قراءة لمضمون رسالة الشهيد تبيدي من منظور سوسيلوجي

 


 

 

يقول عالم الاجتماع الطاهر لبيب:(عندما تحاصر الشرطة تظاهرة، فهي لا تحاصر المتظاهرين الذين قد تكون متعاطفة معهم بقدر ما تحاصر الدلالة التي يعطونها لتظاهراتهم. إن محاصرة الدلالة هي هنا وسيلة لتعديل الفعل ) " نقلا عن كتاب أنتوني غدنز علم الاجتماع ترجمة فايز فايز الصباغ ص 82" قد يكون لبيب محق في أن دلالة التظاهرة هي أكثر ما يغض مضاجع الطغاة لما تحمله من مضمون رافض لوجودهم في سدة الحكم، ولكل المسوغات التي يحاولون أن يبرروا بها وجودهم في السلطة، لاسيما عندما يكون الرفض مطلق وجامع ونابع من كل الفئات المجتمعية... ويتأكد ذلك الرفض من حالة عامة تسود الواقع بالتأكيد عليه أي على الرفض في كل وقت وحين...
الرسالة التي نُقلت عبر وسائل التواصل الاجتماعي عن الشهيد محمود تبيدي هي أحد أهم أدوات التعبير عن حالة الرفض المطلق لسلطة غاشمة باطشة تحاول أن تستدعي الشرطة لمحاصرة "الدلالة" كما سماها لبيب عبر قمع المتظاهرين، بل وأكثر من ذلك عبر قتلهم كلما كان ذلك ممكناٌ... وقد استبطنت رسالة الشهيد استقراء لهذا المآل بصورة واضحة لا لبس فيها، فهي قد نقلت وبلا مواربة انفتاح مصاريع الموت في حالة خروجه في التظاهرة، بشكل أقرب الي اليقين، كما أنه حمّل الرسالة وصية مفارق بطلب العفو إن كان هنالك ثمة من يحمل نوعاّ من الزعل أو العتب عليه...
بتحليل مضمون الرسالة من منظور سوسيلوجي لابد هنا من استدعاء عدة العالم اللغوي رومان جاكبسون R Jacobson صاحب نظرية التواصل التي أسسها على ستة عناصر أساسية هي (الرسالة، المرسِل أو المتكلم، المرسَل إليه أو المتلقي، السُنن أو الشفيرة ، قناة الإتصال و السياق.) المتأمل في رسالة الشهيد يجدها قد توافرت على هذه العناصر الستة لإكمال عملية التواصل... ففيما هو واضح أننا إزاء رسالة مكتوبة من مرسل وهو الشهيد تبيدي الي متلقي وهم جموع القراء، عبر شفيرة وهي اللغة بكل ما تحويه من معاني ومضامين، وعبر قناة ناقلة للرسالة وهي وسائل التواصل الاجتماعي Scoial media في سياق ثوري يحمل كل معاني الرفض الحرون لسلطة ديكتاتورية غاشمة. فبالرغم من توافر تلك العناصر، إلا أن عملية التواصل عند جاكبسون ليست معلقة في الهواء أو بلا غرض، وإنما من أجل وظائف محددة حصرها في أن تكون الرسالة تعبيرية Expressive أو انفعالية مشحونة بنوع من العاطفة حيث يؤكد أن صاحب الرسالة هنا يكثر من استخدام ضمير المتكلم وقد يُلاحظ في رسالة الشهيد تبيدي أنها استجابت لهذا الشرط في قوله: (لو اختارنا الموت ح يختارنا بشرف.. ولو ح نعيش ح نعيش بشرف.. لو في زول زعلان مننا اعفو لينا ... وهكذا ) كما أن هناك الوظيفة الانتباهية Attention بأن الموت متربص بكل من يريد الخروج... وأهم من ذلك الوظيفة الافهامية Conative والتي تكثر فيها ضمائر المخاطب في قوله :( أعفو لينا... استودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه) وفي هذا المقام تقول الباحثة إسراء أبو رنة ومن أفضل الأمثلة على هذه الوظيفة القصائد والكتابات التي تعالج موضوعات كالثورة والانتفاضة؛ إذ أن هذا النوع من الأدب يقوم على مخاطبة الآخر، ويحاول التأثير فيه و اقناعه واثارته. وبالفعل فإن رسالة الشهيد تبيدي على قصرها وبساطتها قد استجابت لكل اشتراطات الرسالة ذات المضمون في سياق ثوري على سلطة باطشة لا تتورع من القتل... غير أن كاتبها ومع تمام إدراكه لكل المخاطر التي ينطوي عليها الخروج، فإن شيئاّ لن يثني عزمه حتى لو كان في ذلك موته. فالموت هنا ليس فقط للتخلص من الثوار ، وإنما للتخلص من رمزية ودلالة ما ينطوي عليه الخروج. كما أن الموت في نهاية الرسالة عند الشهيد أقرب للحتمية منه الي الإحتمالية : (استودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه وبإذن الله منتصرين وما ناقصين... قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا) وبهذا اليقين تكون الرسالة قد تكاملت من حيث العناصر والوظائف التي كُتبت من أجلها تعبيراً وتنبيهاً وافهاماً تماماً كما وصفها العالم اللغوي رومان جاكبسون.
د.محمد عبد الحميد

 

آراء