قحت و الثورية طريقان متوازيان في الرؤية

 


 

 

 

أن استمرار الأزمات التي يعيشها السودان بعد نجاح الثورة، يعود لغياب الرؤية عند النخبة السياسية السودانية، و هذا كان متوقعا لسببين: الأول أن القوى السياسية رغم علو صوتها، لكنها كانت لا تملك أي مشروع سياسي كأحزاب منفردة أو متحالفة. و الثاني يرجع للقيادات نفسها التي صعدت لقمة الأحزاب، بأنها قد صعدت للقمة ليس عبر تنافس حزبي آهل القيادات ذات القدرات العالية فكريا و تنظيميا الصعود لقمة الهرم، و لكنها صعدت لقمة الأحزاب في ظروف غير طبيعية آهلت العناصر التي كان دورها تنفيذيا و تملك قدرات متواضعة الصعود للقمة، الأمر الذي جعل الشعارات تكون بديلا عن الاجتهادات الفكرية التي تحتاج إلي قدرات فكرية عالية و قاعدة معرفية واسعة، هذه القيادات فشلت أن تقدم أي تصورات للبناء و النهضة في البلاد، و فشلت حتى أن تفتح الباب لتقديم مبادرات من المجتمع. هذه القيادات بعد انتصار الثورة كان همها كيف تستطيع أن تحافظ علي السلطة في يدها، و تتحكم فيها كما تشاء و تنجز الفترة الانتقالية بتصورها، الأمر الذي خلق نزاعا داخليا في تحالف " قحت" لآن الكل كان يلهث وراء أن يكون جزءا من عملية التمكين الجديدة. لذلك قدمت " قحت" للحكومة ناشطين سياسيين تنقصهم الخبرات المطلوبة، رغم أن الفترة الانتقالية من أصعب مراحل البناء الوطني، تحول من ثقافة شمولية إلي ثقافة ديمقراطية. فشلت حكومة قحت في مهامها خاصة في إيجاد حل للأزمة الاقتصادية، و فشلت حتى في إدارة حوار مجتمعي يسهم في إرساء قواعد ديمقراطية في المجتمع.

في الجانب الأخر: تقاعست الجبهة الثورية التي تضم الحركات المسلحة، في العودة للبلاد و المشاركة في عملية التحول السياسي، و فضلت البقاء حتى تشكيل الحكومة لكي تجلس معها و تقدم طلباتها، و هذا يعود لغياب الرؤية السياسية عندها لأنها تعودت علي ثقافة نظام الإنقاذ أن تقدم طلبات و لا تشارك في صناعة القواعد التي يشيد عليها بناء الدولة الديمقراطية. لذلك نفضت يدها من تحالف " قحت " باعتبار أن قحت أنحرفت عن المسار السياسي و ركزت جهدها في عملية المحاصصة، عندما وجهت الحركات هذا الاتهام لقحت، كان المتوقع إنها لديها رؤية أخرى تتجاوز عملية المحاصصات إلي رؤية وطنية تكون فكرتها قائمة علي مشروع سياسي يركز علي عملية التحول الديمقراطي في البلاد، و هي الفكرة التي تحقق الحكم المدني دون الدخول في أي تجاذبات بين القوى الموجودة في الساحة مدنية أو عسكرية، لكن اتفاق جوبا كان أيضا حل أسس علي قاعدة من المحاصصات. معلوم أن اتفاق جوبا يحمل العديد من الثقوب. و لكنه يعد خطوة نحو السلام يجب التعامل معه بأفق أوسع و عقلية مفتوحة، أن يكون ورقة الجبهة الثورية و الشق العسكري في منظومة حوارية أوسع تضم عبد الواحد محمد نور و الحلو و القوى السياسية و الحوار المجتمعي، لكي تكتمل حلقة السلام. فغياب العديد من القوى السياسية و المكون المجتمعي جعل الاتفاق يحمل في أحشائه العديد من التناقضات و النواقص لسببين: الأول إنه اتفاق بين مجموعتين ذات تفكير واحد يتحكم فيها عقل البندقية، و غابت القوى السياسية و المكون المجتمعي الذي يشمل " الأكاديميين و المثقفين و شباب الثورة" أن الاتفاق نفسه كان ذو بعد سياسي يحول الصراع إلي منتصر و مهزوم، الأمر الذي جعل صعوبة عملية التواصل بين المجموعتين .
الذي يظهر علي المسرح السياسي الآن؛ أن الصراع بين مجموعات متباينة فكريا تمثل عقليتات مختلفة، و جميعهم ما يزالون يتعاملون من خلال الثقافة التي خلفها النظام الشمولي، أن تكون هناك قوى هي التي لها السطوة و القوة و التي تأمر و تنهي، و أخرى يجب أن تقدم فروض الولاء و الطاعة، و تنفيذ ما يطلب منها فقط، الأمر الذي خلق شقة واسعة بين الجانبين و استمرار الخلاف الحاد، هذه المشاكسة ترجع لاستبطان الثقافة الشمولية الموروثة، و هي التي تعقد المشهد السياسي. فتعليق حزب الأمة لنشاطة و فاعليته داخل قحت أثر سلبا في أداء التحالف، و جاء الآن خروج الحزب الشيوعي من تحالف قحت. إذا كان تعليق حزب الأمة و خروج الشيوعي يؤكد أن القوى التي ترفع شعارات الديمقراطية تؤكد علي ضيق المواعين الديمقراطية في مؤسساتها و تحالفها، و دلالة على ذلك أنها تتخذ مواقف دون أن تفتح حولها حوارا داخل التحالف، المسألة الأخرى إذا كان حزب الأمة أو الشيوعي يعتقدان أن شروطيهما يجب أن تقبل دون أي حوار مع الآخرين، حزب الأمة ينطلق من قاعدة الإمامة التي لها تصادم مع الثقافة الديمقراطية. و الحزب الشيوعي ينطلق من الديمقراطية المركزية أن يتحاور الناس و لكن القرار عند مجموعة ضيقة.
أن خروج حزبا الأمة و الشيوعي من تحالف " قحت" جعل التحالف يقف علي قاعدة اجتماعية ضيقة جدا، و أغلبية مكوناته هي قوى سياسية مرجعياتها و مسيرتها السياسية لديها خصومة مع الديمقراطية، الأمر الذي يجعلها أمام خيارين إما الخروج مع الذين خرجوا أو التحالف مع قوى جديدة، و التحالف سوف يجعلها قوى تابعة و ليست لها دور ريادي في العمل السياسي، و ضعف التحالف هو الذي كان سببا في ضعف الحكومة، و ختيار عناصر للحكومة ليست بقدر التحدي، ألأمر الذي وصم التحالف بالفشل، و إذا كانت قحت يعتقد إنها قدمت أفضل عناصرها للحكومة و فشلوا يكون ما تبقي لهم من عناصر ميؤس منهم.
في جانب أخر: إذا قرأنا ما كتبه الأستاذ صديق الزيلعي حول انسحاب الحزب الشيوعي، الذي قدم في عدد من التساؤلات المهمة التي تحتاج للرد و الحوار مع الفكرة، و موقفه المعارض لخروج الحزب من تحالف قحت. و معروف أن صديق الزيلعي خارج أسوار الحزب. لذلك لديه حرية الرآي التي لا يمتلكها منهم داخل الحزب. و إذا كان صديق ما يزال داخل المنظمومة الحزبية لن يكتب ما كتبه من رآي ينتقد فيه الحزب. و هنا يطرح سؤال إذا كان حزب يحجب رؤية عضويته عن القضايا المطروحة في الساحة السياسية، و يلزمهم فقط التقيد بقرار الحزب، كيف يستطيع أن يسهم في عملية الإنتاج الديمقراطي؟ و كيف يستطيع أن يتحاور مع المجتمع، و هي العملية المهمة في التخلص من الثقافة الشمولية. فإذا كان الحزب يضرب علي عضويته حصارا حديدا، يجعلهم كالبغبغاوات ينقلون ما يقوله الحزب دون السماع لرؤية الآخرين، و لذلك إذا أختلفت مع أي شيوعي في وجهة النظر يعتبرك عدو للحزب، أو أنك تمثل رؤية الدولة العميقة، لكي يغلق نافذة الحوار بينكم. لأنه ليس مطالب أن يحاور لكي يصل للحقيقة و إذا وجدها ينزل عندها، هو مطالب فقط بنقل بقرار الحزب و تبريره، تصبح رسالته مقيدة، و المقيد يكون قد عطل عقله تماما، نفس المسألة في حزب الأمة العضو لا يستطيع معارضة الأمام، لذلك لا تجد هناك مثقف أو ناشط سياسي في حزب الأمة يستطيع أن يعلق علي كتابات الإمام إلا مدحا، لآن نقد ما يقوله الإمام يشكل كوابح لصعوده للقيادة، و أيضا مع الميرغني، و البعث، و أيضا داخل الحركات و يؤكد ذلك حلات الانشقاقات داخل هذه الحركات و الأحزاب، أن ضيق المواعين الديمقراطية في المؤسسات السياسية السودانية، هو الذي يخلق تحدي حقيقي لعملية التحول الديمقراطي في البلاد من جانب، و في الجانب الأخر أن بقاء القيادات فترات طويلة في مواقعها يجعلها لا تفضل فتح حوارات فكرية بهدف مراجعات فكرية، و غياب الحوارات الفكرية؛ هي التي تتسبب في تنشئة سياسية ضعيفة، تكون أكثر ميلا للهتاف و تقديم فروض الولاء و الطاعة للقيادة من أن تثير القضايا الخلافية التي تحدث تطويرا داخل الحزب و عدم احتكارية القيادة لفترة طويلة.
أن القوى السياسية المطروحة في الساحة تلتقي مع الحركات المسلحة و حتى المكون العسكري، في نقص الثقافة الديمقراطية و قلة المواعين الديمقراطية، الكل يركز علي السلطة و كيفية احتكارها دون اعطاء حيز في التفكير لعملية التحول الديمقراطي، من خلال الخلاف السياسي الكل يحاول أن يفرض شروطه علي الآخرين، و يتخذ المواقف المتناقضة، عندما علق حزب الأمة نشاطه في قحت أتهم من قبل بعض القوى أنه يفتح المجال بهذا الموقف للقوى المضادة للثورة، ثم تتخذ القوى السياسية ذات الموقف الذي نقدته من قبل، و الغريب في الأمر كل عضويتها أيدتها أولا و اعتبرت خروج حزب الأمة يخدم عناصر الدولة العميقة. ثم فجأت يغيرون موقفهم مع حزبهم، كيف يستطيع هؤلاء أن يسهموا في العملية الديمقراطية. و الحركات المسحة تنقد قحت لأنها جرت وراء المحاصصة، ثم هي نفسها تتبنى المحاصصة و تبرر ذلك لأنها تريد أن تشارك في تنفيذ اتفاق السلام. محمد حمدان دلقو نائب رئيس مجلس السيادة يؤكد أن الصفوف تمايزت، هذا صحيح، و لأن آهل البندقية تكتلوا علي صعيد واحد في اعتقاد أنهم سوف يخدمون أهداف الثورة. رغم أن البندقية من المفترض أن تحمي سيادة البلد، و لكنها اصبحت هي المنطقة الرخوة في النسيج الوطني الذي يدخل من خلاله النفوذ الخارجي بكل رجال مخابراته، و لا يجدون حرج في ذلك أليست هذه تحتاج إلي وقفه، و أن يحدث الاختراق في القوات التي يجب أن تحمي الوطن منه. كل هذه التناقضات لا تجعلنا نحرد العمل السياسي، و لا نهرب من ساحة المعركة، بل هي الفترة التي تحتاج إلي مراجعات حقيقية، و الحديث المباشر بعيدا عن التورية و المجاز، و فتح كل الأبواب من أجل الحوار الوطني و الوصول لتوافق وطني يعاضد الديمقراطية، و يجب أن نذكر قيادات الأحزاب يمينا أو يسارا أن محاولة فرض الشروط تعتبر خطوة لتعبيد طريق الشمولية، أي حزب يجب أن يطرح برنامج للساحة للحوار. و نسأل الله حسن البصيرة.
zainsalih@hotmail.com

 

آراء