارسات قواته البربرية في وحشيتها وجلافتها في الشارع اقامت حاجزاً نفسياً وذهنياً بينها وبين الناس، وساوتها بالفلول وعسكرهم، فإذا أضفت دورها في فظائع دارفور وفض الاعتصام، ستتفهم ترحيب بعضهم بدعوة ياسر العطا الخبيثة المفخخة لتسليح الشعب ليشارك الجيش في حربه ضد الدعم السريع دفاعاً عن نفسه!.
21
نجح الترابي بامتياز في غرس فيروس الذكاء الشيطاني الخبيث في عقول تلاميذه / أتباعه. فقد استطاعوا أن يحكموا سيطرتهم تماماً على البرهان، ووضعوا يدهم على مفاتيح القرار السياسي والعسكري في الدولة، ولم يعد أمامهم سوى الاطاحة بحميدتي ليخلص لهم الحكم، أما عملية التخلص من البرهان فليست مشكلة ذات بال، وقد أعدوا بديله سلفاً، متمثلاً في الثلاثي (الكباشي، ياسر العطا وإبراهيم جابر).
22
كما نجحوا في غرس عدد من ضباطهم في صوف الدعم السريع بدعوى التدريب العسكري وتكتيكاته والاستفادة من الخبرات الاستخبارية. كما نجح كيزان المنشية في ذرع عدد من كوادرهم كمستشارين لحميدتي أمثال
(فارس النور) وهو كوز جناح الشعبي، و(عادل دقلو) وكان وزير الدولة بالسياحة، ووزير الدولة بالنقل، وهو عضو القطاع السياسي لأمانة الشباب بالمؤتمر الوطني، ( ود صباح الخير ) الذي كان امين قطاع الطلاب سابقاً ووزير الدولة بالاتصالات، و حاليا هو المستشار الاقتصادي لقوات الدعم السريع، و(ود السيد ) من سكان توتي و القيادي السابق بالمؤتمر الوطني حالياً هو رئيس لجنة الخدمات بقوات الدعم السريع، أما (ابو بركة) الذي كان والي ولاية النيل الابيض، يشغل منصب المستشار السياسي الثاني لحميدتي، و (ابو محمد ) الذي كان مديراً للمؤسسة الشبابية للانتاج الاعلامي بالمؤتمر الوطني وعضو المكتب التنفيذي لاتحاد الطلاب هو الان مدير المراسم لقائد قوات الجنجويد.
وتطول القائمة لتشمل منيدعى(حارب) امين أمانة الطلاب بجامعة بحري (جوبا سابقاً) هو الآن مدير مكتب زوجة عبدالرحيم دقلو، أما المدعو (عويس) أمين اعلام أمانة الشباب بالمؤتمر الوطني في النيل الابيض، فهو مدير النشر بالاعلام الالكتروني للجنجويد والمشرف على الإعلام الحربي.
وأما المدعو(بقاري) العضو السابق لأمانة الطلاب بالمؤتمر الوطني الآن هو مدير الإعلام قطاع الشرق بقوات الدعم السريع، والناطق غير الرسمي بإسم الدعم السريع (ربيع عبد المنعم) ، الذي خاض حرب الجنوب مجاهداً إسلاموياً حتى النخاع والشهادة ، ثم تحول بعد المفاصلة إلى منشياً ترابياً ، والآن متغلغلاً جنجويدياً. (1).
23
ولم يتبق أمام الساحر الإسلاموي سوى إشعال الحرب بين الفصلين، ليتم حرقهما معاً، ويقفز إلى السلطة بانقلاب أخير تحت غطاء كثيف من غبار ودخان المعارك. وقد تجح في إشعال نار الحرب التي تدور رحاها الآن بكفاءة وجدارة.
ما تسرب حتى الآن من سردية الحرب يجعلها أقرب ما تكون إلى "قصة موت معلن".
قبل (48) ساعة من اطلاق الرصاصة الأولى واندلاع الأحداث قالت قوى الحرية والتغيير ، إن عناصر حزب المؤتمر الوطني يسعون بشكل حثيث "لإثارة الفتنة بالوقيعة بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، ودق طبول الحرب" ليتسنى لهم العودة للسلطة. وأضافت "المخطط الحالي هو مخطط لفلول النظام البائد يهدف لتدمير العملية السياسية".
ومن جانبها كشفت منظمة الحارسات عن ان قيادات الفلول اجتمعت يوم الجمعة بمنطقة العيلفون ليعطوا الإشارة الختامية بتنفيذ جريمتهم فأجازوا قرار الحرب النهائي بالتنسيق مع شمس الدين كباشي وإبراهيم جابر ومفضل. وأشارت الحارسات إلى قوات تتبع للفلول في الجيش والأمن الشعبي، وهجمت على معسكرات الدعم السريع بجنوب الخرطوم (2).
24
ثمة عديد من الشواهد الموثقة التي تؤكد بأن فلول النظام البائد هم الذين اطلقوا الرصاصة الأولى وفرضوا الحرب على الفريقين، وأن الجيش كان مثل الزوج المخدوع آخر من يعلم. وما يدلك على ذلك أن رتباً عليا من قيادات الجيش والأمن بما فيهم "المفتش العام" للجيش و"مدير عام" معهد الاستخبارات على سبيل المثال ، وقعوا في الأسر. ما يدل على الجيش لم يكن على علم بأن هناك حربا وشيكة، وإذا قرنت ذلك بأن ليس هناك رفع لدرجة الاستعداد، وسط الجيش، إلى مائة بالمائة.
وكما يقول الخبير العسكري أحمد إدريس بأنه "يستحيل أن يخطط الجيش لهذا الهجوم ويتم الاستيلاء على المواقع الاستراتيجية كالقصر الرئاسي، واستهداف القيادة العامة والمطار وسقوط نحو 90% من القواعد الجوية بهذه السهولة" (3).
أضف إلى هذه الشواهد تصريحات الأمين العام المكلف للحركة الاسلامية علي كرتي، و تصريحات موثقة مصورة سواء من ناجي عبدالله، أو حتى عبر منشورات على مواقع التواصل الاجتماعي، فقد كتب القيادي عمار السجاد قبل أسبوع من الأحداث ناصحاً كل من يستطيع مغادرة العاصمة الخرطوم فليفعل، وهو ما يؤكد صلتهم بما يدور اليوم. كما قال محمد طاهر إيلا أمام أنصاره قبل أيام قليلة من بدء القتال،: "لا مكان فيه (السودان) للإطارية ولا لغيرها". وأضاف: "نحن أقدر من الأمس أن نحمل السلاح وأن نأخذ حقنا بأيدينا".
نجحوا، نعم، في إطلاق الحرب، ثم ماذا بعد؟. فهل سينجحون في استلام الحكم؟.
بناء على ما عرضناه هنا، واضح أنهم لن ينجوا في تحقيق ذلك.
إذن ما نتيجة هذه الحرب؟؟!!.
مصادر وهوامش
(1) نقلاً عن: " يخلق من الشبه جنرالين وحرب عدمية"، عمر الحويج، موقع صحيفة سودانايل الرقمي، بتاريخ، 10 مايو 2023م.
ما دفع الكاتب إلى موضعة الصراع بين الفصيلين العسكريين كصراع لتصفية الحسابات بين كيزان القصر(البرهان ولجنة البشير الأمنية) والمنشية (حميدتي ودعمه السريع) مستدلاً في ذلك بأن : "هذا الفصيل وجماعته هم الذين أوعزوا لحميدتي برفع شعارات الترابي عند المفاصلة ، لو تذكرونها ، حين أدعى ذات الترابي ، أن سبب المفاصلة هو، رفعه لشعار الحرية والديمقراطية والدولة المدنية، والشعار نفسه هو واحد من ثعلبية الترابي وحيله للوصول للسلطة".
(2) راجع: "الرصاصة الأولى ... كيف اشتعلت الحرب؟"، موقع الراكوبة الإلكتروني، بتاريخ، 8 أبريل 2023.
(3) راجع "الرصاصة الأولى .."، مصدر سابق.
izzeddin9@gmail.com
لا البرهان متكئاً على حيطة الفلول المائلة يستطيع أن يحكم السودان.
ولا حميدتي مستنداً على عصبيته القبلية يستطيع !!.
وبالتالي، ولا الفلول ... وقحت !!!.
فقد خسر الجميع، بما يفتح باب النجاح.
16
لو أن المرء تأمل المشهد من مسافة تتيح له رؤية الغابة بكليتها، دون أن يغرق في متاهة تفاصيلها الداخلية من أشجار وحشائش. يستطيع أن يرى بأن المسافة بين البرهان كقائد على رأس المؤسسة العسكرية وبين حميدتي كقائد لقوات الدعم السريع ليست كبيرة، والفجوة بينهما ليست بالعمق الذي لا يمكن ردمه سوى بالحرب.
فالحرب ليست في مصلحة أي منهما. كما أنها ليست في مصلحة قواهما المسلحة لأنها لا تضعفهما معاً فحسب، بل وتهدم في نتائجها النهائية (أياً كان المنتصر) أي مشروع يسعيان لتحقيقه على أرض الواقع.
فلا البرهان متكئاً على حيطة الفلول المائلة يستطيع أن يحكم السودان.
ولا حميدتي مستنداً على عصبيته القبلية يستطيع أن يحكم السودان.
لأن الشعب اكتوى بجحيم حكم اللصوص القتلة المتأسلمون وأطاح بهم في ملحمة تاريخية بذل فيها الآلاف من أرواح أبنائه الزكية، وعودتهم في جكم الاستحالة.
أما دولة العصبية، قبلية وغير قبلية، فتتناقض وطبيعة تعدد وتنوع مكونات الشعوب السودانية الاثنية والثقافية من ناحية، كما تتناقض وطبيعة المزاج السوداني، كما تجلى تاريخياً في فشل دولة الخليفة عبد الله التعايشي. وإذا كان حميدتي يحلم بإقامة مملكة آل دقلو بحاضنة قبيلته، فإنه لن يكون أسعد حظاً من السيد عبد الرحمن المهدي وهو من هو.
فلا حميدتي يتمتع بالرصيد الوطني والإرث الأسري والقبول الذي يتمتع به السيد عبد الرحمن، ولا الظرف التاريخي اليوم مع تمدد الوعي الحداثي بين الناس مؤات لقبول فكرة مملكة أسرية مهما بلغ ثراءها.
17
باب حكم السودان حتى على افتراض انتصار أي منهما على الآخر مغلق تماماً في وجهيهما. وهذا، للمفارقة، من تداعيات ونتائج فوضى التحالفات الداخلية والخارجية المرتبكة التي أشرنا إليها في حديثنا السابق:
- مصر ستجد نفسها في "وحسة" إذا انتصر البرهان وفلول الكيزان، إذ أن يد السلطة/ الإسلاموية في الخرطوم ستمتد إلى إخوان القاهرة والجماعات الجهادية في صعيد مصر وفي سيناء، لتسبب صداعاً أمنياً، ليس لمصر وحدها بل ولإسرائيل عبر سيناء.
- أما إذا انتصر حميدتي وقحت، – مع ضعف هذا الاحتمال عسكرياً – سياسياً، عبر اتفاق توافقي للسلام، فسيجدان نفسيهما يخوضان صراع التناقض ما بين مصالح الدولة بالنسبة للطرف المدني، والمصلحة الخاصة بالنسبة لحميدتي. وذلك حين يُعاد النظر بالضرورة، في ما أبرمته حكومة الأمر الواقع العسكرية من اتفاقيات مع روسيا وتركيا ومصر والإمارات، ويجد حميدتي نفسه حينها في مواجهة تعقيدات تتعارض وتضر بمصالحه، في اتفاقياته المبرمة مع كل من روسيا والامارات. فضلاً عن ما أبرمه هو والبرهان من اتفاقيات مع دولة إسرائيل سياسياً وأمنيا/ استخباراتياً .
-ويبقى ملف سد النهضة الأثيوبي هو نقطة الالتقاء بينهما في اتجاهه شرقاً لصالح أثيوبيا. اضافة لإغلاق معابر تهريب الموارد السودانية نحو مصر.
- أما أمريكا والاتحاد الأوروبي، والصين وروسيا (فما فارقة معاهم)، فهم يشجعون (اللعبة الحلوة) لأنهم ليسوا على عجلة من أمرهم، وسيدعمون المنتصر من الفصيلين المتقاتلين في نهاية الأمر و (أنسى) شعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان الزائفة !!.
18
وإذن فالحرب ليست في صالحهما ولا تخدم مصالحهما، بل على العكس، إنها ستضعفهما معاً، وتُعري مزاعمهما الزائفة، سواء في الحرص على التوافق الوطني الشامل(البرهان). أو الحرص على الانتقال لمدنية الدولة (حميدتي).
كما أن تداعيات الحرب ستسهل عملية الاطاحة بهما معاً من ساحة المشهد السياسي، وتنزع عنهما شرعية المشاركة في الحكم بعد انتهائها، وانجلاء دخان مدافعها.
وفوق هذا وذاك فإن الحرب ستساهم في توحيد الفرقاء المدنيون وتزيد من تماسك قوى الثورة المتناثرة.
ويبرز السؤال متسربلاً بكل علامات التعجب والغرابة: لماذا خاضاها إذن، هذه الحرب العبثية اللعينة؟!.
ما الذي أغراهما بخوض غمارها رغم نتائجها وتداعياتها الكارثية عليهما معاً ؟!.
هل هما بهذا الغباء والجهل رغم ما استطاعا تحقيقه من سلطة ونفوذ وثراء عريض باستخدام أساليب التلوّن والدهاء والخداع ؟!.
19
لم يكونا غبيين ولكنهما سقطا في فخ ساحرهما الأعظم الذي علمهما السحر حين ظنَّا أنهما أسقطاه من عرشه البابوي وورثا ملكه، ولكنه تربص بهما، وهما يترنحان من نشوة السلطة المسكرة، وكان يراقبهما بتركيز من مكمنه في الهامش غير بعيد عنهما.
وبدأ يتحفز للانقضاض حين اشتد الخلاف بين رأسي المكون العسكري، وقد استغل هو الفجوة الشاغرة بين الجنرالين لـ"ينحشر" بينهما فيها، كحاضنة سياسية جماهيرية يستند عليها البرهان في محاولاته لإقصاء حميدتي حليفه اللدود، بعد ما خبر ضعف حلفاءه/ المؤقتون من قادة الحركات المسلحة الذين استعن بهم مرحلياً لإزاحة قوى الحرية والتغيير من المشهد.
ولأنه كان في أضعف حالاته عزلة بعد أن نحى جماعة الموز وقحت، في مواجهة الشارع الذي كان يزداد صلابة رغم استخدامه كل وسائل البطش الوحشية في مواجهة قوى الثورة الحية، وقع فريسة سهلة مستسلمة بين يدي الساحر الذي صنعه أول أمره.
والتفَّت حيَّة المافيا الإسلاموية حول جسد البرهان الخائر، وجردته بذكاء من سلطاته بدعوى قدرتها على تنظيم هذه الفوضى التي تلفه من كل جانب وتخلي له العرش خالصاً له.
20
وقريباً منه كان حميدتي يتابع ويرصد بعينٍ يقظة تحركات الفلول، وكان على علم بتفاصيل الصفقة بينهما، بل وعلى علم بخططهم لاغتياله هو وشقيقه، فأخذ يتحرك هو الآخر لتحصين مواقعه في السلطة.
وحدثت المفاصلة
ولأنه أذكى من البرهان فقد اتخذ تحركه اتجاهاً معاكساً نحو الشارع وقوى الثورة الحية، فقدم اعتذاراً واضحاً وشجاًعاً للشعوب السودانية عن صناعة انقلاب ٢٥أكتوبر، مبرراً ذلك بأنه خُدع مثل غيره بصدق توجه الانقلاب. ثم أخذ يتوعد الفلول في كل مناسباً محذراً من اضغاث أحلامهم بالعودة للحكم مرة أخرى، ثم أعلن التزامه الصارم بكل ما جاء في وثيقة الاتفاق الإطاري.
لقد أعلن انحيازه الكامل للثورة وشعاراتها وأهدافها. وكانت بالفعل "ضربة معلم" سياسية بلا أدنى شك. ولكن إلى أي مدى كان صادقاً في السير بهذا الالتزام إلى نهاياته ؟. فعلمه عند الله وفي ضمير صاحبه إن كان صادقاً أم كان مجرد حركة تكتيكية لكسب الوقت.
وأياً كانت أهدافه غير المعلنة، فإنها كانت خطوة ذكية يمكن أن تؤسس لرؤية استراتيجية تجد القبول من كافة القوى السياسية والمدنية، مضمونة النتائج.
ولكن ذلك لم يتحقق، وما كان له – بسبب عقليته، وبنية قواته القبلية – أن يتحقق، فممارسات قواته البربرية في وحشيتها وجلافتها في الشارع اقامت حاجزاً نفسياً وذهنياً بينها وبين الناس، وساوتها بالفلول وعسكرهم، فإذا أضفت دورها في فظائع دارفور وفض الاعتصام، ستتفهم ترحيب بعضهم بدعوة ياسر العطا الخبيثة المفخخة لتسليح الشعب ليشارك الجيش في حربه ضد الدعم السريع دفاعاً عن نفسه!.
21
نجح الترابي بامتياز في غرس فيروس الذكاء الشيطاني الخبيث في عقول تلاميذه / أتباعه. فقد استطاعوا أن يحكموا سيطرتهم تماماً على البرهان، ووضعوا يدهم على مفاتيح القرار السياسي والعسكري في الدولة، ولم يعد أمامهم سوى الاطاحة بحميدتي ليخلص لهم الحكم، أما عملية التخلص من البرهان فليست مشكلة ذات بال، وقد أعدوا بديله سلفاً، متمثلاً في الثلاثي (الكباشي، ياسر العطا وإبراهيم جابر).
22
كما نجحوا في غرس عدد من ضباطهم في صوف الدعم السريع بدعوى التدريب العسكري وتكتيكاته والاستفادة من الخبرات الاستخبارية. كما نجح كيزان المنشية في ذرع عدد من كوادرهم كمستشارين لحميدتي أمثال
(فارس النور) وهو كوز جناح الشعبي، و(عادل دقلو) وكان وزير الدولة بالسياحة، ووزير الدولة بالنقل، وهو عضو القطاع السياسي لأمانة الشباب بالمؤتمر الوطني، ( ود صباح الخير ) الذي كان امين قطاع الطلاب سابقاً ووزير الدولة بالاتصالات، و حاليا هو المستشار الاقتصادي لقوات الدعم السريع، و(ود السيد ) من سكان توتي و القيادي السابق بالمؤتمر الوطني حالياً هو رئيس لجنة الخدمات بقوات الدعم السريع، أما (ابو بركة) الذي كان والي ولاية النيل الابيض، يشغل منصب المستشار السياسي الثاني لحميدتي، و (ابو محمد ) الذي كان مديراً للمؤسسة الشبابية للانتاج الاعلامي بالمؤتمر الوطني وعضو المكتب التنفيذي لاتحاد الطلاب هو الان مدير المراسم لقائد قوات الجنجويد.
وتطول القائمة لتشمل منيدعى(حارب) امين أمانة الطلاب بجامعة بحري (جوبا سابقاً) هو الآن مدير مكتب زوجة عبدالرحيم دقلو، أما المدعو (عويس) أمين اعلام أمانة الشباب بالمؤتمر الوطني في النيل الابيض، فهو مدير النشر بالاعلام الالكتروني للجنجويد والمشرف على الإعلام الحربي.
وأما المدعو(بقاري) العضو السابق لأمانة الطلاب بالمؤتمر الوطني الآن هو مدير الإعلام قطاع الشرق بقوات الدعم السريع، والناطق غير الرسمي بإسم الدعم السريع (ربيع عبد المنعم) ، الذي خاض حرب الجنوب مجاهداً إسلاموياً حتى النخاع والشهادة ، ثم تحول بعد المفاصلة إلى منشياً ترابياً ، والآن متغلغلاً جنجويدياً. (1).
23
ولم يتبق أمام الساحر الإسلاموي سوى إشعال الحرب بين الفصلين، ليتم حرقهما معاً، ويقفز إلى السلطة بانقلاب أخير تحت غطاء كثيف من غبار ودخان المعارك. وقد تجح في إشعال نار الحرب التي تدور رحاها الآن بكفاءة وجدارة.
ما تسرب حتى الآن من سردية الحرب يجعلها أقرب ما تكون إلى "قصة موت معلن".
قبل (48) ساعة من اطلاق الرصاصة الأولى واندلاع الأحداث قالت قوى الحرية والتغيير ، إن عناصر حزب المؤتمر الوطني يسعون بشكل حثيث "لإثارة الفتنة بالوقيعة بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، ودق طبول الحرب" ليتسنى لهم العودة للسلطة. وأضافت "المخطط الحالي هو مخطط لفلول النظام البائد يهدف لتدمير العملية السياسية".
ومن جانبها كشفت منظمة الحارسات عن ان قيادات الفلول اجتمعت يوم الجمعة بمنطقة العيلفون ليعطوا الإشارة الختامية بتنفيذ جريمتهم فأجازوا قرار الحرب النهائي بالتنسيق مع شمس الدين كباشي وإبراهيم جابر ومفضل. وأشارت الحارسات إلى قوات تتبع للفلول في الجيش والأمن الشعبي، وهجمت على معسكرات الدعم السريع بجنوب الخرطوم (2).
24
ثمة عديد من الشواهد الموثقة التي تؤكد بأن فلول النظام البائد هم الذين اطلقوا الرصاصة الأولى وفرضوا الحرب على الفريقين، وأن الجيش كان مثل الزوج المخدوع آخر من يعلم. وما يدلك على ذلك أن رتباً عليا من قيادات الجيش والأمن بما فيهم "المفتش العام" للجيش و"مدير عام" معهد الاستخبارات على سبيل المثال ، وقعوا في الأسر. ما يدل على الجيش لم يكن على علم بأن هناك حربا وشيكة، وإذا قرنت ذلك بأن ليس هناك رفع لدرجة الاستعداد، وسط الجيش، إلى مائة بالمائة.
وكما يقول الخبير العسكري أحمد إدريس بأنه "يستحيل أن يخطط الجيش لهذا الهجوم ويتم الاستيلاء على المواقع الاستراتيجية كالقصر الرئاسي، واستهداف القيادة العامة والمطار وسقوط نحو 90% من القواعد الجوية بهذه السهولة" (3).
أضف إلى هذه الشواهد تصريحات الأمين العام المكلف للحركة الاسلامية علي كرتي، و تصريحات موثقة مصورة سواء من ناجي عبدالله، أو حتى عبر منشورات على مواقع التواصل الاجتماعي، فقد كتب القيادي عمار السجاد قبل أسبوع من الأحداث ناصحاً كل من يستطيع مغادرة العاصمة الخرطوم فليفعل، وهو ما يؤكد صلتهم بما يدور اليوم. كما قال محمد طاهر إيلا أمام أنصاره قبل أيام قليلة من بدء القتال،: "لا مكان فيه (السودان) للإطارية ولا لغيرها". وأضاف: "نحن أقدر من الأمس أن نحمل السلاح وأن نأخذ حقنا بأيدينا".
نجحوا، نعم، في إطلاق الحرب، ثم ماذا بعد؟. فهل سينجحون في استلام الحكم؟.
بناء على ما عرضناه هنا، واضح أنهم لن ينجوا في تحقيق ذلك.
إذن ما نتيجة هذه الحرب؟؟!!.
مصادر وهوامش
(1) نقلاً عن: " يخلق من الشبه جنرالين وحرب عدمية"، عمر الحويج، موقع صحيفة سودانايل الرقمي، بتاريخ، 10 مايو 2023م.
ما دفع الكاتب إلى موضعة الصراع بين الفصيلين العسكريين كصراع لتصفية الحسابات بين كيزان القصر(البرهان ولجنة البشير الأمنية) والمنشية (حميدتي ودعمه السريع) مستدلاً في ذلك بأن : "هذا الفصيل وجماعته هم الذين أوعزوا لحميدتي برفع شعارات الترابي عند المفاصلة ، لو تذكرونها ، حين أدعى ذات الترابي ، أن سبب المفاصلة هو، رفعه لشعار الحرية والديمقراطية والدولة المدنية، والشعار نفسه هو واحد من ثعلبية الترابي وحيله للوصول للسلطة".
(2) راجع: "الرصاصة الأولى ... كيف اشتعلت الحرب؟"، موقع الراكوبة الإلكتروني، بتاريخ، 8 أبريل 2023.
(3) راجع "الرصاصة الأولى .."، مصدر سابق.
izzeddin9@gmail.com